الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها (1)»
وجاء في حديث عند البخاري عن أسامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يجاء بالرجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه، فيطوف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا أفعله وأنهى عن المنكر وأفعله (2)» فكيف يسوغ لداعية أن يدعو لأمر وهو على خلافه وينهى عن شيء وهو مرتكب له، وهذا بلا شك هو الازدواجية المذمومة التي تعني التناقض بين الأقوال وبين الأعمال، وبين التنظير وبين التطبيق، ومعلوم أن تلك الازدواجية من أعظم القوادح في شخصية الإنسان أيا كان فضلا عن أن يكون داعية إلى الله.
(1) صحيح مسلم / كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل / 4899.
(2)
صحيح البخاري / كتاب الفتن: باب الفتنة التي تموج كموج البحر / 6569.
المطلب الثالث: الحكمة:
أصل الحكمة في اللغة: المنع يقال (حكمت) عليه بكذا إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، و (الحكمة) – بالفتح - للدابة ما أحاط بحنكيها من حبل ونحوه سميت بذلك لأنها تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه، ومنه اشتقاق (الحكمة) لأنها تمنع
صاحبها من أخلاق الأرذال
…
و (أحكمت) الشيء، بالألف: أتقنته، (فاستحكم) هو صار كذلك (1)(ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي)(2)
وتأتي الحكمة بمعنى العدل والعلم والحلم والإتقان والضبط، ومن معانيها في القرآن الكريم: النبوة والقرآن والسنة
وتعرف في الاصطلاح بأنها: (إصابة الحق بالعلم والعقل) وكذلك بأنها: (الإصابة في القول والفعل) وكذلك بأنها: (معرفة الحق والعمل به) وبأنها: (وضع الشيء في موضعه) وبأنها: (فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)
وكلها معان متقاربة، فالحكمة محورها على الفكر القويم والقول الرشيد والعمل السديد.
قال النووي: (وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة، قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها أن الحكمة
(1) انظر: المصباح المنير / أحمد الفيومي (بيروت المكتبة العصرية: ط2: 1418)79.
(2)
التفسير الكبير / الرازي (بيروت: دار إحياء التراث العربي: ط1: 1415) 3/ 59.
عبارة عن العلم المتصف بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك) (1)
والحكمة خير كثير ونعمة كبرى يمتن الله بها على من يشاء من عباده ويشرفهم بها ويرفع قدرهم ويعلي شأنهم وذلك لآثارها العظيمة وثمارها الجليلة، وصاحب الحكمة محمود عند الله وعند الخلق، كما قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2).
ولعظم شأن الحكمة امتن الله تعالى بها على خير خلقه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: «{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (3)» .
ووصف الله وحيه لرسوله صلى الله عليه وسلم بالحكمة فقال تعالى: «{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} (4)» .
(1) صحيح مسلم بشرح النووي (مؤسسة قرطبة: 1412) 2/ 38.
(2)
سورة البقرة الآية 269
(3)
سورة النساء الآية 113
(4)
سورة الإسراء الآية 39
وامتن الله تعالى بها على أنبيائه عليهم السلام، فقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1).
والحكمة هي مما تفضل الله به على الخليل إبراهيم عليه السلام وآله، كما جاء في قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (2).
وامتن الله تعالى بها على نبيه عيسى عليه السلام، فقال تعالى:{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (3)، وقال تعالى:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (4)، وهي حقيقة دعوته عليه السلام لبني إسرائيل، يقول
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2)
سورة النساء الآية 54
(3)
سورة المائدة الآية 110
(4)
سورة آل عمران الآية 48
وأكرم الله تعالى بها نبيه داود عليه السلام كما في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2).
كما أكرم بها سليمان عليه السلام فقال تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (3).
وشرف بها تعالى العبد الصالح لقمان في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (4).
والحكمة هي مما دعا به الخليل عليه السلام ربه لهذه الأمة كما جاء في قوله سبحانه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5).
(1) سورة الزخرف الآية 63
(2)
سورة البقرة الآية 251
(3)
سورة ص الآية 20
(4)
سورة لقمان الآية 12
(5)
سورة البقرة الآية 129
والحكمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم نعم الله على هذه الأمة، قال تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (1).
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2)، وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3)، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4).
والحكمة من أعظم ما يغبط عليها من رزقها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها (5)»
(1) سورة البقرة الآية 151
(2)
سورة البقرة الآية 231
(3)
سورة آل عمران الآية 164
(4)
سورة الجمعة الآية 2
(5)
صحيح البخاري / كتاب العلم: باب الاغتباط بالعلم والحكمة / 73.
ولعظم شأن الحكمة دعا بها النبي الكريم لابن عباس رضي الله عنهما، فعن ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة (1)»
وقال البخاري: والحكمة الإصابة في غير النبوة (2)
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكمة مرتين (3)»
ومن وجدت عنده مظاهر الحكمة فهو حري بأن يصاحب ويرافق، فعن أبي خلاد - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهدا في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة (4)»
ولأهمية الحكمة وضرورتها فالمسلم مطالب بالبحث عنها وتحصيلها والتقاطها أيا كان مصدرها، لأنه الأحق بها من غيره والأجدر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها (5)»
(1) صحيح البخاري / كتاب المناقب: باب ذكر مناقب ابن عباس رضي الله عنهما / 3473.
(2)
صحيح البخاري / كتاب المناقب: باب ذكر مناقب ابن عباس رضي الله عنهما / 3473.
(3)
سنن الترمذي / كتاب المناقب: باب مناقب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما / 3759 (صححه الألباني: صحيح سنن الترمذي: 3003).
(4)
سنن ابن ماجه / كتاب الزهد: باب الزهد في الدنيا / 4091.
(5)
سنن الترمذي / كتاب العلم: باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة / 2611، وسنن ابن ماجه / كتاب الزهد: باب الحكمة / 4159.