المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٧٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌الصلاة على الميت الصف عن يمين الإمام فيها

- ‌الصلاة على الحائض والنفساء في المسجد

- ‌المقتول في الزنا أو غيره من الحدود

- ‌هل يصلى على المتخلف عن الجماعة من غير عذر

- ‌رفع الصوت حال اتباع الجنازة

- ‌جواز إدخال الأجنبي المرأة في قبرها، وخلعه عقد أكفانها

- ‌هل يجوز الدعاء عند قبر الميت بعد دفنه

- ‌تشجير المقابر وإضاءتها وترخيمها لا يجوز

- ‌وجوب تعدد المقابر في نواحي مكة

- ‌إذا بلي الميت في قبره جاز أن يدفن فيه غيره

- ‌المقابر والطرق والأسواق لها أحوال

- ‌نقل من دفن في أرض مملوكة

- ‌صورة الجواب

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌ زكاة الدين الذي لم يوف

- ‌ لي دين عند أحد الإخوة، هل يلزمني زكاته، أو أن هناك وقتا محددا لذلك

- ‌ الزكاة في الدين المؤجل

- ‌أقوال العلماء حول كون الدين مانعا من الزكاة

- ‌الديون لا تمنع الزكاة ولو كانت أكثر من المال الموجود

- ‌ إذا كان لدي مبلغ من المال وحال عليه الحول، وعلي التزام تسديد صندوق التنمية العقاري

- ‌المقرض يزكي القرض إذا كان عند مليء

- ‌ هل في القرض زكاة

- ‌بهيمة الأنعام إذا لم تكن سائمة أغلب الحول فلا زكاة فيها

- ‌ ضم بعض المواشي إلى بعض لتكمل نصابا

- ‌أحكام خلطة المواشي

- ‌تجب الزكاة فيما أعد للتجارة من بهيمة الأنعام ولو كانت معلوفة

- ‌ ضرب الوالي قيمة محددةلعين ما يجب إخراجه من بهيمة الأنعام

- ‌ هل على الخضار والفواكه زكاة

- ‌الزكاة تجب في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر وينتفع بها حالا ومآلا

- ‌ الزكاة في التين والزيتون

- ‌ الزكاة في البصل

- ‌ما يشترط لوجوب الزكاة في محصول المزرعة

- ‌ما يسقى بالأمطار والأنهار فيه العشروما يسقى بالمكائن فيه نصف العشر

- ‌ما اشتري من الحبوب قوتا لا تجب فيه الزكاة

- ‌العمدة في معرفة الأنصبة صاع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌نصاب النقدين

- ‌ أملك خمسة وثمانين جراما من الذهب، ما هو مقدار الزكاة

- ‌ مقدار الذهب الذي يجب إخراج زكاته؟ وهل كل حلي المرأة ليس عليه زكاة

- ‌ ما هو نصاب زكاة الفضة بالريال السعودي في وقتنا الحاضر

- ‌إذا بلغ النقدان النصاب ففيهما ربع العشر

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ

- ‌ قام المسلم من نومه وأدخل يديه في الماء قبل أن يغسلهما ثلاث مرات، فهل يصلح هذا الماء للوضوء

- ‌ لا ينبغي للمسلم أن يدخل الخلاء بشيء فيه ذكر الله

- ‌قد كتب عليه لفظ الجلالة وأنا ألبسه دائما في الليل والنهار، فهل حرام أن أدخل به دورة المياه

- ‌ هل يلزم المرأة مسح جميع رأسها عند الوضوء

- ‌ هل لمس عورة الطفل ينقض الوضوء

- ‌ مصافحة النساء

- ‌ الوضوء في الحمام

- ‌ التسمية عند الوضوء

- ‌ دائما في حالة شك وإذا توضأت أشك هل أنا بقيت على وضوئي أو لا

- ‌ هل يجوز للمرء أن يقرأ القرآن من المصحف بدون وضوء

- ‌ هل التيمم لصلاة النافلة يمكن أن يصلي به الإنسان الفريضة

- ‌ هل غسل الرأس يدخل في الغسل من الجنابة أو الغسل للجسم فقط

- ‌ قراءة القرآن الكريم إذا كانت المرأة في عذرها

- ‌ إذا طهرت المرأة في وقت الظهر، هل تصلي الفجر والظهر جميعا

- ‌ ينزل علي بعد الطهر شيء يسير وقد لا ينزل، فهل يصح غسلي

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ الصلاة بدون طهارة

- ‌ صلى الفرد وهو غير متوضئ وتذكر في نفس الصلاة سواء كان إماما أو مأموما

- ‌ الموجب للاستنجاء خروج شيء من القبل أو الدبر

- ‌ لاحظت وجود مني في إزاري، فاغتسلت وصليت المغرب ولكني لا أعلم متى حصل الاحتلام:

- ‌ أثناء الصلاة أصبح يخرج مني نزيف دم من مكان خلع الضروس وهو دم كثير

- ‌ نزل مني نزيف وأنا في الصلاة في الصف الأول

- ‌ تجوز الصلاة بعد الطهارة فروضا ونوافل ولو لم ينوها عند الوضوء

- ‌ بال ولم يستنج ثم توضأ وصلى فهل صلاته صحيحة

- ‌ رأى المسلم في ثوبه أو بدنه نجاسة بعد ما فرغ من الصلاة

- ‌ صلى الإنسان في أرض طاهرة وشك في طهارة ما أمامه بقدر شبر

- ‌ هل يصلي الرجل في الثوب الذي جامع زوجته فيه

- ‌ من صلى وعليه ثوب نجس ولم يتذكر إلا وهو في الصلاة

- ‌ رجل صلى وفي آخر الصلاة جاء طفل وبال على مكان سجوده وهو في صلاة الجماعة قبل آخر سجدة

- ‌ يواظب على الصلاة المكتوبة في الحمام

- ‌ دخول المساجد بالأحذية والصلاة فيها

- ‌أقسام الناس في الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المقدمة:

- ‌المبحث الأول: معنى القضاء والقدر والفرق بينهما

- ‌المطلب الأول: تعريف القضاء

- ‌المطلب الثاني: تعريف القدر

- ‌المطلب الثالث: الفرق بين القضاء والقدر

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المطلب الأول: الأدلة من الكتاب:

- ‌المطلب الثاني: الأدلة من السنة

- ‌المطلب الثالث: أقوال بعض الصحابة والتابعين

- ‌المبحث الثالث: أقسام الناس في الإيمان بالقضاء والقدر

- ‌المطلب الأول: الجبرية

- ‌ عقيدتهم في القدر:

- ‌المطلب الثاني: القدرية

- ‌ التعريف بهم:

- ‌ عقيدتهم في القدر:

- ‌ شبهاتهم والردود عليها:

- ‌الشبهة الأولى:

- ‌الشبهة الثانية:

- ‌الشبهة الثالثة:

- ‌الشبهة الرابعة:

- ‌المطلب الثالث: قول أهل السنة والجماعة

- ‌الخاتمة:

- ‌الولاء والبراءوأحكام التعامل مع الكفار والمبتدعة والفساق

- ‌المبحث الأول: تعريف الولاء والبراء وبيان حكمهما

- ‌المبحث الثاني: مظاهر الولاء المشروع والولاء المحرم

- ‌المطلب الأول: مظاهر الولاء المشروع

- ‌المطلب الثاني: مظاهر الولاء المحرم

- ‌القسم الأول: الموالاة الكفرية

- ‌القسم الثاني: المولاة المحرمة غير الكفرية:

- ‌المبحث الثالث: ما يجوز أو يجب التعامل به مع الكفار مما لا يدخل في الولاء المحرم

- ‌القسم الثاني: الذميون:

- ‌القسم الثالث: المستأمنون

- ‌القسم الرابع: الحربيون:

- ‌حكم مصليات الأعيادوهل تأخذ حكم المساجد

- ‌المبحث الأول: تعريف المساجد وبيان بعض أحكامها

- ‌المبحث الثاني: مصليات الأعياد وأحكام المساجد

- ‌المبحث الثالث: استبدال الوقف إذا تعطلت منافعه

- ‌المبحث الرابع: استبدال أو بيع مصليات الأعياد عند الاستغناء عن الصلاة فيها

- ‌أهم النتائج:

- ‌المماطلةمظاهرها وأضرارها وأنواعها وأسبابها في الفقه الإسلامي

- ‌المقدمة:

- ‌المطلب الأول: تعريف المماطلة في اللغة والاصطلاح:

- ‌المطلب الثاني: تعريف الحقوق في اللغة والاصطلاح:

- ‌المطلب الثالث: أسباب شيوع ظاهرة الاستدانة:

- ‌المبحث الأول، وجوب إبراء الذمم من الحقوق

- ‌المطلب الأول: أهمية إبراء الذمم من الحقوق

- ‌المطلب الثاني: أنوع الحقوق:

- ‌القسم الثاني: حق خالص للعباد:

- ‌القسم الثالث: ما اجتمع فيه الحقان، وكان حق الله هو الغالب

- ‌القسم الرابع: ما اجتمع فيه الحقان، وحق العباد فيه غالب:

- ‌ثانيا: تقسيم الحق باعتبار متعلق الحق

- ‌أولا: الحق المالي:

- ‌ثانيا: الحق غير المالي:

- ‌المطلب الثالث: أهمية توثيق الحقوق ووسائلها:

- ‌المطلب الأول: مظاهر المماطلة والتسويف:

- ‌المطلب الثاني: أنواع الضرر المترتب على المماطلة:

- ‌المبحث الثالث: أنواع المطل

- ‌المطلب الأول: مطل المدين المعسر:

- ‌المطلب الثاني: مطل المدين الغني المعذور:

- ‌المطلب الثالث: مطل المدين الموسر بلا عذر:

- ‌المبحث الرابع، أسباب المطل

- ‌المطلب الأول: أسباب تعود إلى من عليه الحق:

- ‌المطلب الثاني: أسباب تعود إلى صاحب الحق:

- ‌المطلب الثالث: أسباب تعود إلى العلاقة بينهما:

- ‌المطلب الرابع: أسباب تعود إلى غير ما سبق:

- ‌الخاتمة

- ‌العقلتعريفه، منزلته، مجالاته، ومداركه

- ‌المسألة الأولى: تعريف العقل لغة واصطلاحا:

- ‌أولا: العقل في اللغة:

- ‌ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا:

- ‌المسألة الثانية: منزلة العقل في الإسلام:

الفصل: ‌ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا:

الخطاب رضي الله عنه من قوله " عقلناها "، في قوله:«إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم؛ قرأناها، ووعيناها، وعقلناها (1)» .

و" عقلناها ": أي فهمناها، وضبطناها، وأمسكناها.

فما سمي العقل عقلا إلا لأنه يمسك ما علمه، ويضبطه، ويفهمه؛ فيقال: عقل الشيء، إذا فهمه، فهو عقول.

وعقل الشيء، إذا علمه، أو علم صفاته؛ من حسن وقبح، وكمال ونقصان، فأمسكها، وأمكن أن يميز بين القبيح والحسن، والخير والشر (2).

فالعاقل خلاف الجاهل؛ يحبس نفسه، ويمنعها عما يوبقها، ويردها عن هواها، ويمسك ما يعلمه، ويميز بين ما ينفعه وما يضره، في عاجله وآجله.

(1) صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.

(2)

الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مصدر سابق، مادة العقل.

ص: 344

‌ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا:

تنوعت التعريفات المقولة في العقل، واختلفت، وأغلبها عليه ملاحظات (1).

والتعريف الذي اخترته تفصيلي، يشتمل على أربعة معان قيلت في

(1) ابن حسن، 1412 هـ، 1/ 157، 158.

ص: 344

العقل، لا ينفك واحد منها عن الآخر، متى فقد واحد منها قيل لصاحبه: ليس له عقل:

المعنى الأول: الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان؛ فبها يعلم، وبها يعقل، وبها يميز، وبها يقصد المنافع دون المضار.

يقول أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) عن هذا المعنى، إنه:(الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية)(1).

ويقول الماوردي (ت 450 هـ): (فالغريزي هو العقل الحقيقي، وله حد يتعلق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان)(2).

ويقول الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ): (فأما هو في المعنى

(1) الغزالي، 1406 هـ، ص 58.

(2)

الماوردي، 1407 هـ، ص 6.

ص: 345

والحقيقة لا غيره، فهو غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا بحس، ولا ذوق، ولا طعم. وإنما عرفهم الله سبحانه وتعالى إياه بالعقل منهم؛ فبذلك العقل عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم، بمعرفة ما ينفعهم، ومعرفة ما يضرهم) (1).

فبإمكان العباد أن يطلعوا بعقولهم على هذه الغريزة؛ أهي موجودة عند فلان، أو ليست كذلك، بالنظر إلى أفعال جوارحه؛ فـ (إذا رأوا من أفعاله ما يدلهم على أنه قد عرف ما ينفعه في دنياه وما يضره، وإذا رأوه طالبا عاملا فيما ينفعه من دنياه، مجانبا لما يضره من دنياه، سموا من كان كذلك: عاقلا، وشهدوا له أن له عقلا، وأنه لا مجنون، ولا تياه، ولا أحمق)(2).

ويمكن الاستئناس في بيان بعض هذه الصفات - التي تمكن ملاحظتها في العاقل - بقول ابن القرية (ت 84 هـ): (الرجال ثلاثة:

(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 17.

(2)

المحاسبي، مصدر سابق، ص 18.

ص: 346

عاقل، وأحمق، وفاجر: فالعاقل إن كلم أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع وعى. والأحمق إن تكلم عجل، وإن تحدث وهل (1)، وإن حمل على القبيح فعل .. ) (2).

وكلام ابن تيمية عن الفرق بين المجنون والعاقل يشبه هذا الكلام، ومنه قوله:(فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل. أما من فهم الكلام، وميز بين ما ينفعه وما يضره، فهو عاقل)(3).

يقول أحد الشعراء معددا بعض الصفات التي يستدل بها على عقل العاقل:

يعرف عقل المرء في أربع

مشيته أولها، والحرك

ودور عينيه، وألفاظه

بعد عليهن يدور الفلك

وربما أخلفن إلا التي

آخرها منهن سمين لك (4)

فهذه بعض صفات من وهبه الله المعنى الأول من معاني العقل - وهو الغريزة -: فهم الخطاب، ورد الجواب، وصلاح المشية، واتزان الحركات، واستقرار العينين، ونحو ذلك.

(1) ضعف، وجبن، وفزع. (أنيس ورفاقه، 1972م، ص 1060).

(2)

ابن أبي الدنيا، 1409 هـ، ص 47.

(3)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 1404، 9/ 287

(4)

ابن عبد ربه، 1404 هـ، 2/ 106.

ص: 347

وهذه الغريزة، التي هي إحدى معاني العقل، شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط التكليف؛ فإذا عدمت في الإنسان، سقطت عنه التكاليف الشرعية.

وفي ذلك يقول الحارث المحاسبي (ت 243 هـ): (فالعقل غريزة، جعلها الله في الممتحنين من عباده؛ أقام به على البالغين للحلم الحجة، وأنه خاطبهم من جهة عقولهم، ووعد، وتوعد، وأمر، ونهى، وحض، وندب)(1).

وهذا العقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوما يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره.

وعن هذا المعنى نفسه، يقول ابن تيمية (ت 728هـ):(العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوه فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين)(2).

ويلاحظ تشبيهه العقل بالبصر.

وقد سبقه إلى هذا التشبيه البليغ قوم، قالوا عن العقل:(هو نور وضعه الله طبعا وغريزة، يبصر به، ويعبر به. نور في القلب، كالنور في العين، وهو البصر .. )(3).

(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.

(2)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 3/ 338.

(3)

المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.

ص: 348

لكن هذا البصر إن اتصل به نور الشمس، أو ضوء النار، صار أشد قوة وإبصارا، وإن انفرد بنفسه، ضعف.

كذلك صاحب العقل إن وصله بنور الإيمان والقرآن، اهتدى وسعد. وإذا لم يتصل بهما عجز عن إدراك الأمور التي لا يكمن أن يستقل بإدراكها.

وهذا معنى قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل، إنه:(بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها)(1).

وهذا التشبيه الرائع من ابن تيمية - وممن سبقه - ينطبق على أولئك الذين اعتصموا بالكتاب والسنة، وعلى مخالفيهم الذين اتكلوا على عقولهم، معرضين عن الاهتداء بنور الوحي، فعموا عن الحق، وضلوا عنه، وآل أمرهم إلى التخبط والحيرة.

ويصدق علمهم قول الله عز وجل عن بنى أدم عليه السلام: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2){وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3){قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (4){قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (5)

(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى؛ مصدر سابق، 3/ 339.

(2)

سورة طه الآية 123

(3)

سورة طه الآية 124

(4)

سورة طه الآية 125

(5)

سورة طه الآية 126

ص: 349

المعنى الثاني: العلوم التي تلازم الإنسان العاقل؛ فتقع في نفسه ابتداء، ولا تنفك عن ذاته؛ كالعلم بالممكنات، والواجبات، والممتنعات.

وهذا معنى من معاني العقل؛ إذ ثمة علوم (تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز، بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات؛ كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد)(1)، وأن (الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأن من المحال اجتماع الضدين)(2). وهذه العلوم " تشمل جميع العقلاء "(3).

المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارب، والمكتسبة بواسطة العقل، والتي يضبطها الإنسان، ويمسكها (4).

وهذا العقل يعد نتيجة للعقل الغريزي، وهو (نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكرة. وليس لهذا حد؛ لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل " (5).

(1) الغزالي، مصدر سابق، ص 59.

(2)

الماوردي، مصدر سابق، ص 7.

(3)

ابن حسن، مرجع سابق، 1/ 159.

(4)

الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 1403هـ، 4/ 85.

(5)

الماوردي، مصدر سابق، ص 7.

ص: 350

وعنه يقول الغزالي (ت 505هـ): (الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإن من حنكته التجارب، وهذبته المذاهب، يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة، يقال إنه غبي، غمر، جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا)(1).

ونماء هذا النوع يكون بأحد أمرين، هما:

1 -

كثرة الاستعمال؛ كالذي يحصل لذوي الأسنان من الحنكة، وصحة الرؤية، بكثرة التجارب، وممارسة الأمور.

2 -

وفرط الذكاء، وحسن الفطنة (2).

ولقد كانت العرب تقول: " العقل: التجارب "(3)، وقد سئل بعضهم عن العقل، فقال: لب أعنته بتجريب (4).

وهذه التجارب ليس لها غاية، والعقل منها في ازدياد، كما قال أحدهم:

ألم تر أن العقل زين لأهله

وأن كمال العقل طول التجارب (5)

فكلما كثرت تجارب الإنسان، زاد عقله، بسبب ازدياد علومه.

(1) الغزالي، مصدر سابق، ص: 60

(2)

الماوردي، مصدر سابق، ص 7، 8.

(3)

ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 52.

(4)

المصدر نفسه، ص 50.

(5)

ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2/ 109.

ص: 351

ومكان ضبط هذه العلوم هو القلب؛ إذ هو وعاء العلم.

وإلى هذا العقل أشار معاوية رضي الله عنه بقوله: (العقل عقلان، عقل تجارب، وعقل نخيزة. فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام له. وإذا تفردا، كانت النخيزة أولاهما)(1).

وهو يشبه قول من قال: (العقل ضربان: عقل الطبيعة، وعقل التجربة. وكلاهما يحتاج إليه، ويؤدي إلى المنفعة)(2).

فعقل النخيزة - المذكور في قول معاوية رضي الله عنه هو الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان. وعقل التجارب هو العلوم المكتسبة بواسطتها.

ومما تنبغي ملاحظته: (أن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي؛ لأنه نتيجة منه. وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب، فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل؛ كالأنوك (3) الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة) (4).

(1) ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 50.

(2)

ابن عبد ربه، مصدر سابق 2/ 108.

(3)

الأحمق. (الزمخشري، مصدر سابق، ص 658).

(4)

الماوردي، مصدر سابق، ص 14، 15.

ص: 352

المعنى الرابع: الأعمال التي يستوجبها العلم؛ من إيمان بالله، وتصديق بكتبه، ورسله، والتزام بأمره ونهيه؛ كحبس النفس على الطاعات، وإمساكها عن المعاصي.

وهذا معنى رابع من معاني العقل، وعنه يقول ابن تيمية (ت 728 هـ):( .. لفظ العقل يطلق على العمل بالعلم)(1).

فالعمل من لوازم العقل؛ لأن صاحب العقل إذا لم يعمل بعلمه، قيل: إنه لا عقل له (2)؛ فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة: الإقرار بالخالق " (3).

فحال من لم يعمل بعلمه، أنه صاحب عقل يمسك علوما ضرورية فطرية، يعرف بها ربه عز وجل، ولكن هواه صده عن اتباع موجب العقل، فصار لا عقل له بهذا الاعتبار.

وقد اتصف هذا بمعاني العقل الثلاثة المتقدمة؛ فمعه غريزة العقل التي فرق الله بها بين العقلاء والمجانين، ومعه علوم ضرورية فطرية، ولديه علوم مكتسبة؛ فقد جاءته الرسل بالبينات، ولكنه لم يحظ بشرف الاتصاف بهذا المعنى الرابع؛ وهو العمل بعلمه، لذلك يقال عنه: إنه غير عاقل عن الله عز وجل.

(1) ابن تيمية، بغية المرتاد، 1408 هـ، ص 250، 251.

(2)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16/ 336.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 353

وقد وصف الله عز وجل في كتابه رجالا بالعقل، وأخبر في الوقت، نفسه أنهم لم يستفيدوا منها؛ فقال:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (1).

فهؤلاء قد عقلوا البيان الذي لزمتهم من أجله الحجة، لكنهم لم يعملوا بما عقلوا؟ فحالهم أن لهم عقولا يعرفون بها الحق، ولكن هواهم صدهم عن اتباع موجب العقل، فلا عقل لهم بهذا الاعتبار (2).

وقد وصفهم سبحانه وتعالى في موضع آخر بالعقل الذي يميزون به، ويعقلون به أمور الدنيا كلها في الجليل والدقيق، لكنهم للآخرة لا يعقلون، فقال عز وجل:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (3).

فهم " بالدنيا أهل بصر وسمع وعقل. فلم يعن أنهم صم خرس مجانين، وإنما عذبهم لأنهم يعقلون. ولو تدبروا ما يرون ويسمعون من الدلائل عليه؛ من آيات الكتاب، وآثار الصنعة، واتصال التدبير، الذي يدل على أنه واحد لا

(1) سورة الأحقاف الآية 26

(2)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16/ 337.

(3)

سورة الأعراف الآية 179

ص: 354

شريك له " (1)؛ أي لدلهم ذلك على أنه المعبود بحق وحده.

فالعاقل - كما قال سفيان بن عيينة (ت 198هـ) -: " ليس الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه "(2).

لذلك لما وصف رجل - ممتنع عن الدخول في الإسلام - بالعقل أمام أحد العلماء، قال:(مه، إنما العاقل من وحد الله، وعمل بطاعته)(3).

والله تعالى قد حكى عنهم قولهم - وهم في النار -: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4).

" وقد كانت لهم عقول وأسماع، لزمتهم بها الحجة لله عز وجل، وإنما عنى عز وجل أنها لم تعقل عن الله فهما لما قال؛ من عظيم قدره، وقدر عذابه، فندمت، وتأذت بالويل والندم، لا لأنها لم تكن تسمع ولا تعقل، ولا كانوا مجانين، ولكن يعقلون أمر الدنيا، ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه، وتوعد ووعد "(5).

(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.

(2)

ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 59.

(3)

الأصفهاني، 1408 هـ، ص 96.

(4)

سورة الملك الآية 10

(5)

المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.

ص: 355

وليس عدم العقل في عدم الإيمان فحسب، بل عدم العقل في ارتكاب المعاصي، وتضييع الفرائض؛ فمن ضيع الفرائض، وارتكب المحرمات، لم يعقل عظيم قدر الله في جلاله وهيبته، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في القيام بفرائضه، وارتكاب معاصيه؛ فالعاقل من يغلب إيمانه هواه، وحلمه جهله. لذلك قال عامر بن عبد قيس (ت 55 هـ):(إذا عقلك عقلك عما لا ينبغي، فأنت عاقل)(1).

وسئل أعرابي: (أي منافع العقل أعظم؟ قال: اجتناب الذنوب)(2).

فالعمل ثمرة العقل وفائدته، ولا عقل لمن لم يعمل بموجب ما دله إليه عقله.

إذا تبينت هذا، فاعلم أن العقل يطلق على كل هذه المعاني الأربعة مجتمعة: الغريزة، والعلوم الضرورية، والعلوم المكتسبة، والعمل بالعلم.

ويشهد لهذا قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل: (هو علم، أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك)(3).

(1) الماوردي، مصدر سابق، ص 9.

(2)

ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2/ 111.

(3)

ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1402 هـ، 10/ 302.

ص: 356