الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطاب رضي الله عنه من قوله " عقلناها "، في قوله:«إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم؛ قرأناها، ووعيناها، وعقلناها (1)» .
و" عقلناها ": أي فهمناها، وضبطناها، وأمسكناها.
فما سمي العقل عقلا إلا لأنه يمسك ما علمه، ويضبطه، ويفهمه؛ فيقال: عقل الشيء، إذا فهمه، فهو عقول.
وعقل الشيء، إذا علمه، أو علم صفاته؛ من حسن وقبح، وكمال ونقصان، فأمسكها، وأمكن أن يميز بين القبيح والحسن، والخير والشر (2).
فالعاقل خلاف الجاهل؛ يحبس نفسه، ويمنعها عما يوبقها، ويردها عن هواها، ويمسك ما يعلمه، ويميز بين ما ينفعه وما يضره، في عاجله وآجله.
(1) صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.
(2)
الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مصدر سابق، مادة العقل.
ثانيا: تعريف العقل اصطلاحا:
تنوعت التعريفات المقولة في العقل، واختلفت، وأغلبها عليه ملاحظات (1).
والتعريف الذي اخترته تفصيلي، يشتمل على أربعة معان قيلت في
(1) ابن حسن، 1412 هـ، 1/ 157، 158.
العقل، لا ينفك واحد منها عن الآخر، متى فقد واحد منها قيل لصاحبه: ليس له عقل:
المعنى الأول: الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان؛ فبها يعلم، وبها يعقل، وبها يميز، وبها يقصد المنافع دون المضار.
يقول أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) عن هذا المعنى، إنه:(الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية)(1).
ويقول الماوردي (ت 450 هـ): (فالغريزي هو العقل الحقيقي، وله حد يتعلق به التكليف، لا يجاوزه إلى زيادة، ولا يقصر عنه إلى نقصان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان)(2).
ويقول الحارث بن أسد المحاسبي (ت 243 هـ): (فأما هو في المعنى
(1) الغزالي، 1406 هـ، ص 58.
(2)
الماوردي، 1407 هـ، ص 6.
والحقيقة لا غيره، فهو غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم برؤية، ولا بحس، ولا ذوق، ولا طعم. وإنما عرفهم الله سبحانه وتعالى إياه بالعقل منهم؛ فبذلك العقل عرفوه، وشهدوا عليه بالعقل الذي عرفوه به من أنفسهم، بمعرفة ما ينفعهم، ومعرفة ما يضرهم) (1).
فبإمكان العباد أن يطلعوا بعقولهم على هذه الغريزة؛ أهي موجودة عند فلان، أو ليست كذلك، بالنظر إلى أفعال جوارحه؛ فـ (إذا رأوا من أفعاله ما يدلهم على أنه قد عرف ما ينفعه في دنياه وما يضره، وإذا رأوه طالبا عاملا فيما ينفعه من دنياه، مجانبا لما يضره من دنياه، سموا من كان كذلك: عاقلا، وشهدوا له أن له عقلا، وأنه لا مجنون، ولا تياه، ولا أحمق)(2).
ويمكن الاستئناس في بيان بعض هذه الصفات - التي تمكن ملاحظتها في العاقل - بقول ابن القرية (ت 84 هـ): (الرجال ثلاثة:
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 17.
(2)
المحاسبي، مصدر سابق، ص 18.
عاقل، وأحمق، وفاجر: فالعاقل إن كلم أجاب، وإن نطق أصاب، وإن سمع وعى. والأحمق إن تكلم عجل، وإن تحدث وهل (1)، وإن حمل على القبيح فعل .. ) (2).
وكلام ابن تيمية عن الفرق بين المجنون والعاقل يشبه هذا الكلام، ومنه قوله:(فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل. أما من فهم الكلام، وميز بين ما ينفعه وما يضره، فهو عاقل)(3).
يقول أحد الشعراء معددا بعض الصفات التي يستدل بها على عقل العاقل:
يعرف عقل المرء في أربع
…
مشيته أولها، والحرك
ودور عينيه، وألفاظه
…
بعد عليهن يدور الفلك
وربما أخلفن إلا التي
…
آخرها منهن سمين لك (4)
فهذه بعض صفات من وهبه الله المعنى الأول من معاني العقل - وهو الغريزة -: فهم الخطاب، ورد الجواب، وصلاح المشية، واتزان الحركات، واستقرار العينين، ونحو ذلك.
(1) ضعف، وجبن، وفزع. (أنيس ورفاقه، 1972م، ص 1060).
(2)
ابن أبي الدنيا، 1409 هـ، ص 47.
(3)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 1404، 9/ 287
(4)
ابن عبد ربه، 1404 هـ، 2/ 106.
وهذه الغريزة، التي هي إحدى معاني العقل، شرط في المعقولات والمعلومات، وهي مناط التكليف؛ فإذا عدمت في الإنسان، سقطت عنه التكاليف الشرعية.
وفي ذلك يقول الحارث المحاسبي (ت 243 هـ): (فالعقل غريزة، جعلها الله في الممتحنين من عباده؛ أقام به على البالغين للحلم الحجة، وأنه خاطبهم من جهة عقولهم، ووعد، وتوعد، وأمر، ونهى، وحض، وندب)(1).
وهذا العقل المشروط في التكليف لا بد أن يكون علوما يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره.
وعن هذا المعنى نفسه، يقول ابن تيمية (ت 728هـ):(العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوه فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين)(2).
ويلاحظ تشبيهه العقل بالبصر.
وقد سبقه إلى هذا التشبيه البليغ قوم، قالوا عن العقل:(هو نور وضعه الله طبعا وغريزة، يبصر به، ويعبر به. نور في القلب، كالنور في العين، وهو البصر .. )(3).
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.
(2)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 3/ 338.
(3)
المحاسبي، مصدر سابق، ص 19.
لكن هذا البصر إن اتصل به نور الشمس، أو ضوء النار، صار أشد قوة وإبصارا، وإن انفرد بنفسه، ضعف.
كذلك صاحب العقل إن وصله بنور الإيمان والقرآن، اهتدى وسعد. وإذا لم يتصل بهما عجز عن إدراك الأمور التي لا يكمن أن يستقل بإدراكها.
وهذا معنى قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل، إنه:(بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه، لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها)(1).
وهذا التشبيه الرائع من ابن تيمية - وممن سبقه - ينطبق على أولئك الذين اعتصموا بالكتاب والسنة، وعلى مخالفيهم الذين اتكلوا على عقولهم، معرضين عن الاهتداء بنور الوحي، فعموا عن الحق، وضلوا عنه، وآل أمرهم إلى التخبط والحيرة.
ويصدق علمهم قول الله عز وجل عن بنى أدم عليه السلام: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (2){وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (3){قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (4){قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (5)
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى؛ مصدر سابق، 3/ 339.
(2)
سورة طه الآية 123
(3)
سورة طه الآية 124
(4)
سورة طه الآية 125
(5)
سورة طه الآية 126
المعنى الثاني: العلوم التي تلازم الإنسان العاقل؛ فتقع في نفسه ابتداء، ولا تنفك عن ذاته؛ كالعلم بالممكنات، والواجبات، والممتنعات.
وهذا معنى من معاني العقل؛ إذ ثمة علوم (تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز، بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات؛ كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد)(1)، وأن (الشيء لا يخلو من وجود أو عدم، وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم، وأن من المحال اجتماع الضدين)(2). وهذه العلوم " تشمل جميع العقلاء "(3).
المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارب، والمكتسبة بواسطة العقل، والتي يضبطها الإنسان، ويمسكها (4).
وهذا العقل يعد نتيجة للعقل الغريزي، وهو (نهاية المعرفة، وصحة السياسة، وإصابة الفكرة. وليس لهذا حد؛ لأنه ينمو إن استعمل، وينقص إن أهمل " (5).
(1) الغزالي، مصدر سابق، ص 59.
(2)
الماوردي، مصدر سابق، ص 7.
(3)
ابن حسن، مرجع سابق، 1/ 159.
(4)
الفيروزآبادي، بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، 1403هـ، 4/ 85.
(5)
الماوردي، مصدر سابق، ص 7.
وعنه يقول الغزالي (ت 505هـ): (الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإن من حنكته التجارب، وهذبته المذاهب، يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة، يقال إنه غبي، غمر، جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا)(1).
ونماء هذا النوع يكون بأحد أمرين، هما:
1 -
كثرة الاستعمال؛ كالذي يحصل لذوي الأسنان من الحنكة، وصحة الرؤية، بكثرة التجارب، وممارسة الأمور.
2 -
وفرط الذكاء، وحسن الفطنة (2).
ولقد كانت العرب تقول: " العقل: التجارب "(3)، وقد سئل بعضهم عن العقل، فقال: لب أعنته بتجريب (4).
وهذه التجارب ليس لها غاية، والعقل منها في ازدياد، كما قال أحدهم:
ألم تر أن العقل زين لأهله
…
وأن كمال العقل طول التجارب (5)
فكلما كثرت تجارب الإنسان، زاد عقله، بسبب ازدياد علومه.
(1) الغزالي، مصدر سابق، ص: 60
(2)
الماوردي، مصدر سابق، ص 7، 8.
(3)
ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 52.
(4)
المصدر نفسه، ص 50.
(5)
ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2/ 109.
ومكان ضبط هذه العلوم هو القلب؛ إذ هو وعاء العلم.
وإلى هذا العقل أشار معاوية رضي الله عنه بقوله: (العقل عقلان، عقل تجارب، وعقل نخيزة. فإذا اجتمعا في رجل، فذاك الذي لا يقام له. وإذا تفردا، كانت النخيزة أولاهما)(1).
وهو يشبه قول من قال: (العقل ضربان: عقل الطبيعة، وعقل التجربة. وكلاهما يحتاج إليه، ويؤدي إلى المنفعة)(2).
فعقل النخيزة - المذكور في قول معاوية رضي الله عنه هو الغريزة التي في الإنسان، والتي يمتاز بها عن سائر الحيوان. وعقل التجارب هو العلوم المكتسبة بواسطتها.
ومما تنبغي ملاحظته: (أن العقل المكتسب لا ينفك عن العقل الغريزي؛ لأنه نتيجة منه. وقد ينفك العقل الغريزي عن العقل المكتسب، فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل؛ كالأنوك (3) الذي لا تجد له فضيلة، والأحمق الذي قلما يخلو من رذيلة) (4).
(1) ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 50.
(2)
ابن عبد ربه، مصدر سابق 2/ 108.
(3)
الأحمق. (الزمخشري، مصدر سابق، ص 658).
(4)
الماوردي، مصدر سابق، ص 14، 15.
المعنى الرابع: الأعمال التي يستوجبها العلم؛ من إيمان بالله، وتصديق بكتبه، ورسله، والتزام بأمره ونهيه؛ كحبس النفس على الطاعات، وإمساكها عن المعاصي.
وهذا معنى رابع من معاني العقل، وعنه يقول ابن تيمية (ت 728 هـ):( .. لفظ العقل يطلق على العمل بالعلم)(1).
فالعمل من لوازم العقل؛ لأن صاحب العقل إذا لم يعمل بعلمه، قيل: إنه لا عقل له (2)؛ فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة: الإقرار بالخالق " (3).
فحال من لم يعمل بعلمه، أنه صاحب عقل يمسك علوما ضرورية فطرية، يعرف بها ربه عز وجل، ولكن هواه صده عن اتباع موجب العقل، فصار لا عقل له بهذا الاعتبار.
وقد اتصف هذا بمعاني العقل الثلاثة المتقدمة؛ فمعه غريزة العقل التي فرق الله بها بين العقلاء والمجانين، ومعه علوم ضرورية فطرية، ولديه علوم مكتسبة؛ فقد جاءته الرسل بالبينات، ولكنه لم يحظ بشرف الاتصاف بهذا المعنى الرابع؛ وهو العمل بعلمه، لذلك يقال عنه: إنه غير عاقل عن الله عز وجل.
(1) ابن تيمية، بغية المرتاد، 1408 هـ، ص 250، 251.
(2)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16/ 336.
(3)
المصدر نفسه.
وقد وصف الله عز وجل في كتابه رجالا بالعقل، وأخبر في الوقت، نفسه أنهم لم يستفيدوا منها؛ فقال:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (1).
فهؤلاء قد عقلوا البيان الذي لزمتهم من أجله الحجة، لكنهم لم يعملوا بما عقلوا؟ فحالهم أن لهم عقولا يعرفون بها الحق، ولكن هواهم صدهم عن اتباع موجب العقل، فلا عقل لهم بهذا الاعتبار (2).
وقد وصفهم سبحانه وتعالى في موضع آخر بالعقل الذي يميزون به، ويعقلون به أمور الدنيا كلها في الجليل والدقيق، لكنهم للآخرة لا يعقلون، فقال عز وجل:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (3).
فهم " بالدنيا أهل بصر وسمع وعقل. فلم يعن أنهم صم خرس مجانين، وإنما عذبهم لأنهم يعقلون. ولو تدبروا ما يرون ويسمعون من الدلائل عليه؛ من آيات الكتاب، وآثار الصنعة، واتصال التدبير، الذي يدل على أنه واحد لا
(1) سورة الأحقاف الآية 26
(2)
ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مصدر سابق، 16/ 337.
(3)
سورة الأعراف الآية 179
شريك له " (1)؛ أي لدلهم ذلك على أنه المعبود بحق وحده.
فالعاقل - كما قال سفيان بن عيينة (ت 198هـ) -: " ليس الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه، ويعرف الشر فيجتنبه "(2).
لذلك لما وصف رجل - ممتنع عن الدخول في الإسلام - بالعقل أمام أحد العلماء، قال:(مه، إنما العاقل من وحد الله، وعمل بطاعته)(3).
والله تعالى قد حكى عنهم قولهم - وهم في النار -: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4).
" وقد كانت لهم عقول وأسماع، لزمتهم بها الحجة لله عز وجل، وإنما عنى عز وجل أنها لم تعقل عن الله فهما لما قال؛ من عظيم قدره، وقدر عذابه، فندمت، وتأذت بالويل والندم، لا لأنها لم تكن تسمع ولا تعقل، ولا كانوا مجانين، ولكن يعقلون أمر الدنيا، ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه، وتوعد ووعد "(5).
(1) المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.
(2)
ابن أبي الدنيا، مصدر سابق، ص 59.
(3)
الأصفهاني، 1408 هـ، ص 96.
(4)
سورة الملك الآية 10
(5)
المحاسبي، مصدر سابق، ص 31.
وليس عدم العقل في عدم الإيمان فحسب، بل عدم العقل في ارتكاب المعاصي، وتضييع الفرائض؛ فمن ضيع الفرائض، وارتكب المحرمات، لم يعقل عظيم قدر الله في جلاله وهيبته، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في القيام بفرائضه، وارتكاب معاصيه؛ فالعاقل من يغلب إيمانه هواه، وحلمه جهله. لذلك قال عامر بن عبد قيس (ت 55 هـ):(إذا عقلك عقلك عما لا ينبغي، فأنت عاقل)(1).
وسئل أعرابي: (أي منافع العقل أعظم؟ قال: اجتناب الذنوب)(2).
فالعمل ثمرة العقل وفائدته، ولا عقل لمن لم يعمل بموجب ما دله إليه عقله.
إذا تبينت هذا، فاعلم أن العقل يطلق على كل هذه المعاني الأربعة مجتمعة: الغريزة، والعلوم الضرورية، والعلوم المكتسبة، والعمل بالعلم.
ويشهد لهذا قول ابن تيمية (ت 728هـ) عن العقل: (هو علم، أو عمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك)(3).
(1) الماوردي، مصدر سابق، ص 9.
(2)
ابن عبد ربه، مصدر سابق، 2/ 111.
(3)
ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1402 هـ، 10/ 302.