المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الرابعاحتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٨٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الافتتاحية

- ‌الفتاوى

- ‌ التختم بالفضة):

- ‌ دبلة الخطوبة: من ذهب، أو فضة ـ للرجل والمرأة)

- ‌ تحلي الرجال بالجواهر):

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌الديون التي لم يحصل عليها صاحبهالا تمنع من دفع الزكاة إليه

- ‌حكم دفع الزكاة إلى الفقيرالمسلم إذا كان لديه بعض المعاصي

- ‌حكم دفع الزكاة للعاجز عن الزواج

- ‌حكم تسديد ديون المعسرين من الزكاة

- ‌حكم إسقاط الدين عمنلم يستطع الوفاء واحتسابه من الزكاة

- ‌حكم دفع الزكاة لمنكوبي المجاعة في الصومال

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

- ‌من فتاوىاللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌قبض اليدين وإرسالهما في الصلاةإرسال اليدين في الصلاة

- ‌ صلاة المرسل يده في الصلاة

- ‌ وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

- ‌البحوث

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد في بيان المراد بعلماء الدعوة

- ‌الفصل الأول: التعريف بالمرجئة، ونشأتها، وفرقها

- ‌المبحث الأول: التعريف بالمرجئة

- ‌المبحث الثاني: نشأة الإرجاء

- ‌المبحث الثالث: فرق المرجئة

- ‌الفصل الثاني: آراء المرجئة في مسائل الإيمان

- ‌المبحث الأول: مسمى الإيمان عند المرجئة

- ‌أولا: مرجئة الفقهاء

- ‌ثانيا: جهمية المرجئة

- ‌ثالثا: الكرامية

- ‌المبحث الثاني: زيادة الإيمان ونقصانه عند المرجئة

- ‌المبحث الثالث: حكم الاستثناء في الإيمان عند المرجئة

- ‌المذهب الثاني: أنه يجب الاستثناء في الإيمان

- ‌المبحث الرابع: مرتكب الكبيرة عند المرجئة

- ‌الفصل الثالث: نقض حجج المرجئة

- ‌الحجة الأولى: نصوص الوعد

- ‌الحجة الثانية من حجج المرجئة: أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله

- ‌الحجة الثالثة: اللغة

- ‌الحجة الرابعة: المجاز

- ‌الفصل الرابع: حكم المرجئة عند علماء الدعوة

- ‌الخاتمة

- ‌ركائز منهج السلف في الدعوة إلى الله

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأول: تعريفات ومفاهيم

- ‌المبحث الثاني: ركائز المنهج

- ‌المطلب الأول: العلم

- ‌أدلة فضل العلم:

- ‌درجات العلوم:

- ‌العلم الدعوي:

- ‌المطلب الثاني: الاستقامة:

- ‌استقامة الداعي:

- ‌المطلب الثالث: الحكمة:

- ‌أنواع الحكمة وأسباب تحصيلها:

- ‌الحكمة الدعوية:

- ‌المطلب الرابع: سلامة الأساليب والوسائل الدعوية

- ‌أنواع الأساليب الدعوية

- ‌الوسائل الدعوية

- ‌المطلب الخامس: الصبر:

- ‌فضل الصبر

- ‌أقسام الصبر

- ‌صبر الدعوة:

- ‌الخاتمة

- ‌أثر الفتوى في تأكيد وسطية الأمة

- ‌المقدمة:

- ‌التمهيد:

- ‌ الوسطية في اللغة

- ‌المراد بوسطية الأمة في الاصطلاح الشرعي:

- ‌المبحث الأول:أثر الفتوى في إقامة الدين بين المسلمين:

- ‌المبحث الثاني:أثر الفتوى في التصدي للغلو:

- ‌الغلو في اللغة:

- ‌والمراد بالغلو شرعا:

- ‌المبحث الثالث:أثر الفتوى في التصدي للجفاء:

- ‌الجفاء في اللغة:

- ‌وتظهر ملامح الجفاء فيما يلي:

- ‌ الاعتقاد:

- ‌ الإعراض والتساهل في الأمور العملية مأمورا بها أو منهيا عنها:

- ‌المبحث الرابع:الوسطية في الفتوى:

- ‌المبحث الخامس:أثر الفتوى في انتظام أحوال المستفتي على الشرع:

- ‌المبحث السادس:أثر الفتوى في محافظة المجتمع المسلم على هويته الإسلامية:

- ‌المبحث السابع:أثر الفتوى في رسوخ الأمن في المجتمع الإسلامي:

- ‌الخاتمة:

- ‌مراعاة جلب المصالح ودفع المفاسد في السنة

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: ترجمة موجزة للحافظ ابن حجر:

- ‌ثانيا: تعريف موجز بكتاب «فتح الباري»:

- ‌المبحث الأولتحصيل أعظم المصلحتين بترك أدناهما

- ‌المبحث الثانيتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة

- ‌المبحث الثالثتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة

- ‌المبحث الرابعاحتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما

- ‌خاتمة

- ‌المنهج العلمي والخلقي عند سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المقدمة

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌هدف البحث:

- ‌خطة البحث:

- ‌منهج البحث:

- ‌نبذة موجزة عن حياة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌المبحث الأول: المنهج العلمي في الاستمداد والاستدلال

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الاستمداد من الكتاب والسنة

- ‌ثانيا: اعتماد النصوص الصحيحة في الاستدلال

- ‌ثالثا: اتباع سلف الأمة في فهم النصوص

- ‌رابعا: الأخذ بالقواعد والأصول في الاستنباط

- ‌المبحث الثاني: المنهج الخلقي في التبليغ والبيان

- ‌التعريف:

- ‌أولا: الصدق والإخلاص

- ‌ثانيا: النصح

- ‌ثالثا: الوضوح

- ‌رابعا: القوة في الحق مع الرفق واللين

- ‌خامسا: التواضع

- ‌سادسا: القدوة

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المبحث الرابعاحتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما

‌المبحث الرابع

احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما

.

عبر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في كتابه «فتح الباري» من خلال استنباطه من الأحاديث عن هذه القاعدة بعبارات متنوعة منها:

1 -

دفع أشد المفسدتين بأخفهما (1)

2 -

جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما (2)

3 -

دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما (3)

4 -

ارتكاب أخف المفسدتين إذا استلزم إزالة أشدهما (4)

5 -

ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما (5)

6 -

ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما (6)

7 -

جواز ارتكاب أخف الضررين (7)

8 -

اختيار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين (8)

وقد استنبط الحافظ من ثمانية أحاديث ما يشهد لهذه القاعدة، وهذه

(1) فتح الباري (1/ 329).

(2)

فتح الباري (8/ 422).

(3)

فتح الباري (1/ 325).

(4)

فتح الباري (5/ 191).

(5)

فتح الباري (8/ 468).

(6)

فتح الباري (9/ 462).

(7)

فتح الباري (10/ 431).

(8)

فتح الباري (13/ 11).

ص: 305

الأحاديث هي:

الحديث الأول: حديث سعيد بن جبير قال: «إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال سلوني قلت: أي أبا عباس جعلني الله فداءك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ولى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى، قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين .... الحديث، وفيه: «حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا عبد الله الصالح .... لا نحمله بأجر، فخرقها ووتد فيها وتدا قال موسى: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ كانت الأولى نسيانا والوسطى شرطا، والثالثة عمدا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرا لقيا غلاما فقتله (1)»

ذكر الحافظ رحمه الله في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال: «وأما

(1) أخرجه البخاري ح (4726)، ومسلم ح (2380)، والترمذي ح (3149)، وأحمد (5/ 116) ح (21147)، تماريت: أي تجادلت، ينظر: اللسان، مرا، (15/ 275).

ص: 306

من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، والإغضاء على بعض المنكرات مخافة أن يتولد منه ما هو أشد، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه كخصاء البهيمة للسمن وقطع أذنها لتتميز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم خشية ذهابه بجميعه فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه» (1)

ووجه ما ذكره الحافظ ظاهر وهو أن الخضر عليه السلام خرق السفينة، وهذه مفسدة لكنه قصد بذلك دفع مفسدة أكبر وهي خوف ذهاب السفينة كلها، حيث يوجد ملك في طريقهم يستولي على السفن غصبا كما قال سبحانه وتعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (2)، وفي رواية عند البخاري:«وقرأ ابن عباس أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا (3)» فيكون تصرف الخضر حكيما حيث ارتكب أخف الضررين، وهو إفساد جزء من السفينة لدفع أعظم الضررين، وهو أخذ السفينة من قبل الملك الذي وراءهم، ويقال هذا أيضا في قتل الغلام، فقتله مفسدة، ولكن الخضر

(1) فتح الباري (8/ 422).

(2)

سورة الكهف الآية 79

(3)

أخرجه البخاري ح (3401).

ص: 307

ارتكب هذه المفسدة لدفع مفسدة أكبر وهي خشية أن يضل الغلام أبويه، ويصرفهما عن الدين، وفي رواية مسلم:«وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا (1)»

وقد فعل الخضر ذلك بأمر الله تعالى قال سبحانه وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (2).

(1) أخرجه مسلم ح (2380).

(2)

سورة الكهف الآية 82

ص: 308

الحديث الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين (1)»

ذكر الحافظ – رحمه الله في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال:«قال ابن دقيق العيد: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما»

(1) أخرجه البخاري ح (220)، ومسلم ح (284)، وأبو داود ح (383)، والترمذي ح (147)، والنسائي ح (56)، وابن ماجه ح (529)، وأحمد (2/ 282) ح (7786)، وابن خزيمة ح (297) وابن حبان كما في الإحسان ح (1399).

ص: 308

ووجه ما نقله الحافظ عن ابن دقيق العيد ظاهر، وهو أن ترك الأعرابي يستمر في بوله في المسجد مفسدة لما فيه من زيادة التنجيس، وتركه على هذا العمل المحرم الذي لا يليق بالمسجد لكنها احتملت لدفع مفسدة أكبر، وهي الضرر الذي يحصل بقطع بوله، وما يحصل من تنجيس ثيابه ومواضع أخرى من المسجد.

قال الحافظ في موضع آخر: «وإنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة فلو منع لزادت إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما أن لا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد» (1)

وقال ابن الملقن: «فيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن زجره» (2)

(1) فتح الباري (1/ 323).

(2)

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 698).

ص: 309

الحديث الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام وقية فأعينيني فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن

ص: 309

يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق (1)»

(1) أخرجه البخاري ح (2168)، ومسلم ح (1504)، وأبو داود ح (3925)، والترمذي ح (1256)، والنسائي ح (3448)، وأحمد (6/ 33)، ح (24099)، قال الحافظ في الفتح (1/ 551):«حديث عائشة هذا في قصة بريرة، أخرجه البخاري في مواضع أخرى من البيوع والعتق وغيرهما، واعتنى به جماعة من الأئمة فأفردوه بالتصنيف» . كاتبت: فاعلت من الكتابة التي هي العقد، وإما من معنى الإلزام كما في قوله تعالى:(إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)، كأن السيد ألزم نفسه عتق العبد عند الأداء، والعبد ألزم نفسه المال الذي كاتب عليه. ينظر: النهاية (4/ 148) اللسان، كتب، (1/ 698) أهلي: المراد بالأهل هنا سادتها، والأهل في الأصل الآل، أواق: جمع: أوقية – بضم الهمزة، وتشديد التحتانية – أربعون درهما بالاتفاق، ووقع في بعض نسخ مسلم «وقية» بغير ألف وهي لغة، والجمهور على إثبات الألف، ينظر: تهذيب اللغة (9/ 375)، اللسان، وقى (15/ 401)، فتح الباري (3/ 310). فأعينيني: بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة، وفي رواية «فأعيتني» بصيغة الخبر الماضي من الإعياء، والضمير للأواقي، أي أعجزتني عن تحصيلها، وهو متجه المعنى. ينظر: فتح الباري (5/ 190). الولاء: بفتح الواو والمد، وأصله من الولى وهو القرب والدنو، وحقيقة الولاء: حق ثبت بوصف هو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجه من الوجوه؛ لأن ما ثبت بوصف يدوم بدوامه، ولا يستحقه إلا من قام بذلك الوصف، فكما أن الأبوة والجدودة لا تنقل، كذلك الولاء، ويترتب على الولاء أن المعتق وهو السيد يرث من المعتق. ينظر: النهاية (5/ 227)، اللسان، ولى (15/ 405)، الفتح (5/ 167). أعتق: العتق في الشرع إزالة الرق عن آدمي تقربا إلى الله تعالى، مأخوذ من قولهم: عتق الفرس: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: إذا طار، والعبد بالعتق يتخلص ويذهب. ينظر: النهاية (3/ 179)، اللسان، عتق، (10/ 234)، فتح الباري (5/ 146).

ص: 310

ذكر الحافظ رحمه الله في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال:«يستفاد منه ارتكاب أخف المفسدتين، إذا استلزم إزالة أشدهما» (1)

ووجه ما ذكره الحافظ – رحمه الله – هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة – رضي الله عنها – أن تشترط لهم الولاء، وهو لا يصح لهم، لأن الولاء لا يباع ولا يوهب وفي ظاهر هذا الاشتراط إيهام لهم أن لهم الولاء، وهذه مفسدة احتملت من أجل خشية أن يحجم موالي بريرة عن بيعها إذا علموا أن الولاء ليس لهم، وفي هذا تأخير لعتقها وحريتها، والشارع يتشوف إلى العتق.

(1) فتح الباري (5/ 191).

ص: 311

لكن هذا الاستنباط فيه نظر، فقد اختلف العلماء في توجيه قوله صلى الله عليه وسلم:«واشترطي لهم الولاء (1)» ، ولهذا قال الحافظ – رحمه الله – بعد ذكره الاستنباط للقاعدة:«وتعقب بأنه استدلال بمختلف فيه على مختلف فيه» (2)

والذي يظهر والله أعلم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «واشترطي لهم الولاء» التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم ولا يفيدهم شيئا، وأن مثل هذا اشتهر ولا يخفى على أهل بريرة، حيث تقرر في الشرع أن الولاء لمن أعتق، ولهذا جاء في رواية: «اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاءوا

(3)» واشتد نكيره صلى الله عليه وسلم عليهم بقوله «ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق (4)» ، وقد توسع الحافظ في بيان توجيهات الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم:«واشترطي لهم الولاء (5)»

(1) صحيح البخاري الشروط (2729)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن الترمذي البيوع (1256)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).

(2)

فتح الباري (5/ 191).

(3)

أخرجه البخاري ح (2565).

(4)

صحيح البخاري الشروط (2729)، صحيح مسلم العتق (1504)، سنن النسائي الطلاق (3451)، سنن أبي داود العتق (3929)، سنن ابن ماجه الأحكام (2521)، مسند أحمد (6/ 213)، موطأ مالك العتق والولاء (1519).

(5)

فتح الباري (5/ 190)، وينظر: زاد المعاد (5/ 146).

ص: 312

الحديث الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله منه ...... الحديث بطوله، وفيه:

«وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله

ص: 312

عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال:«يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا .... (1)»

قال الحافظ: «قوله: «وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير (2)» هذا الكلام الذي قاله علي

(1) أخرجه البخاري ح (2661)، ومسلم ح (2770)، والترمذي ح (3180)، وأحمد (6/ 194) ح (25664)، وقول بريرة: أمرا أغمصه عليها: أي أعيبها به، وأطعن به عليها. ينظر: النهاية (3/ 386)، اللسان، غمص (7/ 61)، فتح الباري (8/ 470)، والداجن: الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى، وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقا شاة أو طيرا. ينظر: النهاية (2/ 102)، القاموس المحيط ص (1541)، اللسان، دجن، (13/ 147)، فتح الباري (8/ 470)، فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول: قال الخطابي: «أي طلب من يعذره منه، أي ينصفه منه، يقول: من يعذرني من فلان

ويتأول ذلك على وجهين: أحدهما: من يقوم بعذره فيما يأتيه إلي من المكروه، والوجه الآخر: من يقوم بعذري إن عاقبته على سوء فعله».، وقيل: معنى من يعذرني: من ينصرني وينتقم لي منه، ينظر: أعلام الحديث (2/ 1311)، النهاية (3/ 196)، اللسان، عذر (4/ 545)، فتح الباري (8/ 470).

(2)

صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7369)، صحيح مسلم التوبة (2770)، سنن أبي داود النكاح (2138)، مسند أحمد (6/ 198).

ص: 313

حمله عليه ترجيح جانب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة، فرأى علي أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها، ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما» (1)

ووجه ما ذكره الحافظ رحمه الله ظاهر، وهو أن عليا رضي الله عنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخف الضررين حسب اجتهاده ورأيه، وهو أن يفارق عائشة رضي الله عنها وذلك من أجل أن يدفع ما حل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الغم والقلق بسبب القول الذي قيل فيها، ولكن علي رضي الله عنه لم يجزم بذلك.

قال أبو محمد بن أبي جمرة (695 هـ): «لم يجزم علي بالإشارة بفراقها؛ لأنه عقب ذلك بقوله: «وسل الجارية تصدقك» ففوض الأمر في ذلك إلى نظر النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطلع على براءتها، لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة» (2)

وقال النووي: «رأى علي أن ذلك هو المصلحة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة، لإرادة

(1) فتح الباري (8/ 468).

(2)

ينظر: فتح الباري (8/ 468).

ص: 314

راحة خاطره صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك أهم من غيره» (1)

(1) شرح النووي على مسلم (17/ 108)، وينظر: فتح الباري (8/ 468).

ص: 315

الحديث الخامس: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «ذكر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا فقال عاصم: ما ابتليت بهذا الأمر إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي وجد عند أهله آدم خدلا كثير اللحم، جعدا قططا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بين فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجد عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال رجل لابن عباس في المجلس هي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رجمت أحدا بغير بينة لرجمت هذه فقال ابن عباس: لا تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام (1)»

(1) أخرجه البخاري ح (5316)، ومسلم ح (1497)، والنسائي ح (3470)، ابن ماجه ح (2560)، وأحمد (1/ 335) ح (3106)، قوله: المتلاعنان: جاء في رواية «التلاعن» ، والمراد ذكر حكم الرجل يرمي امرأته بالزنا فعبر عنه بالتلاعن باعتبار ما آل إليه الأمر بعد نزول قوله تعالى:(والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء) الآية، قوله:«فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا» المراد به قوله في حديث آخر: «أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل» ، قوله: فأتاه رجل: هو عويمر بن عمرو، وكانت تحته بنت عاصم أو بنت أخيه، فلذلك أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: ما أبتليت بهذا الأمر إلا لقولي، وقوله: إلا بقولي: أي بسؤالي عما لم يقع، كأنه قال: فعوقبت بوقوع ذلك في آل بيتي، قوله: قليل اللحم: أي نحيف الجسم، آدم: أي لونه قريب من السواد، خدلا: أي ممتلئ الساقين، ينظر: النهاية (2/ 14)، الللسان، خدل، (11/ 201)، فتح الباري (9/ 455)، قططا: بفتح القاف والمهملة بعدها مثلها هذا هو المشهور، وقد تكسر الطاء الأولى، والمراد به شدة جعودة الشعر، ويطلق في وصف الرجل ويراد به الذم يقال جعد اليدين وجعد الأصابع أي بخيل، ينظر: النهاية (4/ 81)، اللسان، قطط، (7/ 380)، فتح الباري (6/ 486).

ص: 315

ذكر الحافظ – رحمه الله في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال:«فيه ارتكاب أخف المفسدتين بترك أثقلهما، لأن مفسدة الصبر على خلاف ما توجبه الغيرة مع قبحه وشدته أسهل من الإقدام على القتل الذي يؤدي إلى الاقتصاص من القاتل، وقد نهج له الشارع سبيلا إلى الراحة منها إما بالطلاق وإما باللعان» (1)

ووجه ما ذكره الحافظ رحمه الله – ظاهر، وهو أن من وجد مع امرأته رجلا أمر بالصبر وألا يقدم على القتل، وهذا فيه مفسدة لأنه خلاف ما توجبه الغيرة، ولكن احتملت هذه المفسدة من أجل دفع مفسدة أكبر، وهي أن الزوج إذا قتل فسوف يقتل قصاصا، وكان الحكم

(1) فتح الباري (9/ 462).

ص: 316

الشرعي على من قذف امرأته أن يطلب منه أن يقيم البينة أو يجلد حد القذف ثم جعل الشارع سبيلا لمن قذف امرأته وهو اللعان، ويحصل به تفريق مؤبد بين الزوجين، وقد جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن عويمرا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين (1)»

(1) أخرجه البخاري ح (5259)، ومسلم ح (1492).

ص: 317

الحديث السادس: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «أترون

ص: 317

هذه طارحة ولدها في النار؟!» قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها» (1)»

ذكر الحافظ رحمه الله في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة: «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال:«في الحديث جواز ارتكاب أخف الضررين، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع الأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لما كانت حالة الإرضاع ناجزة، وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر، قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك» (2)

وهذا الاستنباط الذي ذكره الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ظاهر، وهو أن إقرار المرأة أن ترضع من وجدته من السبي مع احتمال أن يكبر هؤلاء الأطفال ويحصل بينهم تزاوج مفسدة، لكنها احتملت من أجل مفسدة أكبر منها، وهي أن ترك اللبن يحتبس في ثدي المرأة يضر بها، ولكن يرد على هذا الاحتمال أنها كانت ترضع صبيانا، وظاهر اللفظ

(1) أخرجه البخاري ح (5999)، ومسلم ح (2754)، والبيهقي في الشعب (12/ 442) ح (6729)، والسبي: النهب وأخذ الناس عبيدا وإماء، والسبية: المرأة المنهوبة فعيلة بمعنى مفعولة وجمعها السبايا. ينظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 130)، النهاية (2/ 340)، اللسان، سبى، (14/ 367).

(2)

فتح الباري (10/ 431).

ص: 318

أنهم ذكور، ولهذا قال الحافظ متعقبا هذا الاستنباط الذي ذكره:«قلت: ولفظ الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك» . ولكن يرد على ما ذكره الحافظ أن المحرمية تنتشر أيضا في فروعهم، ويحتمل التزاوج فيما بينهم، فيبقى الاحتمال، لكن قد يقال إن إرضاعها لأولئك الأطفال قد لا يكون تاما، والرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات، لحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:«كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن (1)»

(1) أخرجه مسلم (1452).

ص: 319

الحديث السابع: حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: أخبرني جدي قال: «كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومعنا مروان قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش» فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشأم فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا، عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا أنت أعلم (1)»

(1) أخرجه البخاري ح (7058)، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (10/ 313)، وأحمد (2/ 324) ح (8287)، وابن حبان كما في الإحسان ح (6713) والبيهقي في الدلائل (6/ 464 – 465)، وقوله: هلكة أمتي: المراد بالأمة هنا أهل ذلك العصر، ومن قاربهم، لا جميع الأمة إلى يوم القيامة، غلمة: جمع غلام، يقال للصبي حين يولد إلى أن يحتلم غلام، وقد يطلق على الكبير: غلام، ينظر: النهاية (3/ 382)، اللسان، غلم، (12/ 439)، فتح الباري (13/ 9)، وأخرج البخاري ح (120) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» . وقد حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة. ينظر: فتح الباري (1/ 216).

ص: 319

الدلالة، وهو أن سكوت أبي هريرة عن الإخبار عن هؤلاء الغلمة مفسدة، لكن أبا هريرة رضي الله عنه خشي من الإخبار بهم الخروج عليهم، فيحصل مفسدة أكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالخروج عليهم، ومن المعلوم أن في الخروج على أئمة الجور من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم.

قال القرطبي: «وهؤلاء الأغيلمة كان أبو هريرة رضي الله عنه يعرف أسماءهم وأعيانهم، ولذلك كان يقول: لو شئت قلت لكم: هم بنو فلان، وبنو فلان، لكنه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد» (1)

وقد دلت الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة في الناس

(1) المفهم (7/ 254).

ص: 321

قال الإمام أحمد (ت: 241 هـ): «والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة، فاجتمع الناس عليه، ورضوا به» وقال الإمام الطحاوي (ت: 321 هـ): «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة» (1) وقال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية (792 هـ (: «وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور» (2)

(1) العقيدة الطحاوية ص (47).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (2/ 543).

ص: 322

وقال ابن بطال (ت: 449 هـ): «وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء. . ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح» (1) وقال شيخ الإسلام (ت: 728 هـ): «استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة؛ للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم» (2) وقال: «وإن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وإن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد» (3) وقال أيضا: «إن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى الله، ويستغفرونه، ويتوبون إليه، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع كالخوارج، وأمر بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن

(1) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 8).

(2)

منهاج السنة (4/ 529).

(3)

منهاج السنة (4/ 531).

ص: 323

قتالهم والخروج عليهم» (1)

(1) مجموع الفتاوى (14/ 268).

ص: 324

الحديث الثامن: حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «رأيتني أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه، فأشار إلي فجئته، فقمت عند عقبه حتى فرغ (1)»

ذكر الحافظ في ثنايا ما يستنبط من هذا الحديث ما يشهد لقاعدة «احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما» ، فقال:«يستفاد من هذا الحديث دفع أشد المفسدتين بأخفهما. . . . . وبيانه أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلما حضره البول وهو في بعض تلك الحالات لم يؤخره حتى يبعد كعادته، لما يترتب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين وقدم المصلحة في تقريب حذيفة منه، ليستره من المارة على مصلحة تأخيره عنه، إذ لم يمكن جمعهما» (2)

وهذا الاستنباط الذي ذكره الحافظ – رحمه الله – ظاهر، وهو أن ترك الابتعاد عند إرادة البول فيه ارتكاب مفسدة، ولكنها احتملت مراعاة لما هو أشد منها، وهو حبس البول فإن هذا يضر بالبدن، وقد سبق الكلام على هذا الحديث تحت قاعدة:«تحصل أعظم المصلحتين بترك أدناهما» (3)

(1) أخرجه البخاري ح (225)، ومسلم ح (273)، وأبو داود (24)، والترمذي ح (13)، والنسائي ح (18، 26)، وابن ماجه ح (305)، وأحمد (5/ 402) ح (23289).

(2)

فتح الباري (1/ 329).

(3)

ينظر: ص (10).

ص: 324