الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتعلم من تجاربهم.
ولا شك أن من يرزق الحكمة ويوفق لها قد حاز على خير عظيم وفضل كبير، قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1).
(1) سورة البقرة الآية 269
الحكمة الدعوية:
والحكمة من أعظم الركائز وأهمها التي تقوم عليها الدعوة إلى الله، ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو بها في قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1)
والحكمة في المفهوم الدعوي لا تقتصر على الكلام اللين، أو أسلوب الترغيب وحده، أو التودد والتلطف دوما فحسب، بل هي تشمل ذلك وغيره وحقيقتها أن توضع هذه الأمور وغيرها من التصرفات الحميدة والأساليب الجميلة وتستخدم في مواضعها المناسبة لها، فالرفق واللين يستخدمان في موضعهما والحزم والقوة يستخدمان في موضعهما المناسب لهما.
والحكمة لا تعني بأي حال من الأحوال الضعف والخور والجبن
(1) سورة النحل الآية 125
ولا تعني كذلك العنف والقسوة والشدة دون مبرر شرعي. يقول الشنقيطي رحمه الله: (واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين وطريق قسوة؛ أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت وهو المطلوب، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (1)، ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (2)
والداعية الحكيم هو الذي يقوم بالدعوة على بصيرة ويبلغها بكل ثقة ويؤديها بكل دقة وإتقان فيضع الأمور في نصابها ويقدرها حق قدرها.
فمن الحكمة ألا يدعو الداعي إلا بعلم ومعرفة وأن يكون هدفه في دعوته ابتغاء مرضاة الله وتعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يترفع عما في أيدي الناس وأن يحب الخير لهم ويحسن إليهم، وأن يعرض (عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه
(1) سورة الحديد الآية 25
(2)
أضواء البيان / الشنقيطي (بيروت: عالم الكتب: د0ت) 2/ 175.
ولبه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك) (1)
ومن الحكمة في منهج الدعوة: التدرج في الدعوة، ومراعاة الأولويات فيها، والبدء بالأهم فما دونه، والعناية بالأصول قبل الفروع ويدل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب (2)»
(1) التحرير والتنوير / ابن عاشور (تونس: دار سحنون: 1997) 20/ 145.
(2)
صحيح البخاري / كتاب الزكاة: باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء
…
/1496، وصحيح مسلم / كتاب الإيمان: باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام / 27.
ومن الحكمة في موضوعات الدعوة: اختيار الموضوع المناسب للمدعو، كما هو الحال في دعوة موسى وهارون عليهما السلام لفرعون؛ حيث كانت حال فرعون ظلم بني إسرائيل وإيذاءهم واضطهادهم والتضييق عليهم، فكان موضوع دعوتهما له بعد التوحيد رفع الظلم عن بني إسرائيل وترك الطغيان، وهذا ما يناسب حاله، يقول تعالى:
{فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (1)، وقال تعالى لموسى:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (2){فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (3){وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (4){فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} (5){فَكَذَّبَ وَعَصَى} (6){ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} (7){فَحَشَرَ فَنَادَى} (8){فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (9){فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} (10){إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} (11).
وكذلك الحال في دعوة لوط عليه السلام لقومه، حيث دعاهم بعد التوحيد إلى ترك الفاحشة التي كانت شائعة بينهم، فكان موضوع الدعوة مناسبا لحالهم، وهذا من الحكمة، يقول تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} (12){إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (13){إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (14){فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (15){وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (16){أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (17){وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (18).
وكذلك الحال في دعوة شعيب عليه السلام لقومه، حيث دعاهم بعد التوحيد إلى إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس حقوقهم، وهذا هو المناسب لحالهم، يقول تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (19){وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (20){بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (21)
(1) سورة طه الآية 47
(2)
سورة النازعات الآية 17
(3)
سورة النازعات الآية 18
(4)
سورة النازعات الآية 19
(5)
سورة النازعات الآية 20
(6)
سورة النازعات الآية 21
(7)
سورة النازعات الآية 22
(8)
سورة النازعات الآية 23
(9)
سورة النازعات الآية 24
(10)
سورة النازعات الآية 25
(11)
سورة النازعات الآية 26
(12)
سورة الشعراء الآية 160
(13)
سورة الشعراء الآية 161
(14)
سورة الشعراء الآية 162
(15)
سورة الشعراء الآية 163
(16)
سورة الشعراء الآية 164
(17)
سورة الشعراء الآية 165
(18)
سورة الشعراء الآية 166
(19)
سورة هود الآية 84
(20)
سورة هود الآية 85
(21)
سورة هود الآية 86
ومن الحكمة في الدعوة اختيار الوقت المناسب لعرضها واستغلال الفرص المناسبة والظروف المواتية لتبليغها، وتجنب الأوقات والأحوال التي لا تتهيأ النفوس فيها للاستماع والاستيعاب، ويدل على ذلك ما جاء في قوله تعالى عن موسى وفرعون والسحرة:{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (1) فاختيار ضحوة ذلك اليوم الذي يجتمع فيه الناس في مكان مكشوف ليرى كل الناس المناظرة الحاسمة (2) هو عين الحكمة وكانت نتيجة المواجهة الحكيمة بعد توفيق الله أن تحول السحرة الكفرة الفجرة إلى مؤمنين أتقياء بررة، ويدل على ذلك أيضا ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا (3)» ومما يدل على ذلك أيضا ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حدث الناس كل جمعة مرة
(1) سورة طه الآية 59
(2)
انظر: محاسن التأويل / القاسمي (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي: 1415) 5/ 105.
(3)
صحيح البخاري / كتاب العلم: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم / 66، وصحيح مسلم / كتاب صفة القيامة والجنة والنار: باب الاقتصاد في الموعظة / 5047.
فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرار، ولا تمل الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقص عليهم فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه، فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) (1)
(1) صحيح البخاري / كتاب الدعوات: باب ما يكره من السجع في الدعاء / 5862.
ومن الحكمة في الدعوة عدم تأخير البيان عن وقته، وقول الحق في الظرف الذي يستدعي قوله فيه كما في قصة مؤمن آل فرعون الذي قال الحق واعترض على فرعون في تهديده بقتل موسى عليه السلام:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (1).
ومن الحكمة الدعوية في مجال المدعوين: معرفة الداعي للمدعو من حيث طبيعته ومستواه وإمكاناته وظروفه وأحواله، واختيار المدعو المناسب لقدرات الداعية وإمكاناته، وظروفه، والتعامل مع المدعو بما يناسب أحواله وطبائعه ومراعاة مدارك المدعوين وعقولهم وإنزال الناس منازلهم، ويدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود
(1) سورة غافر الآية 28
رضي الله عنه أنه قال: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة (1)»
وأيضا ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم (2)» وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلوا الناس منازلهم (3)»
(1) صحيح مسلم / كتاب المقدمة: باب النهي عن الحديث بكل ما سمع / 5.
(2)
صحيح مسلم / كتاب المقدمة: 1/ 6.
(3)
سنن أبي داود / كتاب الأدب: باب في تنزيل الناس منازلهم / 4202.
ومن الحكمة الدعوية في مجال الأساليب والوسائل: اختيار الأسلوب والوسيلة التي تناسب الموضوع وتناسب المدعو، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} (1)
…
، وهذا من الحكمة.
ومنها عدم التصريح بصاحب الخطأ والاكتفاء بالخطأ حينما لا تدعو الحاجة الشرعية لذلك، كما في قوله عليه الصلاة والسلام كثيرا:«ما بال أقوام (2)» ، مثل ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2)
صحيح البخاري الأدب (6101)، صحيح مسلم الفضائل (2356)، مسند أحمد (6/ 181).