الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الله عز وجل، والنصح للمؤمنين، ومحبة الخير للناس كافة، والصدع بكلمة الحق، ومدافعة الباطل، والرد على دعاته، والبذل الواسع في ذلك، والاستعلاء على حظوظ الدنيا وشهواتها.
ولقد كان للشيخ ابن باز – رحمه الله – القدح المعلى، والحظ الوافر من ذلك كله، كما بلغ غاية بعيدة المنال في محبة القلوب له، وثناء الناس عليه، وحمدهم لأعماله ومساعيه، وثقتهم بعلمه ونصحه، وتلقيهم بالقبول ما صدر عنه، وليس – رحمه الله – بمعصوم، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ثانيا: النصح
النصح والنصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن: إرادة الخير للمنصوح له وهي عماد الدين وقوامه، فعن تميم الداري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الدين النصيحة» قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1)»
وقد بين العلماء معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومنه يتضح أنها ذات شقين:
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55).
أحدهما: يتعلق بالنفس؛ وذلك بحملها على ما توجبه النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
والآخر: يتعلق بالناس، بأداء حقوقهم، ودعوتهم وتوجيههم إلى مقتضى النصيحة في ذلك كله، وهو ما يحصل به كمال التبليغ والبيان.
والنصح للناس – أئمتهم وعامتهم – هو هدي الأنبياء والمرسلين وخواص المؤمنين، كما قال الله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)، وقال تعالى عن هود عليه السلام:{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (2)، وقال تعالى عن صالح عليه السلام:{يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (3)، وقال تعالى عن شعيب عليه السلام:{وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (4).
وعن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (5)»
(1) سورة الأعراف الآية 62
(2)
سورة الأعراف الآية 68
(3)
سورة الأعراف الآية 79
(4)
سورة الأعراف الآية 93
(5)
متفق عليه، أخرجه البخاري في الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، رقم (57)، ومسلم في الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (56).
وقال بكر بن عبد الله المزني: «ما فاق أبو بكر – رضي الله عنه – أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا بصلاة، ولكن بشيء كان في قلبه» . قال: «الذي في قلبه الحب لله عز وجل، والنصيحة في خلقه» (1)
والنصح للخلق متى اقترن به كمال العلم، وكمال البيان، فإن الدعوة والتبليغ يقعان على أتم وجه وأكمله.
ومن ينظر في تراث الشيخ ابن باز – رحمه الله – ويتعرف على سيرته، يجد عنايته التامة بقاعدة النصيحة، وحرصه الشديد على القيام بهذه الفريضة العظيمة، حيث أمضى عامة عمره في التعليم والإفتاء، والتأليف، والدعوة إلى الله، ونشر محاسن الدين، والذب عنه، إلى غير ذلك من أعمال الخير والبر.
(1) ابن رجب، جامع العلوم والحكم ص71.
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 136).
ويمكن إجمال منهجه في النصيحة من خلال القواعد الآتية:
الأولى:
تقديمه لما هو أهم وألزم مما جاءت به الشريعة، في البيان والدعوة، ولذا كان في أغلب محاضراته ومخاطباته، وما يلقيه من كلمات يتجه إلى تقرير مسائل العقيدة، وبيانها، وتفصيل القول فيها، والتحذير مما يضادها، وهو في هذا مقتف أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وسالك سبيله القويم «فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع، وهو الشرك بالله سبحانه، فلم يزل صلى الله عليه وسلم من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين، ثم أمر بالصلاة، ثم ببقية الشرائع، وهكذا الدعاة بعده عليهم أن يسلكوا سبيله، وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالأهم» (1)
وإذا كان الشيخ – رحمه الله – يقرر أنه: «إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره، بل يجب عليه ذلك حسب طاقته؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه» (2)
ولذا لم يغفل الشيخ – رحمه الله – جوانب الشريعة الأخرى، فكتب الرسائل والمختصرات الواضحة في بيان أحكام الصلاة والزكاة
(1) ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 321).
(2)
المرجع السابق، الصفحة نفسها.
والصوم والحج، فجاءت عظيمة النفع يسيرة الفهم من عامة الناس.
كما كتب في الأخلاق والآداب، وله محاضرات قيمة في ذلك.
ومع هذا كله فقد كانت عنايته بالعقيدة وأحكامها ظاهرة جلية، ولعل الذي حمله على ذلك هو كثرة الخلل فيها، وانتشار مظاهر الشرك في كثير من البلاد الإسلامية، ولما كان يتمتع به خطاب الشيخ – رحمه الله – من العموم حيث تصل أصداؤه إلى عامة البلاد الإسلامية وغيرها.
الثانية:
عنايته بالنصيحة لولاة الأمر من الأمراء والعلماء؛ لأن لهم من القدرة والأثر في حياة الناس ما ليس لغيرهم وفي الأثر: «صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء (1)»
أما الولاة فإنهم إذا استقاموا على طاعة الله، وأخذوا بشرعه، صلحت أحوال الناس، وانتظمت أمورهم، وقامت مصالحهم، وعاشوا حياة كريمة.
يقول الشيخ ابن باز – رحمه الله: «ومعلوم ما يحصل من ولاة
(1) روي مرفوعا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح، بل قال الألباني: موضوع، وجاء نحوه من قول سفيان الثوري – رحمه الله انظر: أبا نعيم، حلية الأولياء (4/ 96)(7/ 5)، دار الكتاب العربي، ط4 سنة 1405هـ. الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1/ 25) المكتب الإسلامي، بيروت ط 4 سنة 1398هـ.
الأمر المسلمين من الخير والمنفعة العظيمة؛ من إقامة الحدود، ونصر الحق، ونصر المظلوم، وحل المشاكل، وإقامة الحدود والقصاص، والعناية بأسباب الأمن، والأخذ على السفيه الظالم. . .» (1)
ولذا كانت النصيحة لهم من ألزم الأمور، وتكون بالسمع والطاعة لهم في المعروف، والدعاء لهم، والتعاون معهم على الخير، ونصيحتهم بالرفق واللين، كتابة أو مشافهة، واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم ونقدهم في وسائل الإعلام وعلى المنابر، لما في ذلك من الضرر والفساد الكبير (2)
وقد كان الشيخ – رحمه الله – يدعو إلى هذا المسلك الإيجابي الرشيد، ويأخذ به، وهذا المنهج هو المتوافق مع ما جاء به الشرع؛ فقد قال الله – عز وجل –:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3)، ففي الآية «توجيه من الله سبحانه لرسوليه: موسى وهارون لما بعثهما لفرعون ليتأسى بذلك الدعاة، ويتخلقوا به في دعوتهم إلى الله، لا سيما مع الرؤساء والعظماء. .» (4)
وأما العلماء بشرع الله تعالى فهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته،
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (9/ 95 – 96).
(2)
انظر: المرجع السابق (7/ 271 – 311)(9/ 98).
(3)
سورة طه الآية 44
(4)
ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 271).
والمحيون لما مات من سنته، الناطقون بالحق والداعون إليه، والعارفون بالشر والمحذرون منه، بهم يعرف الحلال والحرام، وبهم يعبد الله تعالى على نور وبصيرة.
ولمكانة العلماء، وعموم نفعهم، وعظم حاجة الناس إليهم، فقد عني الشيخ ابن باز – رحمه الله تعالى – باستنهاض هممهم إلى أن يقوموا بواجبهم في تبليغ دين الله تعالى، والدعوة إليه، والترغيب في الاستقامة عليه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، مستفيدين في ذلك كله من منجزات العصر، وما استجد من وسائل إعلامية وغيرها، وأن يصبروا على ذلك حتى يحصل بهم المقصود.
يقول الشيخ – رحمه الله: «فالواجب على أهل العلم والإيمان، وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب [الدعوة إلى الله]، وأن يتكاتفوا فيه، وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله، ولا يخشوا في الله لومة لائم.
فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة، وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا» (1)
ويتحدث – رحمه الله – عن دعاة الباطل من اليهود والنصارى، ومن تشبه بهم من هذه الأمة ممن ينشرون الأفكار الهدامة، والدعايات المضللة، ويدعون إلى الرذيلة، ويؤكد لزوم التصدي لهم فيقول: «وإني لأرى لزاما على الذين لم يساهموا في هذا الميدان من القراء النابهين،
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 331 – 333).
والعلماء المبرزين أن ينفضوا عنهم غبار الكسل وشبه التواكل، وأن يقتحموا الميدان بصدق وشجاعة وعلم وحلم حتى ينصروا دينهم ويحموا شريعتهم، ويهدوا الناس إليها، ويرشدوهم إلى الصراط المستقيم، ولهم بذلك مثل أجور أتباعهم إلى يوم القيامة، كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (1)» (2)
(1) رواه مسلم، في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، رقم (2674).
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 400)، وانظر:(9/ 224).
الثالثة:
ومن أوجه النصيحة التي امتاز بها الشيخ – رحمه الله – وقوفه مع طلبة العلم والدعاة، والمشتغلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشد أزرهم، والسعي في حل مشكلاتهم، وترشيد حركتهم، ورد ما يفتريه عليهم أهل الضلالة من دعاوى باطلة، وافتراءات كاذبة.
فأسهم بذلك في تنشيط الدعوة إلى الله، وتسديد سعيها، وتنمية إيجابياتها.
بل إن الشيخ – رحمه الله – تصدى لمن يقدح في طلبة العلم والدعاة إلى الله، واشتد نكيره على من يقدم على ذلك ولو كان من المنتسبين للعلم، ولا سيما لمن يعلن ذلك وينشره: «لما في ذلك من
التنقيص للدعاة إلى الحق، وتثبيط عزائمهم، وتشجيع أهل الفسق ضدهم، في وقت تكاتف فيه دعاة الباطل والمذاهب الهدامة على نشر باطلهم وإعلان مذاهبهم» (1)
وإذا كان قد يقع من طلبة العلم أو الدعاة أخطاء، أو اجتهادات لا يوافقون عليها، فإن:«الواجب على المسلم حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل، وعلاج ما قد يقع من الخطأ بالطرق الشرعية التي تبني ولا تهدم، وتشجع الحق ولا تخذله، وتنصر الحق وتدمغ الباطل، لا أن يظن بهم السوء، ويشجع على إماتة دعوتهم، وتشويه سمعتهم، وتشجيع أهل الباطل ضدهم، وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم» (2)
ولا ينسى – رحمه الله – هؤلاء المخالفين لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من النصيحة، فيقول: «فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سببا في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال، والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها، وتكلف ذلك.
كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها مما يبرؤون فيه
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/ 214)، وانظر:(7/ 316 – 319).
(2)
المرجع السابق (3/ 215)، وانظر:(7/ 318).
أنفسهم من مثل هذا الفعل، ويزيلوا ما علق بأذهان من يستمع إليه من قولهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد. . .» (1)
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 318).
الرابعة:
أنه كان يتفاعل مع بيئته وأحوال مجتمعه، وقضايا أمته، ويشعر بالمسؤولية – لما رزقه الله تعالى من العلم والبصيرة – عما يخل بعقائد الناس أو يقدح في إيمانهم وأخلاقهم، ومن ذلك:
أنه إذا نزلت نازلة من النوازل، أو استجدت معاملة من المعاملات، أو انتشرت شائعة بين الناس، بادر – رحمه الله – للكتابة فيها، أو إصدار فتوى عامة ونشرها بين الناس
أنه كان يقف مع قضايا المسلمين، ويبذل الجهد في التخفيف من آلامهم ومعاناتهم، ويحث حكام المسلمين على ذلك، ويرغب عامة المسلمين في الوقوف مع إخوانهم في شدائدهم وكربهم بما يستطيعون من دعم مادي ومعنوي كما يدعم المواقف الإيجابية من حكام