الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة
عبر الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 -
تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة (1)
2 -
احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة (2)
3 -
ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة (3)
وقد استنبط الحافظ من أربعة أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع فدخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي (4)»
(1) فتح الباري (1/ 172).
(2)
فتح الباري (3/ 512).
(3)
فتح الباري (5/ 7).
(4)
أخرجه البخاري ح (76)، ومسلم ح (504)، وأبو داود ح (715)، والترمذي ح (337)، والنسائي ح (752)، وابن ماجه ح (947)، وأحمد (1/ 219) ح (1891)، وحمار أتان: هي الأنثى من الحمر، ينظر: النهاية (1/ 21)، اللسان، أتن (13/ 6)، هدي الساري ص (74)، وناهزت الاحتلام: أي قاربت، والمراد بالاحتلام: البلوغ الشرعي، ينظر: النهاية (5/ 135)، اللسان، نهز، (5/ 421)، فتح الباري (1/ 171)، إلى غير جدار: أي إلى غير سترة، وترتع: أي تأكل ما تشاء، وقيل تسرع في المشي، يقال: رتعت الماشية ترتع رتعا ورتوعا أكلت ما شاءت وجاءت وذهبت في المرعى، ينظر: اللسان، رتع، (8/ 112)، فتح الباري (1/ 171)، تاج العروس (5/ 347).
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة؛ لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وقد بين وجه الاستدلال من الحديث على ذلك، وسبقه ابن الملقن – رحمه الله – إلى هذا الاستنباط فقال:«فيه احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة، والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار» (2)
(1) فتح الباري (1/ 172).
(2)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 318).
الحديث الثاني: حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال: «كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج، فجاء ابن عمر رضي الله عنه وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سرادق الحجاج
فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن، فقال: الرواح إن كنت تريد السنة، قال: هذه الساعة، قال: نعم، قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف، فجعل ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق (1)»
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه احتمال المفسدة الخفيفة، لتحصيل المصلحة الكبيرة، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه» (2)
وما ذكره الحافظ ظاهر وهو أن ابن عمر – رضي الله عنهما مضى إلى الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد عرف عنه الظلم والجور، وسفك الدماء، وهذا فيه مفسدة خفيفة، وذلك لتحصيل مصلحة راجحة، وهي أن يرشد ابن عمر رضي الله عنهما الحجاج إلى مناسك الحج
(1) أخرجه البخاري ح (1660) والنسائي ح (3005)، وفي الكبرى ح (3984)، ومالك في الموطأ (1/ 399)، وقوله في الحديث: سرادق الحجاج: السرادق هو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء، ينظر: النهاية (2/ 359)، اللسان، سردق، (10/ 157)، ملحفة: اللحاف والملحف والملحفة اللباس الذي فوق سائر اللباس، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به. ينظر: تهذيب اللغة (5/ 69)، اللسان، لحف، (9/ 314).
(2)
فتح الباري (3/ 512).
وأحكامه وسننه، حتى يسير بالناس في حجهم وفق ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمر عبد الملك بن مروان الحجاج ألا يخالف ابن عمر في مناسك الحج.
الحديث الثالث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أمسك كلبا فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط إلا كلب حرث أو ماشية (1)» . قال ابن سيرين، وأبو صالح: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إلا كلب غنم أو حرث أو صيد (2)» ، وقال أبو حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كلب صيد أو ماشية (3)»
(1) صحيح البخاري المزارعة (2322)، صحيح مسلم المساقاة (1575)، سنن النسائي الصيد والذبائح (4290)، سنن أبي داود الصيد (2844)، سنن ابن ماجه الصيد (3204)، مسند أحمد (2/ 425).
(2)
صحيح البخاري المزارعة (2322)، صحيح مسلم المساقاة (1575)، سنن النسائي الصيد والذبائح (4290)، سنن أبي داود الصيد (2844)، سنن ابن ماجه الصيد (3204)، مسند أحمد (2/ 473).
(3)
أخرجه البخاري ح (2322)، ومسلم ح (1575)، وأبو داود ح (2837)، والترمذي ح (1490)، والنسائي ح (4289)، وابن ماجه ح (3204)، وأحمد (2/ 425) ح (9489)، وأخرج البخاري ح (5481)، ومسلم ح (1574)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو ضاريا نقص من عمله كل يوم قيراطان.» ، والقيراط: بكسر فسكون جمع: قراريط، وهو نصف دانق، والدرهم: ستة دوانق، فيكون القيراط: نصف سدس درهم، ومقداره في المساحة: جزء من أربعة وعشرين جزءا، والمراد أنه مقدار من الثواب معلوم عند الله تعالى، وقد فسر في الحديث بأنه مثل جبل أحد، واختلف في القيراطين المذكورين هنا، هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها؟ فقيل بالتسوية، وقيل اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره، ينظر: النهاية (4/ 42)، اللسان، قرط، (7/ 374)، الفتح (5/ 7).
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «فيه ترجيح المصلحة الراجحة على المفسدة، لوقوع استثناء ما ينتفع به مما حرم اتخاذه» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن استثناء اتخاذ كلب الماشية والصيد والحرث مع ما فيه من المفسدة، لكنها احتملت لمصلحة أرجح، وهي حاجة الناس إلى هذا النوع من الكلاب؛ لكي ينتفعوا بها في الحراسة والصيد.
وقد يقاس على المنصوص ما تدعو الحاجة إلى اتخاذه مثل الكلاب البوليسية المدربة في الوقت الحاضر، لما فيها من المنفعة، قال الحافظ ابن عبد البر (463 هـ):«ويدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا» وقال الحافظ ابن حجر: «والأصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب إلحاقا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر» (2)
(1) فتح الباري (5/ 7).
(2)
فتح الباري (5/ 7).
الحديث الرابع: حديث أنس رضي الله عنه قال: «كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا
ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة (1)»
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة» فقال: «القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار» (2)
وهذا الاستباط الذي ذكره الحافظ رحمه الله ظاهر، وهو أن إراقة الخمر في طرق المدينة حين حرمت فيه مفسدة خفيفة؛ لأن هذا يؤدي إلى اتساخ طرق المدينة وتنجيسها على القول بنجاسة الخمر ولكن احتملت
(1) أخرجه البخاري ح (2464)، ومسلم ح (1980)، وأبو داود ح (3665)، والنسائي ح (5541)، وأحمد ح (3/ 227)، ح (13400)، والفضيخ: بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم: شراب يتخذ من البسر المفضوخ: أي المشدوخ من غير أن تمسه النار. ينظر: النهاية (3/ 453)، اللسان، فضخ، (3/ 45)، فتح الباري (10/ 38).
(2)
فتح الباري (10/ 39).
من أجل إشاعة التحريم وانتشاره، وقد سبق الحافظ إلى هذا المهلب بن أبي صفرة (ت: 435 هـ) حيث نقل عنه الحافظ في موضع آخر فقال: «قال المهلب: إنما صبت الخمر في الطريق للإعلان برفضها وليشهر تركها، وذلك أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق»
وقد ذكر الحافظ رحمه الله احتمالا آخر في إراقتها، فقال: ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال:«فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي» (1)
(1) فتح الباري (10/ 39)