الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الاستقامة:
وهي لزوم المنهج الحق والمسلك السديد والعمل الرشيد، وهي عمل القلب بالاعتقاد السليم وعمل اللسان بالقول الرشيد وعمل الجوارح بالفعل السديد إخلاصا لله ورغبة في ثوابه واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهي كذلك تطبيق ما علمه المسلم من أمور دينه فهي العمل الصالح الذي هو ثمرة العلم النافع
ولهذا جاء الأمر بالاستقامة كثيرا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام آمرا له وللمؤمنين بالاستقامة وناهيا لهم عن ضدها، وهو الطغيان، الذي يعني مجاوزة الحدود في كل شيء {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1).
وأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بالاستقامة فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (2).
(1) سورة هود الآية 112
(2)
سورة فصلت الآية 6
وأمر الله - جل وعلا - بها موسى وهارون عليهما السلام في قوله سبحانه: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1)، وبين سبحانه وتعالى الجزاء العظيم والفضل الكبير للاستقامة في قوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2){أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3)، وفي قوله سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (4){نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (5)، وفي قوله تعالى:{وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (6){لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} (7).
وبالاستقامة كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه ويأمرهم بها، فعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: «قل آمنت ثم استقم (8)» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن ينجو أحد
(1) سورة يونس الآية 89
(2)
سورة الأحقاف الآية 13
(3)
سورة الأحقاف الآية 14
(4)
سورة فصلت الآية 30
(5)
سورة فصلت الآية 31
(6)
سورة الجن الآية 16
(7)
سورة الجن الآية 17
(8)
صحيح مسلم / كتاب الإيمان: باب جامع أوصاف الإسلام / ح55.
منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته (1)».
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن (2)»
فالمطلوب الاستقامة وهي السداد، فإن لم يقدر فالمقاربة وهي دونها، فإن نزل عن المقاربة فما بقي إلا الضياع والتفريط (3)
والاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات (4)
كما أنها تعني لزوم المنهج الوسط بإخلاص وهو الطريق المستقيم الذي لا غلو فيه ولا جفاء ولا إفراط ولا تفريط، إذ الشيطان حريص على إغواء بني آدم بطريقين مهلكين هما طريق الإفراط وطريق التفريط
(1) صحيح البخاري / كتاب الرقاق: باب القصد والمداومة على العمل / ح5986، وصحيح مسلم / كتاب صفة القيامة والجنة والنار: باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله / 5043.
(2)
سنن ابن ماجه / كتاب الطهارة وسننها: باب المحافظة على الوضوء / 273 (صححه الألباني: صحيح سنن ابن ماجه: 224).
(3)
انظر مدارج السالكين / ابن القيم (مصر: دار الحديث: د0ت) 2/ 109.
(4)
انظر المرجع السابق 2/ 110.
يقول الإمام ابن القيم: (والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلا له: إن هذا خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر، وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما:«يا عبد الله بن عمرو إن لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة أفلح، ومن كانت فترته إلى بدعة خاب وخسر (1)» قال له ذلك حين أمره بالاقتصاد في العمل، فكل الخير في اجتهاد باقتصاد وإخلاص مقرون بالاتباع كما قال بعض الصحابة: (اقتصاد في سبيل
(1) رواه أحمد في كتاب المكثرين مسند عبد الله بن عمرو حديث 6664.