الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مظاهر المماطلة والتسويف وأنواع الضرر المترتب عليه وتحته مطلبان:
المطلب الأول: مظاهر المماطلة والتسويف:
للمماطلة مظاهر وأساليب يستخدمها ضعاف النفوس وربما يحصل تسويف عند الوفاء بسبب ظروف تطرأ على التعامل بين الطرفين. وعدم التسديد والوفاء يحصل إما بالامتناع كليا أو بالإهمال والتسويف أو بجحود بعض الحق.
1 -
الامتناع كليا عن الوفاء بالدين لصاحبه: من صور المماطلة أن يمتنع من عليه الحق في الوفاء والتسديد لصاحب الحق كليا، وهذا الامتناع يحصل إذا لم يكن لصاحب الحق دليل وحجة يمكن أن يلزم بها المدين، فحينئذ ربما يمتنع المدين عن التسديد ويجحد هذا الدين وينكره لسوء نيته وقلة مراقبته، وضعف خشيته من الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، مع علمه بأن الدائن له حق بذلك. والجحود هو الإنكار مع العلم به (1).
قال الراغب الأصبهاني: الجحود نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه (2).
وقال العلامة ابن القيم: لا يكون الجحد إلا بعد الاعتراف بالقلب
(1) انظر: المصباح المنير (1/ 112)، كشاف اصطلاحات الفنون (1/ 192) و (2/ 1437).
(2)
المفردات ص 121.
أو اللسان. وعلى هذا لا يحسن استعمال لفظ الجحود في مطلق الإنكار في باب الدعاوى وغيرها؛ لأن المنكر قد يكون محقا فلا يسمى جاحدا (1).
ولهذا يقول النووي في معنى الجاحد من أنكر شيئا سبق اعترافه به (2).
فإذا أنكر المدين الدين وجحده فقد تعذر حصول الدائن على دينه ولا شك أن فعل المدين إثم وكبيرة يخشى عليه منها ولهذا قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (3) قال ابن عباس رضي الله عنه: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل حرام (4).
ربما يكون امتناعه عن الوفاء بالدين ليس لأجل عدم وجود بينة عند الدائن؛ ولكن لأن المدين ربما يكون صاحب نفوذ، أو أن الدائن يكون له مصلحة عند المدين، فيخشى أن لو تقدم بالمطالبة بدينه الذي على المدين، لحصل له ضرر وترتب على ذلك ترك المدين التعامل معه، مثل أصحاب الوكالات مع الموزعين المعتمدين فلربما يكون لأصحاب الوكالات في المناطق مع الموزع المعتمد في الدوقة حقوق وديون متراكمة
(1) بدائع الفوائد (4/ 118).
(2)
انظر: تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 50.
(3)
سورة البقرة الآية 188
(4)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 225).
ويمانع الموزع من تسديده، ولأصحاب الوكالات مصالح وعلاقة مع الموزع، فيضطرون لترك حقوقهم لما يحصل لهم من مصالح وعلاقات مع الموزع المعتمد.
وربما يكون امتناعه عن الوفاء أيضا لعلمه أن مطالبة الدائن تحتاج إلى وقت وجهد ومال، خاصة في ظل غياب الإجراءات النظامية، والقوانين الحاسمة، فيلجأ ضعاف النفوس إلى الامتناع كليا عن أداء الحقوق المتراكبة عليهم.
ب - تأخير الوفاء به لوقت لاحق أو بعضه:
في أحيان كثيرة لا يمانع الدين بالدين وربما أعطى الدائن بعض حقه غير أنه ربما يسوف في التسديد، ويتأخر في الوفاء، إما طمعا في حصول إرادات مالية عند توظيفه لهذه الأموال بدلا من إعطائه الدائن، واستفادة من السيولة التي عنده، وربما يبقيها عنده تحسبا لمتغيرات الحياة الاقتصادية والعالمية. فيتأخر ويؤجل سداد الديون الحالة إلى تاريخ لاحق.
وربما يتعرض لنقص في السيولة أو لعدم تصريف بضاعته التي أخذها بالدين أو بالتصريف، فيضطر إلى تأخير الوفاء لبعض الأقساط الحالة لوقت لاحق. كما سوف يأتي تفصيله في الفصل الثاني.
ومما يدخل في هذا أيضا ما ذكره محمد العبدلي المعروف بابن الحاج المالكي في المدخل بقوله: " ومنهم من يكون قادرا على إعطاء الثمن كله في الوقت ثم إنه يقطعه على صاحبه مرارا كثيرة وهذا ملتحق بما تقدم لقوله
- صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم (1)» إذ لا فرق بين المطل بجميع الثمن أو بعض لأن البائع يتضرر بتأخير بعضه، كما يتضرر بتأخير كله غالبا ومنهم من يفرق الثمن على مرات عديدة كما تقدم وقصده بذلك أن يضجر البائع من كثرة التردد إليه سيما إن كان غريبا يقصد السفر فيفعل المشتري ذلك معه حتى يضطر إلى أن يترك له بعض الثمن الذي ترتب في ذمته، ليتخلص منه ويذهب لشأنه، وأما إن كان البيع وقع بينهما على التأجيل فإذا حل الأجل المعين بينهما صار الحكم في ذلك حكم الحال سواء بسواء (2).
ج - جحود بعض الحق وإقرار بعضه:
بعض التعاملات التجارية تحصل بين التجار أخذا وإعطاء كما يسميه الفقهاء بيع المعاطاة ويكون سبب هذا كثرة التعاملات والمبادلات التجارية التي ربما تكون في اليوم الواحد أكثر من عشرين عملية تجارية تحصل بين الطرفين، وفي أحيان كثيرة يحصل اختلاف وجحود لدى بعض المتعاملين في بعض الصفقات التجارية، وليس عند الطرف الآخر ما يثبت حقه، فيؤدي ذلك إلى جحود بعض الحق، وإقرار بعضه، أو يكون ثمة
(1) صحيح البخاري الحوالات (2288)، صحيح مسلم المساقاة (1564)، سنن الترمذي البيوع (1308)، سنن النسائي البيوع (4691)، سنن أبي داود البيوع (3345)، سنن ابن ماجه الأحكام (2403)، مسند أحمد (2/ 465)، موطأ مالك البيوع (1379)، سنن الدارمي البيوع (2586).
(2)
انظر: المدخل (4/ 59).