المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية

- ‌الفتاوى

- ‌ التختم بالفضة):

- ‌ دبلة الخطوبة: من ذهب، أو فضة ـ للرجل والمرأة)

- ‌ تحلي الرجال بالجواهر):

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌الديون التي لم يحصل عليها صاحبهالا تمنع من دفع الزكاة إليه

- ‌حكم دفع الزكاة إلى الفقيرالمسلم إذا كان لديه بعض المعاصي

- ‌حكم دفع الزكاة للعاجز عن الزواج

- ‌حكم تسديد ديون المعسرين من الزكاة

- ‌حكم إسقاط الدين عمنلم يستطع الوفاء واحتسابه من الزكاة

- ‌حكم دفع الزكاة لمنكوبي المجاعة في الصومال

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

- ‌من فتاوىاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌قبض اليدين وإرسالهما في الصلاةإرسال اليدين في الصلاة

- ‌ صلاة المرسل يده في الصلاة

- ‌ وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

- ‌البحوث

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد في بيان المراد بعلماء الدعوة

- ‌الفصل الأول: التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها

- ‌المبحث الأول: التعريف بالمرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: فرق المرجئة

- ‌الفصل الثاني: آراء المرجئة في مسائل الإيمان

- ‌المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة

- ‌أولا: مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: جهمية المرجئة

- ‌ثالثا: الكرامية

- ‌المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة

- ‌المبحث الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان عند المرجئة

- ‌المذهب الثاني: أنه يجب الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة

- ‌الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة

- ‌الحجة الأولى: نصوص الوعد

- ‌الحجة الثانية من حجج المرجئة: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله

- ‌الحجة الثالثة: اللغة

- ‌الحجة الرابعة: المجاز

- ‌الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة

- ‌الخاتمة

- ‌ركائز منهج السلف في الدعوة إلى الله

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأول: تعريفات ومفاهيم

- ‌المبحث الثاني: ركائز المنهج

- ‌المطلب الأول: العلم

- ‌أدلة فضل العلم:

- ‌درجات العلوم:

- ‌العلم الدعوي:

- ‌المطلب الثاني: الاستقامة:

- ‌استقامة الداعي:

- ‌المطلب الثالث: الحكمة:

- ‌أنواع الحكمة وأسباب تحصيلها:

- ‌الحكمة الدعوية:

- ‌المطلب الرابع: سلامة الأساليب والوسائل الدعوية

- ‌أنواع الأساليب الدعوية

- ‌الوسائل الدعوية

- ‌المطلب الخامس: الصبر:

- ‌فضل الصبر

- ‌أقسام الصبر

- ‌صبر الدعوة:

- ‌الخاتمة

- ‌أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة

- ‌المقدمة:

- ‌التمهيد:

- ‌ الوسطية في اللغة

- ‌المراد بوسطية الأمة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المبحث الأول:أثر الفتوى في إقامة الدين بين المسلمين:

- ‌المبحث الثاني:أثر الفتوى في التصدي للغلو:

- ‌الغلو في اللغة:

- ‌والمراد بالغلو شرعا:

- ‌المبحث الثالث:أثر الفتوى في التصدي للجفاء:

- ‌الجفاء في اللغة:

- ‌وتظهر ملامح الجفاء فيما يلي:

- ‌ الاعتقاد:

- ‌ الإعراض والتساهل في الأمور العملية مأمورا بها أو منهيا عنها:

- ‌المبحث الرابع:الوسطية في الفتوى:

- ‌المبحث الخامس:أثر الفتوى في انتظام أحوال المستفتي على الشرع:

- ‌المبحث السادس:أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويته الإسلامية:

- ‌المبحث السابع:أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي:

- ‌الخاتمة:

- ‌مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: ترجمة موجزة للحافظ ابن حجر:

- ‌ثانيا: تعريف موجز بكتاب «فتح الباري»:

- ‌المبحث الأولتحصيل أعظم المصلحتين بترك أدناهما

- ‌المبحث الثانيتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة

- ‌المبحث الثالثتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة

- ‌المبحث الرابعاحتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما

- ‌خاتمة

- ‌المنهج العلمي والخلقي عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌هدف البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌نبذة موجزة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المبحث الأول: المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الاستمداد من الكتاب والسنة

- ‌ثانيا: اعتماد النصوص الصحيحة في الاستدلال

- ‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص

- ‌رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط

- ‌المبحث الثاني: المنهج الخلقي في التبليغ والبيان

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الصدق والإخلاص

- ‌ثانيا: النصح

- ‌ثالثا: الوضوح

- ‌رابعا: القوة في الحق مع الرفق واللين

- ‌خامسا: التواضع

- ‌سادسا: القدوة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص

متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقا بسند واحد أو بسندين أو بثلاثة أو بأكثر، سواء سمي الخبر متواترا أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري، أو العلم النظري، أو الظني» (1)

(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/ 190).

ص: 346

‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص

من القواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة أنهم يعتمدون تفسير الصحابة – رضي الله عنهم – وفهمهم للنصوص، لأنهم «حضروا التنزيل، وفهموا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، واطلعوا على قرائن القضايا، وما خرج عليه الكلام من الأسباب والمحامل التي لا تدرك إلا بالحضور، وخصهم الله تعالى بالفهم الثاقب، وحدة القرائح، وحسن التصرف، لما جعل الله فيهم من الخشية والزهد والورع، إلى غير ذلك من المناقب الجليلة، فهم أعرف بالتأويل، وأعلم بالمقاصد. .»

وقد أثنى الله عز وجل على السابقين من الصحابة، وعلى كل من تبعهم بإحسان، وجعل اتباعهم بإحسان سبيلا إلى رضوانه، فقال تعالى:

ص: 346

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) وتوعد – سبحانه – بالنار وسوء المصير من اتبع سبيلا غير سبيلهم، فقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2).

ويلحق بالصحابة – رضي الله عنهم، أعيان التابعين لهم بإحسان، وأتباعهم من أئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين (3)

ولقد سار الشيخ ابن باز – رحمه الله – متابعا سلف الأمة في فهمهم النصوص الشرعية وتفسيرها في مسائل الاعتقاد وغيرها، ويؤكد أن ما قرروه وارتضوه مقدم على ما يقوله غيرهم، لأن الله تعالى خاطب عباده بما يفهمونه، ويعقلون مراده منه، والصحابة – رضي الله عنهم – هم «أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من

(1) سورة التوبة الآية 100

(2)

سورة النساء الآية 115

(3)

انظر: السفاريني، لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية 1/ 20، المكتب الإسلامي، بيروت.

ص: 347

خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل» (1) وكذا التابعون أعلم بمعاني كلام الله ورسوله، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم (2)

وشواهد متابعته – رحمه الله – سلف الأمة في فهم النصوص أكثر من أن تحصر، بل هو منهجه العام الذي سار عليه وارتضاه في سائر ما صدر عنه، فمن ذلك قوله: إن من الإيمان بالله «الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بل الواجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف الله – عز وجل – يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3)، وقال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4)، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان» (5)

(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 406)، وانظر (3/ 66).

(2)

المرجع السابق (3/ 55).

(3)

سورة الشورى الآية 11

(4)

سورة النحل الآية 74

(5)

ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 17).

ص: 348

وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوا في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولا بد في مخالفة الأدلة النقلية والعقلية، مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه (1)

وينكر – رحمه الله – على من يقول: إن السلف يفوضون الأمر في الصفات إلى الله عز وجل، وأن طريقتهم بذلك هي الأسلم (2) فيقول: «ليس الأسلم تفويض الأمر في الصفات إلى علام الغيوب؛ لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، ولم يبين كيفيتها، فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، وليس التفويض مذهب السلف بل هو مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح.

وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض، وبدعوهم لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك، وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه، ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته، وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل، وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أنه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم» (3) ثم أطال رحمه الله في النقول عن السلف في بيان ذلك وتقريره (4)

(1) المرجع السابق (1/ 18).

(2)

انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 54).

(3)

المرجع السابق (3/ 55).

(4)

انظر: المرجع السابق (3/ 55 – 58).

ص: 349

- ومن ذلك: بيانه لمعنى الإيمان وحقيقته في نصوص الشرع، وفق ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه قول وعمل، يزيد وينقص وفي هذا يقول – رحمه الله:«ومعلوم أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ولأهل السنة عبارة أخرى في هذا الباب وهي: أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكلتا العبارتين صحيحة، فهو قول وعمل؛ يعني قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وهو قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح، واعتقاد بالقلب، فالجهاد في سبيل الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وسائر الأعمال المشروعة كلها أعمال خيرية، وهي من شعب الإيمان التي يزيد بها الإيمان وينقص بنقصها عند أهل السنة والجماعة؛ وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأتباعهم بإحسان» (1)

وهذا الذي ذهب إليه هو – كما تقدم – قول أهل السنة والجماعة، وهو خلاف قول الفرق الضالة؛ من الخوارج والمعتزلة والمرجئة – الجهمية منهم والكرامية – الذين اتفقوا على أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الكفر وشعبة من الإيمان.

ثم اختلفوا بعد ذلك في حقيقة الإيمان ومحله، فمنهم من يقول: الإيمان محله القلب، ومنهم من يضيف إليه إقرار اللسان، ومنهم من

(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/ 35).

ص: 350

يقول: الإيمان محله القلب واللسان والجوارح، ولكنه فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل المحرم، كالخوارج والمعتزلة.

والحق أن كل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه، والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها. ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه، ومنها ما ينقص بذهابه، كما دلت على ذلك النصوص، واتفق عليه سلف الأمة.

- ومن ذلك: تقريره – رحمه الله – لمذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب المعصية والكبيرة ما لم يستحلها، وأنه عاص وناقص الإيمان، ولكن لا يكفر بذلك كفرا أكبر، يقول – رحمه الله:«ارتكاب الكبائر كالزنى وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من الكبائر يؤثر في توحيد الله وفي الإيمان ويضعفه، ويكون ضعيف الإيمان، لكن لا يكفر بذلك. . . إذا كان لم يستحل هذه المعصية» (1)

ويدل على هذا القول أن الله تعالى شرع تأديب أهل المعاصي وتعزيرهم بإقامة الحدود عليهم، كحد الزنى وحد السرقة، ولو كان الزنى ردة لوجب قتله، وكذا السارق لا يقتل بل تقطع يده، فدل ذلك على أن هذه المعاصي ونحوها ليست ردة ولا كفرا، ولكنها ضعف في الإيمان ونقص فيه

(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 40).

ص: 351

وأما حكم من مات على شيء من الكبائر ولم يتب منها فهو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه على قدر معاصيه، ثم يكون مآله إلى الجنة (1) لقول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2).

وقد خالف الخوارج والمعتزلة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة؛ فالخوارج تكفر بالمعاصي والكبائر، وتجعله مخلدا في النار إذا مات على ذلك ولم يتب، والمعتزلة تقول: إنه في منزلة بين المنزلتين – فلا نسميه كافرا يعني الكفر الأكبر، ولكن يخلد في النار إذا مات عليه

وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل، وخالفت نصوص الكتاب والسنة، ومذهب أهل السنة والجماعة (3)

أما المعتزلة فقد ضلوا بسبب أنهم قرروا أصولا عقلية سلفا، ثم حملوا ألفاظ القرآن عليها، وأولوها بما يوافق ما عندهم من مقررات سابقة، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم (4)

(1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 40)، وأيضا (6/ 47 - 48).

(2)

سورة النساء الآية 48

(3)

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 41).

(4)

انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13/ 358).

ص: 352

وأما الخوارج فبدعتهم «إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البر التقي؛ قالوا: فمن لم يكن برا تقيا فهو كافر، وهو مخلد في النار» (1)

وهكذا فقد أوجب نأي الفرق عن فهم نصوص الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة أن يقعوا في صنوف من الأخطاء والضلالات؛ فتارة بإضفاء صفة الغموض والعسر على قضايا الاعتقاد حتى لم تعد سهلة الإدراك يسيرة الفهم، رغم أنها خطاب الله تعالى لسائر خلقه على اختلاف مداركهم وتفاوت قدراتهم، وتارة بتفسير حقيقة الإيمان بالتصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان، مما مهد لطوائف كثيرة من المسلمين ترك العمل، والتفلت من الطاعات والواجبات.

وتارة بحمل الناس على مسالك الشدة والغلظة بالتكفير بالمعاصي، واستحلال الدماء المعصومة، إلى غير ذلك من صور الانحراف والضلال.

وإذا كان من الناس من يزعم أن التقيد بفهم السلف للنصوص من شأنه تعطيل العقل، أو البعد عن الواقع (2) فإن في هذا غلوا في النظرة، ومجافاة للحقيقة.

(1) المرجع السابق (13/ 30).

(2)

انظر: حسن حنفي، التراث والتجديد (ص182)، القاهرة، سنة 1980م.

ص: 353

وذلك لأن التزام فهم السلف لما جاءت به النصوص هو السبيل لتحقيق العلم الصحيح بها وفهمها وفق مراد الشارع منها، بعيدا عن مسالك التأويل المنحرف لها والشطط في بيانها.

فالله تعالى إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه (1) كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2)، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (3)، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن (4) وقال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن الرسول لما خاطبهم (يعني الصحابة) بالكتاب والسنة عرفهم ما أراد بتلك الألفاظ، وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وبلغوا تلك المعاني إلى التابعين أعظم مما بلغوا حروفه. .» (6)

ولما أعرض طوائف من الناس عن الأخذ بالنصوص وفق فهم

(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13/ 283).

(2)

سورة ص الآية 29

(3)

سورة محمد الآية 24

(4)

ابن تيمية، مجموع الفتاوى (13/ 332).

(5)

سورة يوسف الآية 2

(6)

مجموع الفتاوى (17/ 353).

ص: 354

سلف الأمة وقع بينهم الاختلاف والافتراق والتنازع؛ مع دعوى كل فرقة أنها على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مع ما صاحب ذلك من تأويل للنصوص بما يتفق مع مذهبها، ففسدت بذلك عقائد الناس وعباداتهم، وشاعت فيهم الضلالات والبدع.

ثم إن التقيد بفهم السلف في المسائل العقدية والقضايا الغيبية، وهي أخبار صادقة، وحقائق يقينية ثابتة، وكذا في مناهج العبادة وطرقها وهي لا تتغير ولا تتبدل باختلاف العصور والبيئات ليس فيه ما يمنع من إعمال العقل والبحث والنظر في ميادين المعرفة المختلفة، فعالم الشهادة ميدان مفتوح أمام الإنسان للتفكير والإبداع، وذلك بأن يتوجه إلى تدبر آيات الله في الأنفس والآفاق، ويتعرف على سنن الله في خلقه، وأن يجتهد في تسخير الكون المحيط به لمنفعته، كما أمر الله تعالى بذلك ودعا إليه، قال تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (1)، وقال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2)، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (3).

ولقد وقف التابعون ومن تبعهم بإحسان عند فهم الصحابة – رضي الله

(1) سورة العنكبوت الآية 20

(2)

سورة يونس الآية 101

(3)

سورة الأعراف الآية 185

ص: 355