المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحجة الأولى: نصوص الوعد - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية

- ‌الفتاوى

- ‌ التختم بالفضة):

- ‌ دبلة الخطوبة: من ذهب، أو فضة ـ للرجل والمرأة)

- ‌ تحلي الرجال بالجواهر):

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌الديون التي لم يحصل عليها صاحبهالا تمنع من دفع الزكاة إليه

- ‌حكم دفع الزكاة إلى الفقيرالمسلم إذا كان لديه بعض المعاصي

- ‌حكم دفع الزكاة للعاجز عن الزواج

- ‌حكم تسديد ديون المعسرين من الزكاة

- ‌حكم إسقاط الدين عمنلم يستطع الوفاء واحتسابه من الزكاة

- ‌حكم دفع الزكاة لمنكوبي المجاعة في الصومال

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

- ‌من فتاوىاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌قبض اليدين وإرسالهما في الصلاةإرسال اليدين في الصلاة

- ‌ صلاة المرسل يده في الصلاة

- ‌ وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

- ‌البحوث

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد في بيان المراد بعلماء الدعوة

- ‌الفصل الأول: التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها

- ‌المبحث الأول: التعريف بالمرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: فرق المرجئة

- ‌الفصل الثاني: آراء المرجئة في مسائل الإيمان

- ‌المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة

- ‌أولا: مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: جهمية المرجئة

- ‌ثالثا: الكرامية

- ‌المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة

- ‌المبحث الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان عند المرجئة

- ‌المذهب الثاني: أنه يجب الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة

- ‌الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة

- ‌الحجة الأولى: نصوص الوعد

- ‌الحجة الثانية من حجج المرجئة: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله

- ‌الحجة الثالثة: اللغة

- ‌الحجة الرابعة: المجاز

- ‌الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة

- ‌الخاتمة

- ‌ركائز منهج السلف في الدعوة إلى الله

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأول: تعريفات ومفاهيم

- ‌المبحث الثاني: ركائز المنهج

- ‌المطلب الأول: العلم

- ‌أدلة فضل العلم:

- ‌درجات العلوم:

- ‌العلم الدعوي:

- ‌المطلب الثاني: الاستقامة:

- ‌استقامة الداعي:

- ‌المطلب الثالث: الحكمة:

- ‌أنواع الحكمة وأسباب تحصيلها:

- ‌الحكمة الدعوية:

- ‌المطلب الرابع: سلامة الأساليب والوسائل الدعوية

- ‌أنواع الأساليب الدعوية

- ‌الوسائل الدعوية

- ‌المطلب الخامس: الصبر:

- ‌فضل الصبر

- ‌أقسام الصبر

- ‌صبر الدعوة:

- ‌الخاتمة

- ‌أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة

- ‌المقدمة:

- ‌التمهيد:

- ‌ الوسطية في اللغة

- ‌المراد بوسطية الأمة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المبحث الأول:أثر الفتوى في إقامة الدين بين المسلمين:

- ‌المبحث الثاني:أثر الفتوى في التصدي للغلو:

- ‌الغلو في اللغة:

- ‌والمراد بالغلو شرعا:

- ‌المبحث الثالث:أثر الفتوى في التصدي للجفاء:

- ‌الجفاء في اللغة:

- ‌وتظهر ملامح الجفاء فيما يلي:

- ‌ الاعتقاد:

- ‌ الإعراض والتساهل في الأمور العملية مأمورا بها أو منهيا عنها:

- ‌المبحث الرابع:الوسطية في الفتوى:

- ‌المبحث الخامس:أثر الفتوى في انتظام أحوال المستفتي على الشرع:

- ‌المبحث السادس:أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويته الإسلامية:

- ‌المبحث السابع:أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي:

- ‌الخاتمة:

- ‌مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: ترجمة موجزة للحافظ ابن حجر:

- ‌ثانيا: تعريف موجز بكتاب «فتح الباري»:

- ‌المبحث الأولتحصيل أعظم المصلحتين بترك أدناهما

- ‌المبحث الثانيتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة

- ‌المبحث الثالثتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة

- ‌المبحث الرابعاحتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما

- ‌خاتمة

- ‌المنهج العلمي والخلقي عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌هدف البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌نبذة موجزة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المبحث الأول: المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الاستمداد من الكتاب والسنة

- ‌ثانيا: اعتماد النصوص الصحيحة في الاستدلال

- ‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص

- ‌رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط

- ‌المبحث الثاني: المنهج الخلقي في التبليغ والبيان

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الصدق والإخلاص

- ‌ثانيا: النصح

- ‌ثالثا: الوضوح

- ‌رابعا: القوة في الحق مع الرفق واللين

- ‌خامسا: التواضع

- ‌سادسا: القدوة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الحجة الأولى: نصوص الوعد

وتحقيق المسألة فيمن نفي عنه الإيمان من المسلمين هو أن النفي يراد به نفي كمال الإيمان الواجب؛ لتركه بعض ما وجب عليه، أو فعله بعض ما حرم عليه، ويبقى معه من الإيمان ما يجعله في دائرة الإسلام، ويكون تحت المشيئة

ص: 95

‌الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة

اعتمد المرجئة في نصرة مقالتهم على حجج رأوها دالة على مطلبهم في إخراج العمل من الإيمان، وحصول النجاة لمن أتى بالقول فقط، ومن الحجج التي ذكرها علماء الدعوة عنهم ما يلي:

‌الحجة الأولى: نصوص الوعد

.

احتج المرجئة بنصوص الوعد التي فهموا منها حصول الإيمان لمن جاء بالقول حتى ولو لم يعمل

ص: 95

ومن هذه النصوص التي ظاهرها أن من أتى بمجرد القول حرم على النار حديث عتبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1)» وحديث أنس ومعاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إلا حرمه الله على النار (2)» وحديث عبادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار (3)»

ووردت نصوص ظاهرها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، كحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (4)» وحديث أبي

(1) رواه البخاري في مواضع منها: كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت رقم 425، ومسلم 5/ 223 رقم 33.

(2)

رواه مسلم 1/ 328 رقم 32.

(3)

رواه مسلم 1/ 315 رقم 29.

(4)

رواه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله:(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم): 6/ 546 - 547 رقم 3435، ومسلم 1/ 312 رقم 28.

ص: 96

هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة (1)» وحديث معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (2)» وكما في حديث البطاقة الذي رواه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول عز وجل: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول عز وجل: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة (3)» ونحو ذلك من النصوص

(1) رواه مسلم 1/ 308 رقم 27.

(2)

رواه أحمد 36/ 363 رقم 22034، وأبو داود: كتاب الجنائز، باب في التلقين 3/ 486 رقم 3116.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند 11/ 571 رقم 6994، والترمذي في الجامع: كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله 7/ 295 رقم 2641، وابن ماجه في السنن: كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة 2/ 448 رقم 4355.

ص: 97

ولا ريب أن مسألة نصوص الوعد والوعيد كما يقول إمام الدعوة مسألة كبيرة (1) ولذا كانت من آكد المسائل التي اهتم بها علماء الدعوة، وكشفوا الحق فيها، خاصة أن أهل البدع والمخالفين جعلوها تكأة لنبز أهل الدعوة بأنهم خوارج ومن ثم كثرت تقريرات علماء الدعوة على كلمة التوحيد، وبيان متى تكون منجية لقائلها، حتى صار ذلك علما عليهم، إذ أنتجوا في ذلك بحوثا حافلة، وتحقيقات متينة.

وليس البحث هنا في تقييد ما حرروه حول كلمة التوحيد، فإن هذا باب واسع، وإنما القصد عرض نقضهم لهذه الحجة الإرجائية بعون الله تعالى.

فمما بينه علماء الدعوة في ذلك أن هذه الحجة جاءت في مقابلة قول الوعيدية بتكفير أهل الذنوب استدلالا بنصوص الوعيد، فجاء المرجئة فاحتجوا بنصوص الوعد (2)

والحق وسط بين هذين الطرفين، والواجب إعمال النصوص كلها، فإن «الذي يجب العلم به أن كل ما قاله الرسول حق يجب الإيمان به، ولو لم يعرف الإنسان معناه، وفي القرآن آيات الوعد والوعيد كذلك، وأشكل الكل على كثير من الناس من السلف ومن بعدهم» (3)

(1) انظر: الدرر السنية 2/ 130، والفتاوى ضمن القسم الثالث من مؤلفات الشيخ الإمام 50.

(2)

انظر: الدرر السنية 13/ 74، 225، ومسائل لخصها الإمام 136 - 137.

(3)

الفتاوى، ضمن القسم الثالث مؤلفات الشيخ الإمام 44 - 45، وانظر منه 53.

ص: 98

والقاعدة أن كل كلام أطلق في الكتاب والسنة، فلا بد أن يبين المراد منه، والأحكام المترتبة على أصله وفرعه (1)

وإذا الأمر كذلك، فإن قول من يقول إن الكلمة تكفي " قول من لا يفرق بين دين المرسلين ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقون يقولونها، لكن المؤمنون يقولونها مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها، ولا عمل بمقتضاها.

فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الصحابة والمنافقين (2)

(1) انظر: التوضيح 130.

(2)

الدرر السنية 2/ 46 والرسائل الشخصية 138، وانظر: منهاج التأسيس 77، 268، والسيف المسلول 121.

ص: 99

يقول إمام الدعوة رحمه الله: دين الإسلام ليس مجرد المعرفة، فإن إبليس وفرعون يعرفونه، وكذلك اليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإنما الإسلام هو العمل بذلك، والحب والبغض، وترك موالاة الآباء والأبناء في هذا

فمجرد معرفة الحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل (1) فإن فرعون

(1) انظر: تيسير العزيز الحميد 536.

ص: 99

وإبليس كفار مع إقرارهم؛ لعنادهم وتركهم العمل

وكذلك أبو طالب، واليهود يجزمون بصدق الرسول، ولكنهم لم يسلموا له، فكفروا (1)

والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، مع أنهم يقولون لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، بل ويصومون ويحجون ويجاهدون، وهم مع ذلك تحت آل فرعون في الدرك الأسفل من النار.

وكذلك ما قص الله سبحانه عن بلعام، وضرب له مثلا بالكلب، مع ما معه من العلم، فضلا عن الاسم الأعظم (2)

وعالم بعلمه لم يعملن

معذب من قبل عباد الأوثان (3).

فكلمة التوحيد لها لفظ ومعنى، ولكن الناس فيها - كما يقول إمام الدعوة - ثلاث فرق:

فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى، وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها.

(1) انظر: الدرر السنية 1/ 105 - 106، والرسائل الشخصية 16، 19، وحاشية كتاب التوحيد 291.

(2)

راجع: تفسير القرآن العظيم 2/ 293 - 296.

(3)

الدرر السنية 1/ 96 - 98، والرسائل الشخصية 96 - 97.

ص: 100

وفرقة نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك.

وفرقة نطقوا بها، ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1).

فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا، والثانية هم المنافقون، والثالثة هم المشركون (2)

ولما سئل الإمام رحمه الله عن معنى قول وهب بن منبه لمن سأله: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟

قال وهب: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك

قال إمام الدعوة: «مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده دون أعمال»

(1) سورة الكهف الآية 104

(2)

الدرر السنية 2/ 113، وانظر: الرسائل الشخصية 182 - 183، والضياء الشارق 591.

ص: 101

ويقول الشيخ عبد الله بن الإمام تعليقا على فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال التتار، وأنهم يقاتلون على أنهم كفار مع تلفظهم بالشهادتين:

ص: 101

«فتبين لك أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته، بل خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة. انتهى» (1)

ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله: «ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعا» (2)

وقال على حديث عبادة «من شهد أن لا إله إلا الله (3)» إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (4)» : أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، كما دل عليه قوله {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (5)، وقوله:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (6).

أما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها، فإن ذلك غير نافع بالإجماع.

(1) سيأتي سياق الفتوى قريبا.

(2)

تيسير العزيز الحميد 192.

(3)

صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435)، صحيح مسلم الإيمان (29)، سنن الترمذي الإيمان (2638).

(4)

صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435)، صحيح مسلم الإيمان (28).

(5)

سورة محمد الآية 19

(6)

سورة الزخرف الآية 86

ص: 102

وفي الحديث ما يدل على هذا، وهو قوله:(شهد)، إذ كيف يشهد وهو لا يعلم؟ ومجرد النطق بشيء لا يسمى شهادة به (1)

(1) تيسير العزيز الحميد 53، وانظر منه 58، وفتح المجيد 65.

ص: 103

وقال الشيخ سليمان على حديث علي «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى (1)» وفيه أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ المراد بها الدعوة إلى الإخلاص بها، وترك الشرك، وإلا فاليهود يقولونها، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب، فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها، واعتقاد معناها، والعمل به، وذلك هو معنى قوله:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2)، وقوله:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} (3)، وذلك هو معنى قوله «ثم ادعهم إلى الإسلام» الذي هو الاستسلام لله تعالى، والانقياد له بفعل التوحيد، وترك الشرك.

(1) رواه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب 7/ 87 رقم 3701، ومسلم 15/ 254 رقم 2406.

(2)

سورة آل عمران الآية 64

(3)

سورة الرعد الآية 36

ص: 103

ثم قال: وحاصله أنهم إذا أجابوا إلى الإسلام، الذي هو التوحيد، فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الإسلام، من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه، فإن أجابوا إلى ذلك، فقد أجابوا إلى الإسلام حقا، وإن امتنعوا عن شيء من ذلك، فالقتال باق على حاله إجماعا.

فدل على أن النطق بكلمتي التوحيد دليل العصمة، لا أنه عصمة، أو يقال: هو العصمة لكن بشرط العمل.

يدل على ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (1) الآية، ولو كان النطق بالشهادتين عاصما لم يكن للتثبت معنى، يدل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا} (2)، أي عن الشرك وفعلوا التوحيد، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) فدل على أن القتال يكون على هذه الأمور.

(4)

وفيه أن لله تعالى حقوقا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما، كإخلاص العبادة له، والكفر بما يعبد من دونه (5)

(1) سورة الحجرات الآية 6

(2)

سورة التوبة الآية 5

(3)

سورة التوبة الآية 5

(4)

انظر أيضا: الدرر السنية 10/ 309 - 310، ومجموعة الرسائل 2/ 1/121، 4/ 31 - 32، 5/ 670 - 671.

(5)

تيسير العزيز الحميد 109 - 111، وانظر مثله في: إبطال التنديد 47، وحاشية كتاب التوحيد 64.

ص: 104

وقال أيضا على حديث «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل (1)» اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين:

الأول: قول لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله.

فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها.

قال المصنف - يعني إمام الدعوة -: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع (2)

قلت - القائل الشيخ سليمان -: وقد أجمع العلماء على معنى ذلك، فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه، وترك الشرك، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) والفتنة هنا: الشرك (4) فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله، كما

(1) رواه مسلم 1/ 293 رقم 23.

(2)

كتاب التوحيد، ضمن القسم الأول من مؤلفات الشيخ الإمام 26.

(3)

سورة الأنفال الآية 39

(4)

راجع: تفسير القرآن العظيم 2/ 341.

ص: 105

قال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (1) وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2)، فأمر بقتالهم على فعل التوحيد، وترك الشرك، وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلي سبيلهم، ومتى أبوا عن فعلها، أو فعل شيء منها، فالقتال باق بحاله إجماعا، ولو قالوا لا إله إلا الله.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علق العصمة بما علقها الله به في كتابه، كما في الحديث (3) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (4)»

وفي الصحيحين عنه قال: لما توفي رسول الله، وكفر من كفر من

(1) سورة التوبة الآية 36

(2)

سورة التوبة الآية 5

(3)

يعني الحديث المتقدم.

(4)

رواه مسلم 1/ 291 رقم 21.

ص: 106

العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه، وحسابه على الله» ، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (1)». لفظ مسلم.

فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بها من غير التزام لمعناها وأحكامها، فكان ذلك هو الصواب، واتفق عليه الصحابة، ولم يختلف فيه منهم اثنان، إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق، وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة.

وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (2)» فهذا الحديث كآية براءة، بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتداء، فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا

(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285)، صحيح مسلم الإيمان (21)، سنن الترمذي الإيمان (2606)، سنن النسائي تحريم الدم (3978)، سنن أبي داود الجهاد (2640)، مسند أحمد (2/ 529).

(2)

رواه البخاري: كتاب الإيمان، باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) 1/ 95 رقم 25، ومسلم 1/ 293 رقم 22.

ص: 107

بحقه، فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله.

بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها، وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه، أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام، كالربا أو الزنا أو نحو ذلك، وجب قتالهم إجماعا، ولم تعصمهم لا إله إلا الله، ولا ما فعلوه من الأركان.

وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، وأنه ليس المراد منها مجرد النطق

ص: 108

ويقول صاحب التوضيح: «ومن عرف وحقق معنى الشهادتين اللذين هما رأس الإسلام وقوامه، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم شهد بهما، لزمه العمل بمقتضاهما قولا وفعلا واعتقادا، وترك المنافي لهما قولا وفعلا واعتقادا» (1)

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن: «وقد قيدت لا إله إلا الله في الأحاديث الصحيحة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا، فمن ذلك:

(1) التوضيح 40، وانظر منه 88.

ص: 108

حديث عتبان الذي في الصحيح: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (1)» ، وفي حديث آخر «صدقا من قلبه (2)» «خالصا من قلبه (3)» «مستيقنا بها (4)» «غير شاك (5)» .

فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود إذا اجتمعت له، مع العلم بمعناها ومضمونها (6)

ويقول: فلا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له ودلت عليه، وقبوله، والانقياد للعمل به

(1) صحيح البخاري الأطعمة (5401)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (33).

(2)

رواه البخاري: كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/ 272 رقم 128.

(3)

رواه البخاري: كتاب العلم، باب الحرص على الحديث 1/ 233 رقم 99.

(4)

رواه مسلم 1/ 324، 327 رقم 31.

(5)

صحيح مسلم الزكاة (987)، سنن أبي داود الزكاة (1658)، مسند أحمد (2/ 262).

(6)

الدرر السنية 2/ 243 - 244، وانظر: حاشية كتاب التوحيد 28.

ص: 109

ويقول الشيخ عبد الله أبا بطين: فمن قال لا إله إلا الله بصدق ويقين أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه، وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم «من قال لا إله إلا الله مخلصا

ص: 109

من قلبه دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار (1)»

وقيل للحسن البصري: إن ناسا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟

فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها [أدخلته الجنة]

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: «حديث البطاقة شاهد لكلام شيخنا، وأنه لا اعتبار بالأعمال إذا عدم التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، وأن رجحان الموازين لا يحصل إلا بتحقيق التوحيد والصدق والإخلاص في هذه الشهادة، وأن المشرك لا يقام له وزن» ، ثم قال:

(1) رواه الإمام أحمد في المسند 36/ 381 - 382 رقم 22060، والحميدي في المسند 1/ 362 رقم 373.

ص: 110

قال شيخ الإسلام تقي الدين في الكلام على حديث البطاقة: إن صاحب البطاقة أتى بهذه الشهادة بصدق وإخلاص ويقين، ولم يأت بما يخالفها ويضعفها، والصدق والإخلاص واليقين في هذا التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مكفر للذنوب، لا يبقى معه ذنب، كما أن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر (1)(2)

(1) انظر: الفتاوى 10/ 734 - 735، وسيأتي تحقيق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة.

(2)

مصباح الظلام 598 - 600.

ص: 110

وأما ما جاء عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تحقيقه لهذه المسألة، فمنه بيانه أن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد الجنان، وإقرار اللسان، وعمل الأركان، وأن العلماء جهلوا من اقتصر في تعريف مسماه على أحد هذه الثلاثة (1)

وقال: لا ينازع مسلم في أنه لا بد أن يكون بالقلب، فإنه لم يصدق ويعلم ويؤثر ما دلت عليه لا إله إلا الله، ويعمل بقلبه العمل الخاص، كالمحبة والإنابة والرضا والتوكل والخشية والرغبة والرهبة، فإن لم يحصل منه هذا بالكلية، فهو منافق.

ولا بد من الإقرار، فإنه إذا لم يقر بلسانه، كافر تجري عليه أحكام الكفار، بلا نزاع.

وكذلك العمل بالجوارح لا بد منه، فلا يكون مسلما إلا إذا ترك عبادة الطاغوت، وتباعد عنه، وعمل لله بمقتضى شهادة الإخلاص، من تسليم الوجه له، واجتناب الشرك، قولا وعملا، وترك الخضوع والسجود والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله، .. ، فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ في تعريف الإسلام بالشهادتين، ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط

(1) مصباح الظلام 202، وانظر منه 219، 237، 238.

ص: 111

في صحة الإتيان بهما

ولما ذكر ابن القيم رحمه الله أن من شعب الإيمان ما يزول الإيمان بزواله، كالشهادتين (1)

قال الشيخ عبد اللطيف معلقا: ومن المعلوم أن المقصود زوال حقيقة الشهادتين علما، وعملا، أو قولا، لا زوال مجرد القول واللفظ (2)

ويقول رحمه الله: أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان.

وهذا الأصل لا بد فيه من العلم، والعمل، والإقرار، بإجماع المسلمين.

ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائنا من كان، وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين

(1) انظر: الصلاة وحكم تاركها 50.

(2)

مصباح الظلام 535.

ص: 112

ويقول: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلما، بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية.

وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع التأكيدات، قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1)، فأكدوا بلفظ الشهادة، وإن المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية، فأكذبهم، وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع.

وبهذا تعلم أن مسمى الإيمان لا بد فيه من التصديق والعمل.

ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام، قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضا:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (2)، وقال تعالى:

(1) سورة المنافقون الآية 1

(2)

سورة البقرة الآية 85

ص: 113

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) الآية، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2)

ويقول: وكل من عقل عن الله يعلم علما ضروريا أن المقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من الحقيقة والمعنى، وما اشتملتا عليه من العلم والعمل، وأما مجرد اللفظ من غير علم بمعناهما، ولا اعتقاد لحقيقتهما، فهذا لا يفيد العبد شيئا، ولا يخلصه من شعب الشرك وفروعه قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (3)، وقال:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (4)، فالإيمان بمعناهما، والانقياد له لا يتصور ولا يتحقق إلا بعد العلم (5)

(1) سورة النساء الآية 150

(2)

سورة المؤمنون الآية 117

(3)

سورة محمد الآية 19

(4)

سورة الزخرف الآية 86

(5)

مصباح الظلام 161

ص: 114

ويقول الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله على حديث: «أدخله الله

ص: 114

الجنة على ما كان من العمل (1)»: أي من شهد أن لا معبود بحق إلا الله، وقام بوظائف هذه الكلمة، .. ، وليس المراد أن الإنسان إذا شهد بهذا من غير عمل بمقتضاه يحصل له دخول الجنة، بل المراد به الشهادة لله بالتوحيد، والعمل بما تقتضيه شهادة أن لا إله إلا الله من الإخلاص، وما تقتضيه شهادة أن محمدا عبده ورسوله من الإيمان به، وتصديقه، واتباعه (2)

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله: القول لا ينفع إلا مع علم القلب وإيمانه، ويقينه، والأعمال المصدقة لذلك (3)

ثم قال معلقا على حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (4)» :

كل من عقل عن الله علم علما ضروريا أن المقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من الحقيقة والمعنى، وما اشتملتا عليه من العلم والعمل.

وأما مجرد اللفظ من غير علم بمعناهما، ولا اعتقاد لحقيقتهما، فلا يفيد القائل شيئا، ولا يخلصه من شعب الشرك، بل يكونان حجة عليه" (5) ثم قال:

وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم محمد {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (6) بدأ بالعلم قبل القول والعمل؛ لأن القول لا ينفع إلا مع

(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435)، صحيح مسلم الإيمان (28).

(2)

إبطال التنديد 28.

(3)

السيف المسلول 112.

(4)

صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285)، صحيح مسلم الإيمان (20)، سنن الترمذي الإيمان (2607)، سنن النسائي تحريم الدم (3975)، سنن أبي داود الزكاة (1556)، مسند أحمد (2/ 529).

(5)

السيف المسلول 114.

(6)

سورة محمد الآية 19

ص: 115

علم القلب وإيمانه ويقينه، والأعمال تصدق ذلك أو تكذبه، فإذا تكلم بها العبد عالما بمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، بصدق وإخلاص ويقين نفعته.

وأما النطق بها من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها من نفي الشرك، وإخلاص القول، والعمل لله وحده، فغير نافع بإجماع المسلمين (1)

وهكذا في نقول كثيرة عن علماء الدعوة تدور حول هذا المعنى وهو أن القول لا يكفي بدون العمل.

وهذا الذي قرره هؤلاء الأعلام مطابق لما قرره الأئمة من قبلهم، وقد اهتموا رحمهم الله بنقل ذلك، ومما نقلوه:

(1) السيف المسلول 119.

ص: 116

(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7285)، صحيح مسلم الإيمان (20)، سنن الترمذي الإيمان (2607)، سنن النسائي تحريم الدم (3975)، سنن أبي داود الزكاة (1556)، مسند أحمد (2/ 529).

ص: 116

ويقول القاضي عياض رحمه الله: «اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله، إذ كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر: «وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة (1)»

وقال النووي رحمه الله: ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الرواية الأخرى «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به (2)»

(1) رواه مسلم 1/ 293 رقم 22.

(2)

الفواكه العذاب 73، والدرر السنية 10/ 317، وتيسير العزيز الحميد 121، وفتح المجيد 135، نقلا عن المنهاج شرح صحيح مسلم 1/ 286.

ص: 117

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل عن قتال التتار مع نطقهم الشهادتين: كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه،

ص: 117

وإن كانوا ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم.

قال: فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام أحكام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.

قال: وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة (1)

وقال رحمه الله في بحث حافل ساقه: اعتنى جمع من علماء الدعوة بنقله مطولا ومختصرا، منهم الشيخ سليمان بن عبد الله بعد إيراده لبعض نصوص الوعد قال

(1) مجموع الفتاوى 28/ 502 - 503 باختصار.

ص: 118

ومن أحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره أن " هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة؛ [لقوله صلى الله عليه وسلم:«خالصا من قلبه (1)» ، «غير شاك فيها (2)» ، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك] فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة.

[وتواترت بأن كثيرا] ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار، أو أكثرهم، ثم يخرج منها [وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله]

(1) صحيح البخاري العلم (99).

(2)

صحيح البخاري اللباس (5850)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (555)، سنن الترمذي الصلاة (400)، سنن النسائي القبلة (775)، مسند أحمد (3/ 189)، سنن الدارمي الصلاة (1377).

ص: 119

وتواترت الأحاديث بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1)

ولكن جاءت مقيدة بالإخلاص واليقين، وبموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عند الموت، فيحال بينه وبينها.

وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث الصحيح «فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته (2)» وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم.

ثم قال شيخ الإسلام: وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين، [ومات على ذلك امتنع أن تكون سيئاته راجحة على حسناته، بل كانت حسناته راجحة فيحرم على النار؛ لأنه إذا](3) قالها العبد بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، [وأخوف عنده من كل شيء](4) فلا يبقى في قلبه حينئذ إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما

(1) تقدم بعضها.

(2)

رواه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم 13/ 264 رقم 7287.

(3)

ما بين قوسين ليس في تيسير العزيز الحميد، ولا فتح المجيد، ولا الدرر السنية.

(4)

ما بين قوسين ليس في تيسير العزيز الحميد، ولا فتح المجيد، ولا الدرر السنية.

ص: 120

أمر الله، فهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كان له ذنوب، فهذا الإيمان، وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين، وهذه الكراهة لا يتركون له ذنبا إلا محي عنه كما يمحي النهار الليل.

فإن قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار.

وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه.

وهذا خلاف من رجحت سيئاته على حسناته، ومات [مصرا] على ذلك، فإنه يستوجب النار.

وإن كان قال: لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل قالها وأتى بعدها بسيئات رجحت على هذه الحسنات، فإنه في حال [قولها كان مخلصا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على

ص: 121

سيئاته] ولا يكون مصرا على سيئة، فإن مات قبل ذلك دخل الجنة.

ولكن بعد ذلك قد يأتي بسيئات راجحة، ولا يقولها بالإخلاص واليقين المانع من جميع السيئات، ومن الشرك الأكبر والأصغر، بل يبقى معه الشرك الأصغر، ويأتي بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك، فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف بسبب ذلك قول: لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن يختبر بها، من غير ذوق طعم ولا حلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل قد يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين الضعيف، وقد يقولونها من غير يقين وصدق تام، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة [تمنعهم من دخول الجنة، وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها، قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.

ص: 122

كما قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر

ص: 122

في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه (1) وقال بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن شيء وقر في قلبه.

فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبا وسيئات، وكان صادقا في قولها، موقنا بها، لكن له ذنوبه أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، رجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام، فإنه لا يموت مصرا على الذنوب]

فالذي قالها بيقين وصدق تام: إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.

والذين دخلوا النار قد فات فيهم أحد الشرطين:

إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافي للسيئات، أو لرجحانها على الحسنات.

أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، فيضعف لذلك صدقهم، ويقينهم، فلم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين يمحو سيئاتهم أو يرجح حسناتهم

(1) رواه ابن بطة بنحوه في: الإبانة الكبرى 2/ 805 رقم 1093، 1094.

ص: 123

ويقول شيخ الإسلام أيضا: ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، من قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} (1)، فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذه حقيقة قولنا: لا إله إلا الله، فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2)

ويقول ابن القيم رحمه الله في طبقات الناس في حال الطبقة السابعة عشر: والإسلام هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرا معاندا، فهو كافر جاهل، فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال

(1) سورة الزمر الآية 29

(2)

سورة غافر الآية 60

ص: 124

غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا، فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى، وكذب رسوله، إما عنادا أو جهلا وتقليدا لأهل العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند، فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم (1)

(1) الدرر السنية 11/ 480 - 481، ومنهاج التأسيس 224، نقلا عن طريق الهجرتين 676.

ص: 125

ويقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.

فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه، ولسانه، وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم، فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات (1)

(1) نقله الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد 75، وهو مختصر من جامع العلوم والحكم 2/ 416 - 417.

ص: 125

ويقول البقاعي رحمه الله: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن

ص: 125

يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف (1)

وبهذا التحقيق الحافل من هؤلاء الأعلام يتبين الموقف الحق من كلمة التوحيد ونصوص الوعد، وأنها مقيدة بقيود ثقال لا بد من الإتيان بها جميعا، قولا، واعتقادا، وعملا، وأن لا يأتي قائلها بعد بما يخالفها ويضعفها (2)

فلا إله إلا الله ليست باللسان فقط، بل لا بد للمسلم إذا لفظ بها أنه يعرف معناها بقلبه (3) ثم لا بد له إذا عرف معناها من العمل به، لا مجرد العلم، فهذا هو الإسلام واتباع ملة الأنبياء: العلم بذلك، والعمل به، لا مجرد العلم (4)

وهذه هي حقيقة الإسلام، وهي أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (5)، وقال تعالى:

(1) نقله في: فتح المجيد 68 - 69، وقرة عيون الموحدين 25، والدرر السنية 2/ 218، 357.

(2)

انظر: تيسير العزيز الحميد 72، والدرر السنية 2/ 243، ومصباح الظلام 600.

(3)

الدرر السنية 2/ 129.

(4)

الدرر السنية 13/ 253.

(5)

سورة البقرة الآية 112

ص: 126

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (1).

وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله (2)

فالإسلام ليس بمجرد الدعوى والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد، والخضوع، والإذعان بالربوبية والإلهية دون كل ما سواه (3)

ومن قال كلمة التوحيد صدقا ويقينا وإخلاصا، لا بد أن تكون حسناته راجحة على سيئاته

وهذا المعنى الجليل لكلمة التوحيد يندرج فيه كل من قالها، كصاحب البطاقة وغيره

وأيضا ثمت جواب آخر، وهو أن كلمة التوحيد قد تنفع من قالها عند الموت إذا كان عارفا لمعناها، معتقدا له في هذه الحال، وإن لم يعمل به؛ إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك، ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدا رسول الله.

(1) سورة لقمان الآية 22

(2)

انظر: الدرر السنية 2/ 254 - 255، ومجموعة الرسائل 2/ 6 - 7.

(3)

الدرر السنية 2/ 264.

ص: 127

وهذا مثل ما لو كان من أبي طالب لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم قولها، فإنه لو قالها في تلك الحال، معتقدا ما دلت عليه من النفي والإثبات، لنفعته ودخل بها الإسلام

وكذلك صاحب البطاقة قد يتناوله هذا الجواب أيضا، فإن الأعمال بالخواتيم

ويندرج في ذلك أيضا من قيل فيه: لم يعمل خيرا قط، كعتقاء الرحمن الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه وكالذي قتل مائة نفس، وقالت الملائكة فيه: لم يعمل خيرا قط (1)

فإن هذا النوع محمول على أنه لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، كما في بعض الروايات

(1) رواه مسلم 17/ 131 رقم 2766.

ص: 128