الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو يحمل على عدم تمكنه من أداء ما افترض الله عليهم، بل بمجرد أدنى إيمان في قلبه وشهادته بلسانه خرمته المنية، أو هو معذور بالجهل (1)
والمقصود أن النصوص المحكمة قد قضت بأن لا بد من العمل للنجاة من النار، فلا تعارض بمتشابه يتعلق به من في قلبه زيغ، وهذه الأجوبة أحدها كاف في نقض احتجاج المرجئة بنصوص الوعد، والحمد لله رب العالمين.
(1) انظر: التوضيح 105 - 106، والدرر السنية 10/ 245 - 246، مجموعة الرسائل 1/ 196.
الحجة الثانية من حجج المرجئة: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله
.
بنى المرجئة على هذا الأصل إخراج العمل من الإيمان، فإن مرتكب الكبيرة مقصر في العمل، والإيمان لا يتجزأ، ولا يتبعض، بل هو شيء واحد، إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلو كان العمل من الإيمان للزم منه تكفير أهل الذنوب، وهذا قول الخوارج (1)
يقول إمام الدعوة: وأما كون لا إله إلا الله تجمع الدين كله،
(1) انظر: مصباح الظلام 587 - 588.
وإخراج من قالها من النار إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.
وسر المسألة: أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه ذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج.
فالذي يقول: الأعمال كلها من لا إله إلا الله، فقوله الحق، والذي يقول: يخرج من النار من قالها وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق.
السبب: ما ذكرت لك من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي غلط أبو حنيفة وأصحابه في زعمهم أن الأعمال ليست من الإيمان (1)
وقد نقل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (2) عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع.
وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.
قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.
(1) الدرر السنية 2/ 66، والرسائل الشخصية 122، وراجع: الإيمان الأوسط 7/ 510 - 511.
(2)
في مصباح الظلام 592 - 593.
وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر.
ونصوص الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه، كقوله:«يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان (1)»
فهذه الشبهة مبنية على كون الإيمان شيئا واحدا، وأنه يلزم من زوال بعضه زواله كله.
وكلا الأمرين باطل، فلا الإيمان شيء واحد، ولا يلزم من زوال بعضه زوال كله.
فأما كون الإيمان شعبا وأجزاء، فهو منطوق قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (2)» وعلى هذا المعنى تواردت نصوص الكتاب والسنة، وهو مما انعقد عليه إجماع السلف.
(1) الفتاوى 7/ 223.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان 1/ 67 رقم 9، ومسلم 1/ 63 رقم 35.
يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: والإيمان الشرعي: قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح
وأما كون الإيمان لا يلزم من زوال بعضه زواله كله؛ فلأن أجزاء الشيء تختلف شرعا وطبعا، فبعض هذه الأشياء قد يكون شرطا في البعض الآخر، وبعضها قد لا يكون شرطا فيه، وبحسب الشيء يكون حكمه على المركب (1) وهذا ما لم تفهمه الوعيدية ولا المرجئة، فإنهم ظنوا أن زوال أي شيء من شعب الإيمان يلزم منه زواله كله، وهذا ما خالفهم فيه أهل السنة، إذ عندهم أن الإيمان يمكن ذهاب بعضه، وبقاء بعضه (2) ولا يزول كله إلا بترك أصله الذي هو شهادة لا إله إلا الله، والالتزام بمعناها، والعمل بمقتضاها، وأما بقية الشعب التي هي دون الأصل والأركان، فلا يكفر بتركها إلا من يكفر بالذنوب كالخوارج (3)
وأما من ترك واجبا، أو فعل محرما، كما هو حال مرتكب الكبيرة، فإنه لا يستقيم إيمانه، لا أنه لا يصح (4)
(1) انظر: التوضيح 116، والدرر السنية 12/ 451 - 452، وراجع: الإيمان الأوسط 7/ 517 - 520.
(2)
انظر: مصباح الظلام 595، وتقدم قريبا قول شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا ما تدل عليه النصوص.
(3)
انظر: مصباح الظلام 534.
(4)
انظر: مصباح الظلام 111.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تحقيقه لهذه المسألة: الإيمان أصل له شعب متعددة، كل شعبة منها تسمى إيمانا، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
فمنها: ما يزول الإيمان بزواله إجماعا، كشعبة الشهادتين، ومنها: ما لا يزول بزواله إجماعا، كترك إماطة الأذى عن الطريق.
وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوتة، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
وكذلك الكفر أيضا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء والأحكام.
وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف، وبين من يسرق، ويزني، أو يشرب، أو ينهب، أو صدر منه نوع موالاة، كما جرى لحاطب.
فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
الأصل الثالث: أن الإيمان مركب من قول وعمل.
والقول قسمان: قول القلب، وهو: اعتقاده، وقول اللسان، وهو: التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب، وهو: قصده، واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه، وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة.
فإذا زال تصديق القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية.
وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والحج، والجهاد، مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف:
هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يزول؟ وهل يكفر تاركه أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده.
والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمنا.
والخلاف في أعمال الجوارح هل يكفر أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة.
والمعروف عند السلف: تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج
والقول الثاني: أنه لا يكفر إلا من جحدها.
والثالث: الفرق بين الصلاة وغيرها.
وهذه الأقوال معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا بينها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه، وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرا، وما لم يسمه.
هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها
وقال رحمه الله في موضع آخر عند قول ابن القيم رحمه الله: ولما كان الإيمان أصلا له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانا، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة، كالحياء والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان.
وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها، كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب (1)
(1) الصلاة وحكم تاركها 49 - 50.
علق الشيخ عبد اللطيف على كلام ابن القيم هذا بقوله: بل شيخنا – يعني إمام الدعوة – رحمه الله لم يكفر إلا بترك العمل بشهادة أن لا إله إلا الله، وباتخاذ الآلهة والأنداد مع الله، وقد نص في هذه العبارة المنقولة أن الشعب منها ما يزول الإيمان بزواله كالشهادتين، وهذه هي مسألة النزاع، فإن من شهد لله بالوحدانية، ولم يلتزم ذلك، ولم ينقد لمقتضاه لا يكون مؤمنا.
وكذلك شهادة أن محمدا رسول الله لا بد فيها من التزام ما جاء به من الإيمان بالله وتوحيده، وإلا فلا تنفعه هذه الشهادة، ولا يسمى شاهدا قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1)، فأكذبهم في زعمهم؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضى الشهادة، بل خالفوها بالعمل والاعتقاد (2)
وذكر رحمه الله أن الباطل عند الخوارج هو التكفير بالذنوب، وأما التوحيد الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، فإنه «لا ينازع مسلم في أنه لا بد أن يكون بالقلب، فإنه لم يصدق ويعلم ويؤثر ما دلت عليه لا إله إلا الله، ويعمل بقلبه العمل الخاص، كالمحبة والإنابة والرضا والتوكل والخشية والرغبة والرهبة، فإن لم يحصل منه هذا بالكلية، فهو منافق» .
(1) سورة المنافقون الآية 1
(2)
مصباح الظلام 531 - 532، وانظر: الدرر السنية 12/ 259.
ولا بد من الإقرار، فإنه إذا لم يقر بلسانه، كافر تجري عليه أحكام الكفار، بلا نزاع.
وكذلك العمل بالجوارح لا بد منه، فلا يكون مسلما إلا إذا ترك عبادة الطاغوت، وتباعد عنه، وعمل لله بمقتضى شهادة الإخلاص، من تسليم الوجه له، واجتناب الشرك، قولا وعملا، وترك الخضوع والسجود والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله،
…
فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ في تعريف الإسلام بالشهادتين.
ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط في صحة الإتيان بهما، وهذا لا يخفى على من شم رائحة العلم، وإنما خالف الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره من الناس، وأما الديوان الأكبر، وهو ظلم الشرك، فلا خلاف بين أهل السنة والخوارج في التكفير بالشرك الأكبر، بعد قيام الحجة الرسالية (1)
ثم نقل رحمه الله قول شيخ الإسلام ابن تيمية في نفي مشابهة قول أهل السنة لقول الخوارج، وأن الذي ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار.
(1) مصباح الظلام 590، وانظر: الدرر السنية 1/ 523.