الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله جل وعلا: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1)، وقوله سبحانه وتعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2).
وعن أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر. أو كلمة نحوها (3)»
(1) سورة يوسف الآية 90
(2)
سورة السجدة الآية 24
(3)
سنن الترمذي /كتاب الزهد: باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر /2247 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 1894).
أقسام الصبر
ويقسم بعض العلماء الصبر إلى أقسام ثلاثة (1) هي:
1.
الصبر على طاعة الله.
2.
الصبر عن معصية لله.
3.
الصبر على أقدار الله المؤلمة.
(1) انظر: مدارج السالكين /ابن القيم (مرجع سابق) 2/ 63.
قال الإمام ابن القيم: (فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه
…
والأولان أكمل من الثالث
…
ونقل ابن القيم عن ابن تيمية قوله: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسب.
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من
مفسدة وجود المعصية (1)
وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم، وفعلهم ومقاومتهم قومهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف (2)
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها، وعلى أقدار الله المؤلمة حتى تتخطاها. فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه وخصوصا الطاعة الشاقة والمستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئا وحصل على الحرمان وكذلك المعصية التي تشد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي محل قدرة العبد فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار، وكذلك البلاء الشاق، خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه
(1) المرجع السابق: 2/ 163.
(2)
المرجع السابق: 2/ 176.
القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والافتقار على الدوام، فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله .. ) (1)
ويحدد الإمام الماوردي للصبر ستة أقسام فيقول ما ملخصه: واعلم أن الصبر على ستة أقسام، وهو في كل قسم منها محمود، فأول أقسامه وأولاها: الصبر على امتثال ما أمر الله تعالى به، والانتهاء عما نهى الله عنه، لأن به تخلص الطاعة وبها يصح الدين وتؤدى الفروض ويستحق الثواب.
والقسم الثاني: الصبر على ما تقتضيه أوقاته من رزية قد أجهده الحزن عليها، أو حادثة قد كده الهم بها، فإن الصبر عليها يعقبه الراحة منها، ويكسبه المثوبة عنها، فإن صبر طائعا وإلا احتمل هما لازما، وصبر كارها آثما.
والقسم الثالث: الصبر على ما فات إدراكه من رغبة مرجوة، وأعوز نيله من مسرة مأمولة فإن الصبر عنها يعقب السلو منها، والأسف بعد اليأس خرق.
والقسم الرابع: الصبر فيما يخشى حدوثه من رهبة يخافها، أو يحذر حلوله من نكبة يخشاها فلا يتعجل هم ما لم يأت، فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.
(1) تيسير الكريم الرحمن /السعدي (مرجع سابق)57.
والقسم الخامس: الصبر فيما يتوقعه من رغبة يرجوها، وينتظر من نعمة يأملها، فإنه إن أدهشه التوقع لها، وأذهله التطلع إليها انسدت عليه سبل المطالب واستفزه تسويل المطامع فكان أبعد لرجائه وأعظم لبلائه، وإذا كان مع الرغبة وقورا وعند الطلب صبورا انجلت عنه عماية الدهش، وانجابت عنه حيرة الوله، فأبصر رشده وعرف قصده.
والقسم السادس: الصبر على ما نزل من مكروه أو حل من أمر مخوف، فبالصبر في هذا تنفتح وجوه الآراء، وتستدفع مكائد الأعداء، فإن من قل صبره عزب رأيه، واشتد جزعه، فصار صريع همومه، وفريسة غمومه (1)
وهذه الأقسام الستة هي في حقيقتها مجالات الصبر التي لا تخرج عن الأقسام الثلاثة السابقة، وهي أنواع مرتبطة ببعضها لا ينفك أحدها عن الآخر.
ولا شك في أن الصبر من أشق الأشياء على النفوس ويعظم أمره ويزيد أجره كلما كان الداعي إليه أكبر وأعظم و (هذا الباب ينقسم فيه الصبر إلى قسمين أحدهما بحسب قوة الداعي إلى الفعل الثاني بسهولته على العبد، فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق وإن فقدا معا يعني قوة الداعي وسهولته سهل الصبر عنه وإن وجد أحدهما وفقد الآخر سهل الصبر من وجه دون آخر فمن لا داعي له إلى قتل النفس والسرقة وشرب الخمر وأكل الحشيشة وأنواع الفواحش ولا هو
(1) أدب الدنيا والدين /الماوردي (مرجع سابق) 406 - 409.
سهل عليه فصبره عنه من أيسر شيء وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشباب عن الفاحشة، وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات، منزلتهم عند الله منزلة عظيمة عالية منيعة لا يصل إليها إلا من صبر مثل صبرهم، وكذلك من صبر على موت أولاده وأبويه وأقاربه وأصحابه ونحوهم وهو مع ذلك صابر محتسب يأمر أهله بالصبر وينهاهم عن لطم الخدود وشق الجيوب وعن كلام ما لا يجوز لهم شرعا، فهذا له من الثواب الجزيل والأجر العظيم ما لا يعلمه إلا الله .... ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عجب ربك من شاب ليست له صبوة (1)» وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2)»
ولذلك استحق هؤلاء السبعة أن يظلهم في ظله لكمال صبرهم
(1) مسند الإمام أحمد /مسند الشاميين: حديث عقبة بن عامر الجهني /1737 (حسن لغيره: المسند بتحقيق الأرناؤوط: 28/ 600).
(2)
صحيح البخاري /كتاب الأذان: باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد /620، وصحيح مسلم /كتاب الزكاة: باب فضل إخفاء الصدقة /1712.
ومشقته على نفوسهم، فصبر الملك على العدل مع قدرته على الظلم والانتقام من رعيته، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن شماله مع قدرته على الرياء، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع جمال الداعي، وصبر المتحابين في الله في اجتماعهما وانفرادهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك عن الناس، فهذه الأمور فيها مشقة على النفوس، فالصبر عليها بتوفيق الله وفضله وإحسانه صبر جميل عظيم.
ولما كان الداعي في حق - بعض - الناس ضعيفا، ولم يصبروا مع تمكنهم من الصبر كان عقوبتهم عند الله تعالى أشد من عقوبة غيرهم كالشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المختال، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، والعائل المستكبر، والشيخ الزاني (1)»
وإنما كانوا أشد عقوبة من غيرهم لسهولة التصبر عن هذه المحرمات عليهم ولضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها دليلا على تمردهم على الله تعالى وعتوهم عليه (2)
(1) صحيح مسلم /كتاب الإيمان: باب غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية /156.
(2)
انظر: تسلية أهل المصائب / محمد المنبجي (بيروت: دار الكتب العلمية: ط1) 148 - 150.