الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة
عبر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:
1 -
ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة (1)
2 -
دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة (2)
3 -
تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة (3)
4 -
مراعاة ترك المفسدة أولى (4)
5 -
ترك المصلحة خوف المفسدة (5)
وقد استنبط الحافظ من خمسة أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا
(1) فتح الباري (1/ 225).
(2)
فتح الباري (2/ 143).
(3)
فتح الباري (3/ 275).
(4)
فتح الباري (2/ 200، 5/ 113، 11/ 269).
(5)
فتح الباري (10/ 231).
وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم (1)»
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال:«خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، فيستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه» (2)
وقال في موضع آخر: «وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة» (3)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن نقض الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن عارضها مفسدة، وهي أن العرب لقرب عهدهم بالجاهلية، وصعوبة قبولهم لتغيير الكعبة عما كانت عليه فقد يحصل لهم فتنة، ويظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا؛ ليتفرد بالفخر والمجد، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أولى، لأجل تأليف القلوب
(1) أخرجه البخاري ح (1586)، ومسلم ح (1333)، والترمذي ح (875)، والنسائي ح (2900)، وابن ماجه ح (2955)، وأحمد (6/ 102)، ح (24753)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .
(2)
فتح الباري (1/ 225).
(3)
فتح الباري (3/ 448).
والخشية من الفتنة، ونفور الناس بسبب قرب عهدهم بالشرك والكفر.
وقد توارد الأئمة على ذكر هذا الاستنباط من الحديث، فترجم عليه البخاري بقوله:«باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه» (1)
قال القاضي عياض: «في قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا ترك بعض الأمور التي يستصوب عملها إذا خيف تولد ما هو أضر من تركه، واستلاف الناس على الإيمان» (2)
وقد روي أن هارون الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بناه الحجاج من الكعبة، وأن يرده إلى بنيان ابن الزبير فقال له: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد
(1) البخاري مع الفتح (1/ 224).
(2)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 428).
(3)
شرح النووي على مسلم (9/ 89).
منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس
قال ابن حجر - بعد أن أورد كلام الإمام مالك -: «وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهى منها، ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص، وقال له: لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت» (1)
(1) ينظر: فتح الباري (3/ 448)، والخبر في الملحق من أخبار مكة للفاكهي (5/ 229).
الحديث الثاني: حديث زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه فقلت له: «ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم فاختلفت أنا ومعاوية في: قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان فقال لي إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمروا علي حبشيا لسمعت وأطعت (2)»
(1) أخرجه البخاري ح (1406، 4660)، والنسائي في الكبرى ح (11154)، والربذة: موضع بينه وبين المدينة ثلاثة مراحل من طريق العراق، وتقع في الشرق، إلى الجنوب من بلدة الحناكية (مائة كيلو عن المدينة) وتبعد الربذة شمال مهد الذهب على مسافة (150) كيلا، وهي اليوم خراب. ينظر: معجم ما استعجم (1/ 633)، معجم البلدان (3/ 27)، فتح الباري (11/ 262)، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص (135)، المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص (125).
(2)
سورة التوبة الآية 34 (1){وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال:«فيه تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؛ لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بث علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه؛ لأن كلا منهما كان مجتهدا» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وهو أن عثمان رضي الله عنه رغب من أبي ذر رضي الله عنه أن يتنحى عن المدينة؛ لئلا يحصل ببقائه فتنة بين الناس؛ بسبب رأيه في مسألة الكنز، حيث كان أبو ذر رضي الله عنه يرى وجوب بذل ما زاد عن الكفاية وإنفاقه في سبيل الله، مع العلم أن الآية الكريمة قد جاء بيانها في الحديث النبوي، وهو أن المال الذي أديت زكاته فليس بكنز، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه – يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية
(1) فتح الباري (3/ 275).
إلى آخر الآية (2)»
وأخرج البخاري بسنده عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال (4)»
(1) أخرجه البخاري ح (1403)، ومسلم ح (987)، وأبو داود ح (1655)، وابن ماجه ح (1786)، وأحمد (2/ 355) ح (8646)
(2)
سورة آل عمران الآية 180 (1){وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
(3)
أخرجه البخاري ح (1404)
(4)
سورة التوبة الآية 34 (3){وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الحديث الثالث: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر (1)»
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: «يؤخذ منه أن دفع
(1) أخرجه البخاري ح (2465)، ومسلم ح (2121)، وأبو داود ح (4782)، وأحمد (3/ 36) ح (11327).
المفسدة أولى من جلب المصلحة، لندبه أولا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة» (1)
وما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر وقد بين وجه الدلالة من الحديث للقاعدة، وقد بسط غير واحد من الأئمة هذا الاستنباط من الحديث، قال الطبري (ت: 321 هـ): «فيه الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التى يسلم لازمها من رؤية ما يكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، مما يجب عليه إنكاره، ومن معاونة مستغيث يلزمه إعانته، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أذن فى الجلوس بالأفنية والطرق بعد نهيه عنه، إذا كان من يقوم بالمعاني التى ذكرها عليه السلام» (2)
وقال القرطبي: «وهذا الحديث إنكار للجلوس على الطرقات، وزجر عنه، لكن محمله على ما إذا لم ترهق إلى ذلك حاجة كما قالوا: ما لنا من ذلك بد نتحدث فيها، لكن العلماء فهموا أن ذلك المنع ليس على جهة التحريم، وإنما هو من باب سد الذرائع، والإرشاد إلى الأصلح، ولذلك قالوا: إنما قعدنا لغير ما بأس، قعدنا نتذاكر ونتحدث، أي: نتذاكر العلم والدين، ونتحدث بالمصالح والخير، ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، وتحقق
(1) فتح الباري (5/ 113).
(2)
ينظر: شرح ابن بطال (6/ 589 - 590).
حاجتهم إليه أباح لهم ذلك، ثم نبههم على ما يتعين عليهم في مجالسهم تلك من الأحكام» (1)
(1) المفهم (5/ 486).
(1)" أخرجه البخاري ح (5763)، ومسلم ح (2189)، والنسائي في الكبرى ح (7569)، وابن ماجه ح (3545)، وأحمد (6/ 57) ح (24345)، قوله: أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه: أي أجابني بما سألته عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه وتعالى أن يطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. ينظر: فتح الباري (10/ 228). قوله: مطبوب: أي مسحور، يقال: طب الرجل: بالضم: إذا سحر، ينظر: تهذيب اللغة (13/ 302)، النهاية (3/ 110)، اللسان، طبب (1/ 553)، فتح الباري (10/ 228)، مشط: هو الآلة المعروفة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية، مشاطة: الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط، وكذا من اللحية، قوله: وجف طلع نخلة ذكر: هو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى. ينظر: تهذيب اللغة (11/ 318)، النهاية (4/ 334)، اللسان، مشط، (7/ 402)، قوله: بئر ذروان: - بفتح الذال المعجمة وسكون الراء - هي بئر في منازل بني زريق، كأن ماءها نقاعة الحناء: أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء، يعني أحمر، قوله: كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين: وفي رواية: «فإذا نخلها الذي يشرب من مائها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين»، قوله: أثور على الناس، في رواية: «أثير» قال الحافظ: «هما بمعنى». ينظر: فتح الباري (10/ 231). "
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال: قوله في الحديث: «يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا فأمر بها فدفنت» ، قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين، من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك؛ وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة»
وما نقله الحافظ عن النووي – رحمهما الله – ظاهر الدلالة للقاعدة، وقد بين فيما نقله عن النووي وجه الاستدلال، وقد أشار إلى هذا القاضي عياض فقال: قوله: «كرهت أن أثير على الناس شرا: يريد – والله أعلم – يثير عليهم شرا بإخراجها واطلاع بعضهم عليها، وتعلم السحر وعمله لمن يراها، فأمر بدفن البئر، أي ردمها» (1)
وقال القرطبي: «قوله: فأمرت بها فدفنت: أي البئر، يعني أنها ردمت على السحر الذي فيها، لما يخاف من ضرر السحر، ومن ضرر ماء ذلك البئر» (2)
(1) إكمال المعلم (7/ 91).
(2)
المفهم (5/ 573).
الحديث الخامس: حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم (1)» وذلك في رمضان.
ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة:
(1) أخرجه البخاري ح (1129)، ومسلم ح (761)، وأبو داود ح (1368)، والنسائي ح (1604)، وأحمد (6/ 177) ح (25485).
«تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة» ، فقال:«في الحديث: ترك بعض المصالح لخوف المفسدة» (1)
ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مصلحة الصلاة بأصحابه في المسجد لخوف مفسدة، وهي خشية أن تفرض عليهم الصلاة بالليل فيعجزوا عنها.
(1) فتح الباري (3/ 14).
(2)
إكمال المعلم (3/ 114).
(3)
شرح النووي على مسلم (6/ 41، 69).