الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنهم – للنصوص فلم يمنعهم ذلك من معايشة واقعهم، ومعالجة مستجداته، وحسن الانتفاع بمعطيات عصورهم وبيئاتهم، بل والتفاعل مع الثقافات الأخرى، واستثمار إيجابياتها النافعة، والبناء عليها، مع كشف زيف السلبيات الضارة فيها لوقاية الإنسان من آثارها السيئة على سعادته الدنيوية والأخروية
رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط
تمثل قواعد الاستنباط موازين مستقيمة تسدد حركة العقل، وتضبط الاجتهاد، ويؤدي الأخذ بها إلى الوصول إلى نتائج صحيحة ومقبولة.
وبغياب هذه الأصول والقواعد يكون الإدراك غير سالم من التأثر بالأهواء وغيرها من المؤثرات التي تجعل تفكير المرء جائرا، ينأى عن الحق، ويبعد عن الصواب، ولا يسلم غالبا من الاختلاف والتناقض. وقواعد الاستنباط متنوعة؛ منها ما يتعلق بدلالة الألفاظ، وخواص اللفظ من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، ومنطوق ومفهوم،. . . ومن قواعده «يثبت الحكم في جميع ما يتناوله العام حتى يقوم دليل التخصيص» ، «والمطلق يجب العمل به على إطلاقه إذا لم يكن هناك قيد يقيده» .
ومن قواعد الاستنباط ما يتعلق برفع التعارض بين الأدلة التي يوهم ظاهرها التعارض، بالجمع أو الترجيح، أو نسخ المتقدم من النصوص بالمتأخر منها.
ومنها ما يتعلق بتنزيل الوقائع على القواعد العامة؛ كالمصالح المرسلة، ورفع الحرج، وجلب المصالح ودرء المفاسد، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين، والنظر في المآلات، وسد الذرائع إلى غير ذلك من الأصول والقواعد الضابطة للاستدلال والاستنباط.
وإذا عدنا إلى الشيخ ابن باز – رحمه الله – فإننا نجده يسير على خطى الراسخين في العلم في الالتزام بقواعد الاستنباط والاستدلال، وأول ذلك بيانه أنه يتابع الإمام أحمد في الأصول التي سار عليها، وفي هذا يقول: «مذهبي في الفقه هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – وليس على سبيل التقليد، ولكن على سبيل الاتباع في الأصول التي سار عليها.
أما مسائل الخلاف فمنهجي فيها هو ترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه، والفتوى بذلك سواء وافق مذهب الحنابلة أم خالفه، لأن الحق أحق بالاتباع، وقد قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)(2)
(1) سورة النساء الآية 59
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/ 166)، وانظر (8/ 38).
وأصول الإمام أحمد تشمل القواعد التي اعتمدها في الاستمداد والاستنباط، وقد بين الإمام ابن القيم أصول مذهب الإمام أحمد فقال:
وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول:
أحدها: النصوص، فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا من خالفه كائنا من كان. .
الأصل الثاني: ما أفتى به الصحابة، فإذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها.
الأصل الثالث: إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم.
الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده – الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به، بل الحديث الضعيف – عنده – قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن.
الأصل الخامس: القياس، إذا لم يكن عنده نص ولا قول الصحابة أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله
للضرورة. .» (1)
وإذا كان الشيخ ابن باز يختار اتباع الإمام أحمد في الأصول التي سار عليها، فإن هذا في الجملة، وإلا فإن الشيخ – رحمه الله تعالى – يذهب إلى قول جمهور أهل العلم في عدم الاحتجاج بالمرسل وفي هذا يقول:«والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم كما نقل عنهم الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه التمهيد، هذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه. .» (2)
وأيضا فإن الحديث الحسن لغيره، والذي هو القسم الرابع من أقسام الحديث المقبول – وهو من الضعيف المقبول عند أحمد – يرى الشيخ ابن باز عدم الأخذ به في الأصول؛ ومراده عدم الجزم بالإيجاب أو التحريم بناء عليه، بل غاية ذلك أن يحمل ما جاء في الحديث الحسن لغيره من الأمر على الاستحباب، وما جاء فيه من النهي على الكراهة، وذلك لأن الأصل – كما يقول الشيخ – في الحديث الحسن لغيره الضعف ولكن تقوى بنحوه، فيستأنس به، ولكن لا يعتمد عليه في
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 29 – 32)، مختصرا.
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/ 261).
الإيجاب أو التحريم (1)
ثم هو بعد ذلك يؤكد لزوم الأخذ بقواعد الاستدلال والاستنباط للوصول إلى الحق، وحتى لا تضل الأفهام، أو تميل مع الأهواء وزخرف القول، يقول الشيخ – رحمه الله:«قد أجمع علماء المسلمين – من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا – على أن الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح من الكتاب أو السنة الصحيحة، فليست محلا للاجتهاد، بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص وترك ما خالفه، وقد نص العلماء على ذلك في كل مذهب من المذاهب المتبعة، ثم الاجتهاد – حيث جاز – إنما يكون من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين لهم قدم راسخ في معرفة أصول الأدلة الشرعية، وأصول الفقه والحديث، ولهم باع واسع في معرفة اللغة العربية» (2)
ولذا فإن واجب العامة وأشباههم أن يسألوا أهل العلم، وأن يتحروا من هو أقرب إلى السداد والاستقامة، ليرشدهم إلى الحق الموافق لشرع الله تعالى (3) وأما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك فهذا من الأغلاط الكبيرة (4)
(1) انظر: ابن باز – شرح بلوغ المرام – باب الوضوء، حديث رقم (55)، في الأشرطة المسجلة.
(2)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 116 - 117). وانظر (7/ 128 – 129).
(3)
انظر: المرجع السابق (2/ 312).
(4)
انظر: المرجع السابق (7/ 234).
وأما عن التزام الشيخ ابن باز بقواعد الاستدلال والاستنباط في فتاويه ومؤلفاته وسائر ما صدر عنه؛ فتقيده بنصوص الكتاب والسنة وتقديمها على غيرها أظهر من أن يستدل له، وأما ما لا نص فيه فهو يجتهد في بيان مأخذ الحكم والأصل أو القاعدة التي صدر عنها فيما يختاره ويفتي به، ومن شواهد ذلك ما يلي:
- اختياره تحريم تعليق التمائم من القرآن بناء على قاعدة «سد الذرائع» وقاعدة: «يثبت الحكم في جميع ما يتناوله العام حتى يقوم دليل التخصيص» ، يقول – رحمه الله: «وأما إذا كانت [التميمة] من القرآن، أو من دعوات معروفة طيبة، فهذه اختلف فيها العلماء؛ فقال بعضهم: يجوز تعليقها، ويروى هذا عن جماعة من السلف، جعلوها كالقراءة على المريض (1)
والقول الثاني: أنها لا تجوز، وهذا هو المعروف عن عبد الله بن مسعود، وحذيفة رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، قالوا: لا يجوز تعليقها ولو كانت من القرآن، سدا للذريعة، وحسما لمادة الشر، وعملا بالعموم؛ لأن الأحاديث المانعة من التمائم أحاديث عامة لم تستثن شيئا والواجب الأخذ بالعموم، فلا يجوز شيء من التمائم
(1) المرجع السابق (7/ 234).
أصلا، لأن ذلك يفضي إلى تعليق غيرها والتباس الأمر» (1)
- وبناء على قاعدة «سد الذرائع» أيضا، يرى تحريم الاختلاط بين البنين والبنات في المراحل الابتدائية؛ سدا لذريعة المعصية والفساد، وفي هذا يقول: «ولا شك أن اجتماعهم في المرحلة الابتدائية كل يوم وسيلة لذلك [يعني الوقوع في الفاحشة]، كما أنه وسيلة للاختلاط فيما بعد ذلك من المراحل.
وبكل حال فاختلاط البنين والبنات في المراحل الابتدائية منكر لا يجوز فعله، لما يترتب عليه من أنواع الشرور، وقد جاءت الشريعة الكاملة بوجوب سد الذرائع المفضية للشرك والمعاصي، وقد دل على ذلك دلائل كثيرة من الآيات والأحاديث. . ويكفي ما يجري في الدول المجاورة وغيرها من الفساد الكبير بسبب الاختلاط» (2)
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 51)، وانظر (5/ 306).
(2)
المرجع السابق (4/ 245 – 246).
- وعند حديث الشيخ ابن باز عن أدلة وجوب الحجاب وتحريم السفور، ومنها قوله تعالى:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (1)، يعتمد القواعد الأصولية في الاستدلال فيقول: «فإذا كان الوجه هو أصل الزينة – بلا نزاع – في النقل والعقل، فإن الله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها، وهذا عموم لا مخصص له من الكتاب
(1) سورة النور الآية 31
والسنة، ولا يجوز تخصيصه بقول فلان أو فلان، فأي قول من أقوال الناس يخصص هذا العموم مرفوض؛ لأن عموم القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه بأقوال البشر، ولا يجوز تخصيصه عن طريق الاحتمالات الظنية، أو الاجتهادات الفردية، فلا يخصص عموم القرآن إلا بالقرآن، أو بما يثبت في السنة المطهرة، أو بإجماع سلف الأمة، ولذلك نقول: كيف يسوغ تحريم الفرع وهو الزينة المكتسبة، وإباحة الأصل وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية»
- وفي باب التعبد، يعتمد الشيخ – رحمه الله – القاعدة العامة:«الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله» فلا يجوز فيها القياس، لأنها لا تثبت إلا بالنص من كلام الله عز وجل، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2)» وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3)»
وقد بنى الشيخ على هذه القاعدة:
حرمة سؤال الله تعالى بحق أوليائه، أو بجاه أوليائه، أو بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه، فهو «بدعة – عند جمهور أهل العلم – ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة، وكيفيته من الأمور التوقيفية، ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق، فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه» (4)
(1) سورة الشورى الآية 21
(2)
أخرجه البخاري ومسلم، البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور من الصلح مردود، ومسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718).
(3)
أخرجه مسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، رقم (1718).
(4)
ابن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/ 325).
ومما بناه على القاعدة السابقة – أيضا – عدم مشروعية إهداء ثواب القرب إلى غيره؛ من صلاة أو تلاوة أو ذكر. .، فلا يشرع من ذلك إلا ما دلت النصوص على جوازه، وهي:«الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، - إذا كان المحجوج عنه والمعتمر عنه ميتا أو عاجزا لهرم أو مرض لا يرجى برؤه – وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» (1)
ولا شك أن الأخذ بهذه القاعدة الجليلة من شأنه أن يقطع سبل البدع، ويوصد أبوابها، ويصون عبادة المسلم من أن يشوبها ما يكون سببا في حبوطها، ويلحقها بالبدع المحدثة.
- كما يظهر اعتماد الشيخ القواعد الأصولية عند حديثه عن الجهاد وفضله وأحكامه ومراحله، فيذكر أن الجهاد في الإسلام كان على أطوار ثلاثة:
«الطور الأول: الإذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام، كما في قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (2).
الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين، والكف عمن كف
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (5/ 361 – 362)، (8/ 361).
(2)
سورة الحج الآية 39
عنهم، وفي هذا النوع نزل قوله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (1)، وقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2)، في قول جماعة من أهل العلم.
الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ ليعم الخير أهل الأرض، وتتسع رقعة الإسلام، ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد.
وهذا الذي استقر عليه أمر الإسلام، وتوفي عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه قوله عز وجل:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (3)، وقوله سبحانه:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (4)(5)
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن الطور الثاني؛ وهو القتال لمن قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم قد نسخ؛ لأنه كان في حال
(1) سورة البقرة الآية 256
(2)
سورة البقرة الآية 190
(3)
سورة التوبة الآية 5
(4)
سورة الأنفال الآية 39
(5)
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (18/ 73 – 75) مختصرا، وانظر: 131 – 132.