الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طُرَف الطَّرْف
في مسألة الصوت والحرف
تأليف
أحمد بن يحيى بن عَطْوَة الدِّرْعي
(ت 948هـ)
(النص المُحقَّق)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين. ربِّ يسِّر وأعن يا كريم (1)(2)
صورةُ سؤالٍ سُئل عنه الفقيرُ إلى الله تعالى: أحمد بن يحيى بن زيد التميمي الحنبلي. وهو: من بكر (3)
سلامُ الله وبركاتُه وأزكى تحيَّاته، على رسول الله، ثم على الأخ العزيز ذي الشَّرف الأصيل والقدر الجليل، أكرم المناسب وأرفع المراتب، الشيخ العلَاّمة، أحمد بن يحيى. سلَّمه الله من كل سُوء، ونوَّر قلبه بنور الهُدى.
وبعد تمام الدعاء. أُعرِّفك لا عرَّفك الله مكروهًا في الدنيا والآخرة: أنَّ جمعة بن عُبيد (4) وعلي بن مقود (5) قد قالا لي: إنَّ أخاك محمد بن عَتيق (6) يتعلَّم عند أحمد بن يحيى، وأنَّه يُدخل فيه
(1) وأعن يا كريم ليست في (س).
(2)
وأعن يا كريم ليست في (س). ') ">
(3)
هو: بكر بن عبد الله بن عتيق بن بسام. وليس له ترجمة فيما بين يدي من المصادر. ') ">
(4)
جُمعة بن جامع بن عُبيد الهلالي الأنصاري. ولد في جلاجل، وكان والده قد قدم من المدينة. أخذ العلم عن أهل بلده، وعن بعض علماء الشام. من تلاميذه: محمد بن عفالق (ت 1163هـ) وحفيدُه: عُثمان بن جامع (ت 1240هـ). ينظر: ابن بسام، علماء نجد 1/ 24، 5/ 109.
(5)
ليس له ترجمة فيما بين يدي من المصادر. ') ">
(6)
محمد بن عبد الله بن عتيق بن بسام، ابنه الناسخ المعروف: عبد الرحمن، له خط فائق نسخ عددًا من الكتب بقلمه. ينظر: المحقق، الوراقة في البلاد السعودية، ص66.
السِّر. حيث إنه رجلٌ حَشْوي (1) وأهل المدرسة الذين (2) تعلم عندهم في دمشق حَشْوية.
قلتُ لهما: نحن يا آل عتيق حنابلة، ولا ندع محمدًا يروغ (3) عن مذهبنا. وأحمد بن يحيى حنبلي (4) من شيوخ الحنابلة.
فقالا لي: كلُّ من في العَارِض (5) حشْوية من الحنابلة، إلَاّ علي بن رَزين (6) وأنا وعلي بن مقود. يقوله جُمعة بن عُبيد. وأحمد بن يحيى أكبر الحشوية!
فجلب عليه محمدُ بن عتيق عند ذكره إياك، وقبَّحه بأحاديث منها. قال: إنك يا ابن عُبيد ثمرة عقيدتك: ضربت في رقاب المسلمين بثمانية آلاف في الواردات (7) وتأخذ نسوانًا على غير
(1) الحَشْوية: الجهمية والمعتزلة وقد اتخذه بعضُ المتأخرين لقبًا ينبزون به أهل السنة والجماعة. ينظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل 4/ 148.
(2)
الأصل (س): الذي والمثبت من (ع) وهو الصواب. ') ">
(3)
راغ: مالَ وحاد عن الشيء. القاموس 2/ 414. ') ">
(4)
الأصل (س): فحنبلي. والمثبت من (ع) وهو الصواب. ') ">
(5)
يُطلق العارض قديمًا على مدينة الرياض وما حولها من القرى. ويقصد به عند الجُغرافيين جبل طُويق الممتد في نجد وما أحاط به من البلدان.
(6)
(ع): علي بن زبن. وآل رَزين من أهل أثيثة، من العزاعيز من بني حنظلة من تميم. والمذكور ليس له ترجمة فيما بين يدي من المصادر.
(7)
الأصل (س): الوردات. والمثبت من (ع) ولعله الصواب. ') ">
السنة بلا مِلاك! وهرَج عليه هرْجًا كثيرًا (1) وأنه هو وعلي بن مقود قد آذوني، ما غير إلى شِفت رجَّالهم رغتُ عنه.
فإني أسأل الله، ثم أسألك:[أنْ](2) تُرسل إلي بعقيدة أحمد بن حنبل، وما لقِيت لي من الحجج عليهم.
فهم (3) يقولون: نحن أشعرية (4) ونشهد أنَّ القرآن لا حرف ولا صوت، وأنَّ من يقول هو حرف وصوت كافر. ولهم أحاديثُ في حالنا وحالك، ما أقدر على كتبها.
الجواب:
الحمدُ لله الذي حشَا قلوبَ أوليائه إيمانًا، فلم يزدادوا بتقلب الأحوال إلَاّ يقينًا. وعقد النصر بعذَبات ألويتهم (5) عناية منه، فأكرِم به معينًا. فأهلك كلَّ شيطان مَريد بصرصرٍ من صرير أقلامهم، وجعل عاقبةَ أمرهم نصرًا عزيزًا وفتحًا مبينًا.
(1) الأصل: هرج كثير. والمثبت من (ع) وهو الصواب. والهرج: التخليط. ينظر: ابن فارس، مقاييس اللغة 6/ 49.
(2)
ساقط من الأصل و (س). ') ">
(3)
الأصل (س): وهم. ') ">
(4)
الأشعرية: أتباع أبي الحسن الأشعري (ت324هـ) في عقيدته المُسمّاة العقيدة الأشعرية. وقد تحول عنها بعد ذلك وحذر منها. ينظر: الذهبي، العبر 2/ 32.
(5)
العَذَبة: طرفُ كل شيء. القاموس 3/ 176. ') ">
وحَموا شرعه المنزَّل، فحماهم من الفُساق الذين توعَّدهم بقوله تعالى يقينًا {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب:58] فنحمدُ الله تعالى (1) على الهُدى والتوفيق للإسلام، ونسأله أنْ يقينا أذى (2) الجهلة الطُّغام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تمجيدًا وتنزيهًا. ونشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي أقام الشريعة إلى أنْ شُيِّدت مبانيها.
صلَّى (3) الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين هم كالأهلة، في سماء هذه الملَّة، وكاللآلئ في أجياد لياليها.
ونعوذُ بالله من نزغات الشيطان (4) ومصائده، ولطيف خِدعه ومكائده. فقد صدَّق على (5) هذه الأمة ظنه، وزيَّن لهم غيرَ الطريق الأحمد، وأجلب عليهم بخيله ورَجله وأقعد لهم رَصدًا بكل
(1) تعالى: معلقٌ في هامش الأصل، وعليه كلمة صح. ') ">
(2)
أذى: معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. ') ">
(3)
الأصل: وصلى. ') ">
(4)
الأصل: الشياطين. ') ">
(5)
على: معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. ') ">
مرصد، ونصب لهم شَركًا بكل ريع، وحجبم عن كل منهج مَريع.
فأصبح الناسُ- إلَاّ قليلاً ممن عصمه الله - مفتونين وفيما يوبقهم خائضين، وعن سبيل نجاتهم ناكبين، وبما وضعه الله عنهم متكلِّفين وعما كلَّفهم مُعرضين.
قد صاروا شيعًا، ومزَّقوا الدين فهم يتسابُّون بالكفر ويتنافرون على الهُدى، وعاد الدين غريبًا كما بدأ (1)
فماذا يُعجب من سلة السيف، وشمولِ الخوف، ونقص الأنفس والأموال، وتتابع المصائب والأهوال.
وهل نتوقع بعد تزيُّدنا في الغواية إلا التزيُّد في النكاية، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
وكان السبب الموجِب لهذا الكلام: وقوعَ أمر غريب يحار فيه اللبيب، ويتعجب منه الأريب، وهو الطعنُ على أصحاب الإمام أحمد وأهل الحديث وتسميتهم حَشْوية، - وما يصدر هذا القول إلا عن عقْد خبيثٍ - وأنهم بإثبات الحرف والصوت في كلام الله تعالى
(1) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ)) أخرجه مسلم في الصحيح، رقم 146 عن عمر رضي الله عنه. وانظر بقية التخريج في: سبيل النجاة والفِكاك 25.
من الكفار المستوجبين بذلك دخول النار.
وهذا قولٌ شنيع، عجَّل اللهُ لقائله جزاءه، ونسأل الله العافية مما به ابتلاه.
فإنهم لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبعُروتها الوثقى متمسكين. أخملوا من القرناء كلَّ عظيم، وأخمدوا من البدع كلَّ حديث وقديم: بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف (1) وأجلا من فَلَق الصباح وأصلب من فِلق الرماح. فأزالوا بنور السنة شُبهات الباطل المدلهمَّة (2) وأسكنوا طنين الذباب في خياشيم المارقين عن دين الأمة. وإلاّ فقد كادت السنة تبقى رِباعُها من غير طَلل ورسم، وتذهب ذهاب جَدِيس وطَسْم (3)
وتُؤذن آيُها بالطمس، ويُقرأ عليها:{كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [سورة يونس:24] وتُدرج تحت طي النسيان، وتُطرح في زوايا الهِجران.
(1) الأصل و (س): السجود. ولعل المثبت هو الصواب. والسجوف: الستور. ينظر: ابن فارس، مقاييس اللغة 3/ 136.
(2)
الأصل: المداهمة. ولعل المثبت هو الصواب. ') ">
(3)
قبيلتان من العرب العاربة، أبناءُ عم، جدُّهما إرم بن سام بن نوح. كانتا تسكنان جوَّ اليمامة، فقتلت كما قيل جَدِيسُ طَسْمًا، ثم قتل حسان تُبَّع جديسًا. ينظر: الطبري، التاريخ 1/ 629، وابن حزم، جمهرة أنساب العرب 462، 486.
ولقد صدق الشيخُ الإمام العلامة الحافظ جمال الدين، يوسُف بن محمد بن مسعود بن [محمد بن] (1) علي بن إبراهيم العبَّادي ثم العُقيلي السُّرَّمُرّي نزيل دمشق الحنبلي (2) في قوله:
والله لولا سيوفٌ من أئمتنا
…
في كاهل الرفض (3) لا تلوي ومنكبه (4)
لأضحت السنَّةُ الغراء داثرة
…
بين البرية كالعنقا وأغرو به
وفي قوله:
وسمْت بالحشو أهل الحق إذ ملأوا
…
وطائب العلم من قول بأطيبه
قوم أتاهم صحيحُ النقل فاتبعوا
…
سبيلَه وحموه عن مكذبه
وأثبتوا لإله العرش ما ثبتت
…
فيه النقول بلا شبَه يُقاس به
فرام بعضُ أولي التعطيل دحضَهم
…
فآب من قصده الأدنى بأخيبه
فكل من قصُرت في العلم رتبتُه
…
وقل دينًا يُجازى (5) في توثُّبه
فأحمدُ المطفى عُودي وقيل له
…
مذمَّم وتغالوا في تجنُّبه
وقيل ساحر أو مجنون أو رجل
…
معلّم كاهن يسمو بأكعبه
(1) ساقط من الأصل و (س). ') ">
(2)
فقيهٌ محدث، ومؤلف مُكثر. ولد عام 696هـ، ومات عام 776هـ، له مختصر ابن رزين، وغيث السحابة، وغيرهما. ينظر: المنهج الأحمد 5/ 143.
(3)
الأصل: الأرض. والمثبت هو الصواب. ') ">
(4)
الأصل (س): وموكبه. ') ">
(5)
(ط) تجرّا. ') ">
لو كان الاسم يَشين الفعلَ في رجل
…
لشان خيرَ البرايا من مُلقِّبه (1)
ومن (2) أحسن ما قال الشيخ الإمام (3) عبد الله بن محمد الأنصاري (4) وهو على الكرسي بهَراة:
أنا حنبليٌّ إنْ (5) حييتُ وإنْ أَمت
…
فوصيتي للناس أنْ يتحنْبلوا (6)
ولقد أحسن القائلُ (7) الآخر، حيث قال:
نحن قومٌ عن الشريعة راضون
…
ولكن عن الكلام غضاب
ديننا الفقه والحديث وإجما
…
عُ من مضى والكتاب
حنبليون مقتدون بابن
…
شيبان أيُّها الأتراب
رحم الله أسلافَهم، وحفظ أخلافهم وإيانا والمسلمين، وجعلنا
(1) أبيات من قصيدته المعروفة بـ "الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية" رد بها على السبكي. ينظر: الرد الوافر 232، والسحب الوابلة 3/ 1181. وقد نُشرت ضمن مقدمة منهاج السنة 1/ 117، ثم طبعت مفردة بتحقيق صلاح مقبول ط/ 1426هـ.
(2)
(س): وما. ') ">
(3)
الإمام: معلقٌ في هامش الأصل. ') ">
(4)
فقيه مُفسر، ولد عام 396هـ، ومات عام 481هـ. ينظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء 18/ 503. ') ">
(5)
(س): ما. ') ">
(6)
ينظر: ابن رجب، الطبقات 1/ 68 ') ">
(7)
القائل. ليست في (س). ') ">
بمذهبهم متمسكين ولطريقتهم النبوية مُتبعين، وأعاذنا من اتباع كلِّ طائفة رديئة كالروافض والمجسِّمة والحشْوية والمُعتزلة والواقفية واللفظية. إنَّه على ما يشاء قدير (1) وبالإجابة جدير.
وغير ذلك: فالواجبُ على كل مسلم طاعةُ الله سبحانه في القول والفعل والترك والنية، واتباعُ السنة المحمدية واقتفاءُ الآثار النبوية الأحمدية؛ قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر:7] إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار المروية في وجوب اقتفاء السُّنة النبوية، التي ثبت فيها بالنقل الصحيح والقول الصريح إثباتُ الحرف والصوت في كلام الله تعالى، على ما (2) يليق بجلاله وعظمته، بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
وكلامُ الإمام أحمد وجميعِ أصحابه وغيرهم من أهل السنة في سائر الأعصار والأمصار بيِّنٌ لا يُدفع، ومكشوف لا يتقنَّع. بل أوضحُ من النيِّرين، وأظهر من فَلَق الصُّبح لذي عينين: أنَّ الله سبحانه وتعالى تكلَّم بالقرآن بحرفٍ وصوت، على ما يليق بجلاله
(1) في هذا الإطلاق إجمالٌ يُوهم أنَّ قُدرة الله لا تتناول ما لا يشاؤه. فلا يجوز هذا الإطلاق إلا أن يُقيّد بما يدفع هذا الاحتمال. ينظر: الدرر السنية 2/ 298.
(2)
ما: معلقٌ في هامش الأصل. ') ">
بلا تكييف ولا تشبيه (1)
وإنْ شك أحدٌ فيما نسبْتُ (2) إليهم من ذلك، فلينظر بعين الإنصاف العريَّة عن الحسد والانحراف في: المُعتمد للقاضي أبي يعلى (3) والإيضاح لابن الزاغوني (4)
(1) ينظر: عبد الله بن أحمد، السنة 1/ 280، وصالح بن أحمد، المحنة 72، والخلال، السنة 5/ 125، 6، وابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل 2/ 38، والتسعينية 2/ 588.
(2)
(س): نُسب. ') ">
(3)
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء، أبو يعلى البغدادي، فقيهٌ أصولي، ولد عام 380هـ ومات عام 485هـ. له كتاب أحكام القرآن، والروايتين والوجهين، والعُدة، والمعتمد في أصول الدين. ينظر: ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 3/ 361.
(4)
علي بن عُبيد الله بن نصر بن السري، أبو الحسن بن الزاغوني، فقيهٌ أصولي، مات عام 527هـ. له كتاب الإقناع، والمفردات، والإيضاح في أصول الدين. ينظر: ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة 1/ 401 وكتاب الإيضاح طبع عام 1424هـ نشر مؤسسة الملك فيصل.
والإرشاد لابن عَقيل (1)(2) والتبصرةِ للشيرازي (3) وغاية الأمل، ونهاية المبتدئين لابن حمدان (4) والبرهان لموفق الدين (5) والياقوتة لابن البنا (6) والإيضاح لابن الجوزي (7) والصواعق المرسلة لابن
(1) علي بن محمد بن عقيل، أبو الوفاء البغدادي، فقيهٌ أصولي، ولد عام 432هـ ومات عام 513هـ، له كتاب الفصول، والواضح، والإرشاد. ينظر: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 316.
(2)
هذه الكتب الثلاثة فيها مآخذ عقدية، ومنها: القول بقِدم القرآن. ينظر: ابن تيمية، التسعينية 2/ 483، 499 والذهبي، سير أعلام النبلاء 19/ 607.
(3)
عبد الواحد بن محمد بن علي الشيرازي، أبو الفرج المقدسي، فقيهٌ أصولي، توفي عام 486هـ، له كتاب الإيضاح، والتبصرة. ينظر: ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 3/ 461.
(4)
أحمد بن حمدان بن شبيب بن حمدان، أبو عبد الله النميري، فقيهٌ. ولد عام 603هـ ومات عام 695هـ، له الرعايتان، وغاية الأمل. ينظر: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة 4/ 266.
(5)
عبد الله بن أحمد بن محمد بن قُدامة، أبو محمد المقدسي، فقيه أصولي، ولد عام 541هـ ومات عام 620هـ له كتاب المُغني، والروضة، والبرهان. ينظر: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة 3/ 281. والبرهان مطبوع عام 1407هـ في مجلة البحوث الإسلامية.
(6)
الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا، أبو علي، فقيه محدث. ولد عام 396هـ ومات عام 471هـ، له المُقنع، والياقوتة. ينظر: ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 3/ 449.
(7)
يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، أبو محمد، فقيه أصولي، ولد عام 580هـ ومات عام 656هـ له المذهب الأحمد، والإيضاح في الجدل. ينظر: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة 4/ 20، وكتاب الإيضاح مطبوع عام 1412هـ.
القيم (1) والغُنية لعبد القادر الكيلاني (2) وشرح الأصبهانية، وتلخيص التلبيس من تأسيس التقديس للإمام ابن تيمية (3) وغيرها من كتب الأصحاب التي هي طافحةٌ بذلك.
فإنَّه والله يَظفر بالبيان، ويزن في ذلك بأرجح ميزان، ويتمسَّك بأوضح برهان.
فإنَّ هؤلاء، وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد: قد نقلوا المسألة المذكورة عن إمامهم وغيره من أهل السنة والجماعة، نقلاً صحيحًا لا يشكُ فيه إلا جاهل.
وأيضًا: فالذي نقل هذه المسألة عن الإمام أحمد، هم الذين نقلوا فقهَ مذهبه. فإمَّا أنْ يُصدَّقوا في الجميع، وإما أنْ يُكذَّبوا فيه فيتعطَّل مذهبُه وتبطل أحكامه، وإلَاّ كان المُنكر لذلك كمن آمن
(1) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي، أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، فقيه أصولي محدث، ولد عام 691هـ ومات عام 751هـ، له زاد المعاد، وإعلام الموقعين، والصواعق المُرسلة. ينظر: ابن رجب، ذيل طبقات الحنابلة 5/ 170.
(2)
عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلاني، أبو محمد، فقيه واعظ، ولد عام 477هـ ومات عام 561هـ، له كتاب الغُنية لطالب طريق الحق، وفتوح الغيب. ينظر: ابن رجب، الذيل 2/ 187.
(3)
كلاهما مطبوع الأول عام 1385هـ، والثاني عام 1426هـ بعنوان: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية.
ببعض الكتاب وكفر ببعض.
ونرضى ممن يُنكر لما ذكرنا أنْ يُبيِّن لنا من طريق ثابت صحيح، أنَّ أحمد أو أحدًا من أصحابه خالف فيما نُسب إليهم من ذلك.
ولنذكر بعضَ ما ذكر الأصحابُ من ذلك؛ تنبيهًا وإعلامًا به، وتنويهًا.
قال الشيخُ موفَّق الدين: ومن صفات الله تعالى أنَّه متكلِّم بكلام قديم غير مخلوق، وسمعه منه مَن شاء مِن خلقه. سمعه منه موسى عليه السلام من غير واسطة، ومَن أذِن له من ملائكته ورُسله. وأنَّه سبحانه وتعالى يكلِّم المؤمنين [في الآخرة](1) ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه (2)
إلى أن قال: ومِن كلام الله سبحانه القرآنُ العظيم، وهو كلامُه المُبين وحَبْلُه المتين، تنزيلٌ من ربِّ العالمين نزل به الروحُ الأمين على قلب سيّد المُرسلين بلسان عربي مُبين (3) منزَّلٌ غير مخلوق،
(1) ما بينهما زيادةٌ من المصدر. ') ">
(2)
ابن قدامة، لُمعة الاعتقاد 15. ') ">
(3)
كما قال الله تعالى: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ "[سورة الشعراء:193 - 195].
منه بدأ وإليه يعود (1)
وهو سورٌ محكمات، وآيات بيِّنات، وحروف وكلمات. من قرأه فأعربه، فله بكلِّ حرف منه عشرُ حسنات.
له أولٌ وآخر، وأجزاء وأبعاض. متلوٌّ (2) بالألسنة، محفوظ في الصدور، مسموعٌ بالآذان، مكتوبٌ في المصاحف. فيه مُحكم ومُتشابه، وناسخٌ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت:42]. وذكر كلامًا كثيرًا.
(1) قوله: منه بدأ وإليه يعود. أخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد 2/ 230 عن علي رضي الله عنه موقوفًا. وأخرجه 2/ 231 عن ابن عباس رضي الله عنهما، بلفظ: منه خرج وإليه يعود. وأخرجه 2/ 234 عن عمرو بن دينار عن مشايخه. وقد اختلف العلماء في تفسير معنى قوله: وإليه يعود. فقيل: يُسرى به من الأرض في آخر الزمان. أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3/ 362، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 534، والبخاري في خلق أفعال العباد، رقم 381، 382، وسعيد بن منصور في السنن 2/ 335، وابن جرير الطبري في التفسير 15/ 158، والبيهقي في السنن 6/ 289 عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا. وقيل: يعود إليه نسبة. ينظر: الفتوحي، شرح الكوكب المنير 2/ 88. وعن الإمام أحمد: منه بدأ علمه وإليه يعود حكمه. رواية العكبري. ينظر: ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 2/ 518.
(2)
متلو: معلق في هامش الأصل، وعليه كلمة صح. ') ">
وقال شيخُ الإسلام، الشيخ تقي الدين ابن تيمية - في أثناء كلام له - في مسألة الصوت والحرف (1) والتحقيقُ، هو أنَّ الله تعالى تكلَّم بالحرف كما يليق بجلاله وعظمته. فإنَّه قادرٌ، والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لَهَوات. وكذلك له صوتٌ كما يليق به يُسمع، ولا (2) يفتقر ذلك الصوت المقدَّس إلى الحلق والحنْجرة.
كلامُ الله تعالى (3) كما يليق به، وصوتُه كما يليق به. ولا يُنف الحرفُ والصوت من كلامه سبحانه، لافتقارهما منّا إلى الجوارح واللهَوات؛ فإنهما في جناب الحق تعالى لا يفتقران إلى ذلك (4)
وهذا ينشرح الصدرُ له، ويستريح الإنسانُ به من التعسُّف والتكلف، بقوله: هذه عبارةٌ عن ذلك.
وقال الشيخُ علاءُ الدين ابن اللَّحام (5) في القواعد: الكلامُ ونحوه
(1)(س): الحرف والصوت. ') ">
(2)
- (5) ما بينهما معلقٌ في هامش الأصل وعليه كلمة صح. ') ">
(3)
ما بينهما معلق في هامش الأصل وعليه كلمة صح. ') ">
(4)
ينظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى المجلد الثاني عشر، والتسعينية 2/ 574 - 1038. ') ">
(5)
علي بن محمد بن عباس البعلي، أبو الحسن بن اللحام، ولد بعد عام 750هـ ومات عام 803هـ، له القواعد الأصولية، وتجريد العناية، وغيرهما. ينظر: المقصد الأرشد 2/ 237، والجوهر المنضَّد 81.
كالقول والكلمة، يُطلق عندنا: على الحروف المسموعة حقيقة، ويُطلق على مدلول ذلك مجازًا (1)
وصححه الإمامُ في المحصول، والمُنتخب في الأوامر (2)
وقال الشيخُ علاء الدين المرداوي (3) في كتابه تحرير المنقول وتهذيب علم الأصول: الكتابُ: القرآن، وهو كلامٌ منزَّلٌ على محمد، مُعجز، متعبَّد بتلاوته. والكلام عند الأشعرية: مشتركٌ بين الحروف المسموعة والمعنى النفسي، وهو نسبةٌ بين مُفردين قائمة بالمتكلم.
وعند أحمد وأصحابه، والبُخاري وغيرهم: لا اشتراك.
قال الإمام أحمد، وابن المُبارك (4) والبخاري، وأئمة الحديث:
(1) الكلامُ عند أهل السنة والجماعة: يُطلق حقيقة على اللفظ والمعنى جميعًا. وقد وهم من نسب غير ذلك إلى الإمام أحمد. ينظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل 2/ 17، 100، والتسعينية 2/ 435.
(2)
ابن اللحام، القواعد الأصولية 154. ') ">
(3)
أبو الحسن، علي بن سليمان بن أحمد بن محمد، المرداوي، فقيهٌ أصولي، ولد عام 817هـ، ومات عام 885هـ، له الإنصاف في تصحيح المُقنع، والتحرير في الأصول، وغيرهما. ينظر: الجوهر المنضَّد 99.
(4)
عبد الله بن المبارك بن واضح التميمي مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، فقيه محدث ثقة ثبت جواد مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير، ولد عام 118هـ ومات عام 181هـ. ينظر: المزي، تهذيب الكمال 16/ 5، وابن حجر، التقريب 540.
لم يزل الله تعالى متكلمًا إذا شاء وكيف شاء بلا كيف. قال القاضي أبو يعلى: إذا شاء أنْ يُسمِعنا (1)
وقال أحمد أيضًا: لم يزل يأمر بما يشاء ويحكم. وقال أيضًا: القرآن مُعجز بنفسه.
قال جمعٌ: مقتضاه أنَّه مُعجز في لفظه ونظمه ومعناه، كالحنفية (2) وغيرهم (3)
وقال الشيخُ الإمام العالم العلَاّمة، الصاحب الصدر الكبير، مُحيي الدين أبو محمد، يُوسف ابن الشيخ الإمام العالم جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي، في كتاب الإيضاح لقوانين الاصطلاح في الجدل: ومنعُ كون الصّيغ كلامًا يُخالف إجماعَ أهل اللسان، ويُناقض الأحكام الشرعية. فإنَّه لو حلف أنْ لا يتكلَّم، لا يحنث بوجود معنى يقوم بنفسه. ويزيدُ ما قرَّرناه إيضاحًا قولُه تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة:6] وإنما يسمعُ الصيغَ المنطوقَ بها (4)
(1) مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء أن يتكلم، لا أنَّ كلام الله لا يُسمع حتى يخلق إدراكًا في المستمع.
(2)
ينظر: البخاري، كشف الأسرار 1/ 23. ') ">
(3)
المرداوي، التحرير (مع التحبير) 3/ 1238، 1246، 1354. ') ">
(4)
ابن الجوزي، الإيضاح 129. ') ">
وقال الشيخُ تقي الدين الجُرَاعي، في شرح ابن اللحام (1) أهل العلم، من أهل السنة والآثار: على أنَّ الله تعالى لم يزل مُتكلِّمًا إذا شاء بكلام مسموع مفهوم؛ لأن الكلام من صفات الحي القادر وضدُّه من النقائص، والله تعالى منزَّهٌ عنها.
وقال الشيخُ الإمام نجمُ الدين ابن حمدان، في نهاية المُبتدئين: قال أحمد: لم يزل اللهُ متكلمًا كيف شاء، بلا تكييف. وفي لفظ: إذا شاء. قال القاضي: إذا شاء أنْ يُسمعنا (2)
وقال: القرآنُ كيف صُرِّف هو غير مخلوق، ولا نرى القول بالحكاية عنه صوابًا. وغلَّط من قال بها، وجهَّله. إلى أنْ قال: ونصَّ على أنَّه حروفٌ وأصواتٌ، وسورٌ وآيات (3) وكلمات. وقال في رواية ابنه عبد الله: تكلَّم الله بصوت (4) وإنَّما يُنكر هذا الجهمية (5)
(1) أبو بكر بن زيد بن أبي بكر الحسني الجُرَاعي، مات سنة (883هـ) له غاية المطلب، وشرح أصول ابن اللحام. ينظر: العليمي، المنهج الأحمد 5/ 282 وابن حميد، السحب الوابلة 1/ 312.
(2)
ينظر: ما تقدم من نقد ذلك. ') ">
(3)
ما بينهما معلق في هامش (س) وعليه كلمة صح. ') ">
(4)
ما بينهما معلق في هامش (س) وعليه كلمة صح. ') ">
(5)
الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان الراسبي مولاهم، أبو محرز السمرقندي، قتله نصر بن سيار في خُراسان سنة 128هـ. ينظر: ابن حجر، لسان الميزان 2/ 142.
وإنما يدورون على التعطيل (1)
وقال أيضًا في رسالته إلى أهل نَيْسابُور (2) مَن زعم أنَّ حروف الهجاء مخلوقةٌ فهو كافر؛ ولأنه سلك طريقًا إلى البدعة. قال: ومتى قال بذلك حكم بأن القرآن مخلوقٌ. وذكر نصوصًا عن الإمام أحمد في ذلك (3)
وقال ابنُ البنا - أظنه في الياقوتة -: كلامُ الله تعالى حرفٌ مفهوم وصوت مسموع، لا مِن جنس حروفنا وأصواتنا كسائر صفاته الذي لذاته. نص عليه أحمد.
وكلامُ الأصحاب في ذلك كثير، وقد أشرنا إلى بعض أماكنه. فمن أراده، فليطلُبه من هناك.
ولعمري، لو استقصينا في ذكر أدلة ما ذهب إليه الإمامُ أحمد وأصحابُه، وغيرهم من أهل السنة والجماعة في المسألة المذكورة نقلاً وعقلاً، لضاق به ناضر الأوراق. لكن ما لا يُدرك بكُلِّيته
(1) ينظر: عبد الله بن أحمد بن حنبل، كتاب السنة 1/ 132. ') ">
(2)
نيسابور: مدينة في خراسان، تقع الآن شرق إيران على حدود تركمنستان. ينظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان 5/ 331، وأطلس العالم.
(3)
ينظر: الإمام أحمد، الرد على الزنادقة والجهمية 276. واللالكائي، أصول الاعتقاد 2/ 262. ') ">
لا يُترك بكليته، جمعًا بين المصلحتين بذكر ما لا يُملّ ولا يُخِل. قال الله تعالى:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [سورة الجن:1]، وقال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف:204] وهذا نصٌّ في أنَّه مسموع.
وقال تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه:12]، وقال تعالى:{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة النمل:9]، وقال تعالى:{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص:30] وهذا نصٌّ على أنه صوت. وقال تعالى إخبارًا عن قُريش: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [سورة المدثر:25 - 26] ومعلومٌ أنَّهم أشاروا إلى التلاوة التي يسمعونها من النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا توعَّدهم على ذلك دلَّ أنَّها ليست بقول البشر.
وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [سورة النساء:164]، وقال تعالى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف:144]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الشورى:51]، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [سورة طه:11 - 12]، وقال تعالى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [سورة طه:14] وغيرُ جائز
أنْ يقول هذا إلاّ الله عز وجل (1) وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [سورة يس:69]
قال الشيخ الموفّق: فلما نفى اللهُ سُبحانه عنه أنه شِعر (2) وأثبته قرآنًا، لم يبق شبهةٌ لذي لُب في أنَّ القرآن هو هذا القرآن العربي، الذي هو كلماتٌ وحروف وآيات؛ لأن ما ليس كذلك ما يقول أحدٌ إنه شِعر. وقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [سورة البقرة:23] ولا يجوز أنْ يتحدَّاهم بالإتيان بمثل ما لا يُدرى ما هو، ولا يُعقل.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [سورة الواقعة:77 - 78]، وقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [سورة يونس: 15] وهذا نصٌّ أن القرآن هو الآيات التي تُتلى عليهم. وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (3)[سورة العنكبوت:49].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا} [سورة النساء:122]،
(1) ينظر: الإمام أحمد، الرد على الزنادقة والجهمية 266 وابن قدامة، لمعة الاعتقاد 16. ') ">
(2)
الأصل و (س): ليس بشعر. تحريف. ') ">
(3)
ابن قدامة، لمعة الاعتقاد 19 - 20. ') ">
وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [سورة النساء:87]، وقال تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة المائدة:116]، وقال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [سورة الأنعام:115]، وقال تعالى:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف:22]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص:62]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [سورة القصص:65]، وقال تعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [سورة البقرة:75]، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [سورة النمل:76]، وقال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [سورة الأنعام:92]، وقال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [سورة الحشر:21]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [سورة النحل:103]، وقال تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل:101].
وهذا البابُ في كتاب الله تعالى كثيرٌ. من تدبَّر القرآنَ طالبًا للهُدى منه، تبيَّن له طريقُ الحق إنْ شاء الله تعالى.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذا تكلَّم اللهُ بالوحي سمع صوتَه أهلُ السماء فيخرُّون سجَّدًا» (1) إلى آخر الحديث. أخرجه البخاريُّ في صحيحه.
وقال: «يُحشر العبادُ فيناديهم بصوت يسمعه من [بعُد كما يسمعه من] (2) قرُب. أنا الملك أنا الدَّيان» (3) رواه البخاريُّ في كتاب التوحيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ أن يسمع القرآن جديدًا غضًّا كما أُنزل فليسمعه من ابن مسعود» (4) فنصَّ على أنَّ سماعَه
(1) البخاري في الصحيح معلقًا موقوفًا عن ابن مسعود (مع فتح الباري) 13/ 452، وأخرجه أبو داود في السنن، رقم 4738، والبيهقي في الأسماء والصفات، 262 مرفوعًا، وله شاهد من حديث أبي هريرة في الصحيح. وينظر بقية التخريج في فتح المجيد 1/ 343.
(2)
ما بينهما ساقط من الأصل و (س)، ومن أصول مسند أحمد المعروفة. ') ">
(3)
البخاري في الصحيح معلقًا (مع فتح الباري) 13/ 453 من حديث جابر، عن ابن أنيس. وأخرجه موصولاً: أحمد في المسند 3/ 495، والبخاري في الأدب المفرد، رقم 970، وابن أبي عاصم في السنة، رقم 514، والطبراني في الأوسط، رقم 8588 بإسناد حسن، وله شاهدٌ من حديث ابن مسعود: في الصحيح للبخاري، رقم 7513، ومن حديث أبي هريرة: عند مسلم في الصحيح، رقم 2786، وعن ابن عمر في الصحيح، رقم 2788.
(4)
أخرجه أحمد في المسند 1/ 445، 454، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 521، وابن ماجه في السنن، رقم 138، والطبراني في الكبير، رقم 8417، 8414، 8415، 8462 بإسناد حسن، عن ابن مسعود. وله شاهدٌ من حديث: عمر وأبي بكر، وعلي، وأبي هريرة، وغيرهم رضي الله عنهم.
من ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف منه عشرُ حسنات، ومن قرأه ولَحن (1) فيه فله بكل حرفٍ حسنة» (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن قبل أن يأتي قومٌ يُقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوزُ تراقيهم (3) يتعجَّلون أجره ولا يتأجَّلونه» (4).
إلى أمثال هذه الأحاديث، الذي يُخبر فيها رسول الله صلى الله
(1) اللّحن: الخطأ في الإعراب ومخالفة وجه الصواب. ينظر: الفيومي، المصباح المنير 449. ') ">
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 7/ 163 وضعَّفه، عن ابن مسعود. وله شاهدٌ من حديث عائشة، رواه الطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 7/ 163 وضعفه. وشاهدٌ من حديث عمر: أخرجه الكلاباذي كما في مصاعد النظر 1/ 281، وصححه ابنُ قدامة في اللمعة 21.
(3)
التراقي: جمع تَرْقُوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق من الجانبين. ينظر: الفيومي، المصباح المنير 71.
(4)
أخرجه أبو داود في السنن، رقم 830، وأحمد في المسند 3/ 397، 357، والبيهقي في الشعب، رقم 2642، وأبو يعلى في المسند، رقم 2197 بإسناد صحيح، عن جابر. وله شاهدٌ من حديث أنس: رواه أحمد في المسند 3/ 146، 155، وشاهد عن عمران بن حصين: في المسند 1/ 432، 433، 436، وشاهد عن سهل بن سعد: رواه ابن حبان في الصحيح، رقم 760، والطبراني في الكبير، رقم 6024، 6021، 6022.
عليه وسلم عن ربه بما يُخبر.
وقال أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما: إعرابُ القرآن أحبُّ إلينا من حفظ بعض حروفه
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلِّه (1)
وسُئل عن الجُنب يقرأ القرآن. فقال: لا، ولا حرف (2)
وقد اتفق المسلمون على عدد سُور القرآن، وآياته، وكلماته، وحروفه (3)
ولا اختلاف بين المسلمين أنَّ من جَحد من القرآن سورةً أو آية
(1) أخرجه عن ابن مسعود: أحمد في المسند 5/ 324، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 513، والطبري في التفسير 1/ 14، والطبراني كما في المجمع 7/ 153، وابن الضِّريس في فضائل القرآن، رقم 308.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 1/ 336، وابن أبي شيبة في المصنف 1/ 102، وابن المنذر في الأوسط، رقم 619، 620، والدارقطني في السنن 1/ 118 بإسناد صحيح. والمذهب عند الحنابلة، وقول عامة أهل العلم: يحرم على الجُنب والحائض قراءة آية فصاعدًا. ولا يحرم بعضُ آية، في المذهب عند الحنابلة وقول طائفة من أهل العلم. ينظر: ابن أبي عمر، الشرح الكبير 2/ 110، والمرداوي، الإنصاف 2/ 110.
(3)
ينظر: ابن حزم، مراتب الإجماع 173. ') ">
أو كلمة، أو حرفًا متفقًا عليه أنَّه كافر (1)
وذكر القاضي في المُعتمد: أنَّه لو كان ما في النفس يُسمَّى كلامًا على الحقيقة، لما وصف أهلُ اللغة الأخرس والساكت: أنَّه غيرُ متكلم؛ لتجويزهم أن يكون في النفس كلام.
كما لا يصفونه بأنَّه غير مُريد؛ لمَّا جوَّزوا أن يكون في النفس إرادة.
ولمَّا وصف الأخرس والساكت بعدم الكلام، دلَّ على أنه الحروف والأصوات. وأنَّه (2) لو كان ما في النفس يُسمَّى كلامًا لم يصح أنْ يقال في العبارة: إنها تدل عليه؛ لأنه لا نسبة بينها وبينه ولا تعلُّق.
ولِم صارت بأن تدل عليه أولى (3) من أن [لا](4) تدل عليه كسائر أفعال القلوب.
وذكر الشيخ تقيُّ الدين الجُرَاعي في شرح ابن اللَّحام: عن ابن
(1) ينظر: ابن حزم، مراتب الإجماع 174. ') ">
(2)
(س) ولأنه. ') ">
(3)
(س) بأولى. ') ">
(4)
ما بينهما ساقطٌ من الأصل. ') ">
بُرهان (1) أنه ذُكر عن الأشعري في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: الاشتراك. والثاني: أنه حقيقة في اللفظ مجازٌ في مدلوله. والثالث: عكسُه. مجازٌ في اللفظ حقيقة في مدلوله.
ثم ذكر دليلَهم على الاشتراك، وهو الاستعمال؛ لأنه قد استُعمل لغة وعُرفًا فيهما، والأصلُ في الإطلاق الحقيقة فيكون مُشتركًا (2)
أمَّا استعمالُه في العبارات فكثيرٌ ظاهر، كقوله تعالى:{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة:75]، وقوله تعالى:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة:6]، وأمَّا استعمالُه في المعنى النَّفسي وهو مدلولُ العبارة فكَقوله (3) تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} (4)[سورة المجادلة:8]، وقوله:{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [سورة الملك:13]،
(1) أحمد بن علي بن محمد الوكيل، أبو الفتح ابن بُرهان. فقيهٌ أصولي محدّث، ولد ببغداد عام 479هـ وتوفي عام 520هـ، له البسيط، والوسيط، والوصول إلى علم الأصول، ينظر: طبقات السبكي 6/ 30
(2)
ينظر: ابن برهان، الوصول 1/ 130، وابن اللحام، القواعد الأصولية 154. ') ">
(3)
(س): كقوله. ') ">
(4)
من قوله: وهو مدلول. إلى: في أنفسهم. معلقٌ في هامش الأصل وعليه كلمة صح. ') ">
وقول عمر رضي الله عنه يوم السَّقيفة (1) زوَّرتُ في نفسي كلامًا
وقول الشاعر، وهو الأخطَل (2)
إنَّ الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جُعل اللسانُ على الفؤاد دليلاً (3)
ثم ذكر عن الإمام أحمد وأصحابه والجمهور: عدم الاشتراك، وأنَّ الكلام إنما هو الأصواتُ والحروف. والمعنى النفسي لا يُسمّى كلامًا، أو يسمَّى مجازًا (4)
قال: والدليلُ على ذلك: من الكتاب، والسنة، وإجماع أهل اللغة والعُرف.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}
(1) يوم السقيفة: يومُ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمع الأنصار عند سعد بن عُبادة في تلك السقيفة، فبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه. والسقيفة: ظلة كانوا يجلسون تحتها عند بئر بُضاعة. وهي لبني ساعدة: حي من الخزرج، وتقع اليوم في حديقة عامة شمال غرب المسجد النبوي. ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية 8/ 81، الفيروز آبادي، المغانم المطابة 2/ 842، الخيّاري، تاريخ معالم المدينة 148.
(2)
غياث بن غوث، أبو مالك التغلبي، من نصارى العرب. ينظر: ابن قُتيبة، الشعر والشعراء 1/ 483. ') ">
(3)
سيأتي الكلامُ على تزوير هذا البيت. ') ">
(4)
ينظر: المرداوي، التحبير 3/ 1254. ') ">
[سورة مريم:10 - 11] فلم يسمّ الإشارة كلامًا.
وقال لمريم: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [سورة مريم:26].
وأما السنة: ففي الصحيحين، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم [تتكلم أو] (1) تعمل» (2).
وكذا [قال صلى الله عليه وسلم](3) لمعاذ: «أمسك عليك لسانك» (4) قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك وهل يكب الناس على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم» (5).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وإذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ}
(1) إضافة من مصادر التخريج. ') ">
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح، رقم 2528، 5269، 6664، ومسلم في الصحيح، رقم 201، 202، وأحمد في المسند 2/ 255، 393، 425، 474، 481 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
بياضٌ في الأصلين، والإضافة للتوضيح. ') ">
(4)
هذا اللفظ من حديث عُقبة بن عامر رضي الله عنه: أخرجه أحمد في المسند 4/ 148، 158، والترمذي في الجامع، رقم 2408 وقال حديثٌ حسن صحيح.
(5)
قطعة من حديث معاذ رضي الله عنه: أخرجه الترمذي في الجامع، رقم 2619 وقال حديثٌ حسن صحيح، وابن ماجه في السنن، رقم 3973، وأخرجه أحمد في المسند 5/ 231.
فقولوا: آمين» (1) ولم يُرد بذلك ما في النفس.
إلى أن قال: وقسَّم أهلُ اللسان الكلام إلى: اسم وفعل وحرف.
وأيضًا: فإنَّ الكلام مشتقٌّ من الكلْم (2) لتأثيره في نفس السامع. والمؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية. نعم المعاني النفسية مؤثِّرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل. فكانت أولى بأن تكون حقيقة وما يؤثر بالقوة مجازًا (3)
وقولهم: استُعمل لغة وعُرفا فيهما. قلنا: نعم. لكن بالاشتراك، أو بالحقيقة فيما ذكرناه والمجاز فيما ذكرتموه؟
الأول: ممنوع؛ لأنه إذا دار الأمرُ بين الاشتراك والمجاز فالمجازُ أولى.
قلتُ: والدليلُ على أنَّ المجاز أولى، أنَّ اللفظ إذا كان دائرًا بين الحقيقة والمجاز فعند الإطلاق لا ينصرف إلى أحدهما، بل يتوقَّف
(1) أخرجه البخاري في الصحيح، رقم 782، 4475، ومسلم في الصحيح، رقم 2415، وأبو داود في السنن، رقم 934. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
الكَلْم: الجَرْح ثم أطلق على الجُرح. ينظر: الفيومي، المصباح المنير 439. ') ">
(3)
هذا وما بعده؛ بناء على ما اختاره الطُّوفي ومَن وافقه من أهل النحو والكلام: أن الكلام حقيقةٌ في العبارة مجاز في مدلولها. وقد تقدم التنبيه على بطلان ذلك. ينظر: الطوفي، شرح مختصر الروضة 2/ 14.
على القرينة. والقرينةُ قد تخفى فلا يحصُل الفهم. فإن قيل: ما ذكرتم يُعارضه شيءٌ آخر، وهو أنَّ اللفظ إذا كان دائرًا بين الحقيقة والمجاز، فإذا خرجت الحقيقةُ بقرينة ربما يُشكل وجهُ المجاز، وربما يتعذَّر طريقُ المجاز فلا يحصل الفهم، إذا كان مشتركًا بين معنيين فأُخرج أحدُهما بقرينة ينصرف اللفظُ إلى الآخر بحكم الاصطلاح والوضع فيحصل.
قلنا: ما ذكرتُم يُعارضه شيءٌ آخر، وهو أنَّ اللفظ إذا كان بين الحقيقة والمجاز يدورُ بين معنيين فقط، وإذا كان مُشتركًا بين معنيين يدورُ بين أربعة معان؛ لأن المُشترك يحتمل المجاز بالإضافة إلى كل معنى.
فإنْ قيل: في المجاز تركُ الاصطلاح والمواضعة، وليس في ذلك على ما ذكرنا.
قلنا: في المجاز فوائدُ من وجوهٍ ثلاثة. أحدها: المبالغة في الإبانة عن المعنى. فإنَّ قولنا: هذا أسد. أبلغ في الإبانة عن معنى الشجاعة من قولنا: هذا شجاع. وقولنا: هذا حمار. أبلغ في الإبانة عن معنى البلادة من قولنا: هذا بليد.
والثاني: الكناية بالحسن عن القبيح. فإن قولنا: مسّها. أحسن من
قولنا: أدخل ذكره في فرجها. ولهذا قال ابنُ عباس رضي الله عنه: إنَّ الله حييٌ كريم، يكني بالحسن عن القبيح. كنى باللمس عن الوقاع
والثالث: إظهارُ العِلم بخواص الأشياء. فإنه إذا قال: رأيت أحنف. وأراد به: الحليم. أو رأيت إياسًا. وأراد به: الذكي. أو رأيت قسًّا. وأراد به: الفصيح. فقد أظهر من نفسه العلم بخواص هؤلاء.
والعلم صفةُ شرف، فكان في طبع الإنسان دعاء إلى إظهارها. انتهى (1)
وقولهم: الأصلُ في الإطلاق الحقيقة. قلنا: والأصل عدمُ الاشتراك. وأيضًا: فلفظ الكلام أكثر ما استعمل في العبارات. وكثرة موارد الاستعمال تدل على الحقيقة.
وأما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة المجادلة:8] فمعناه: يقول بعضُهم لبعض. أو هو مجاز؛ لأنه إنما دل على المعنى النفسي بالقرينة ولو أطلق لما فهم منه إلاّ العبارة. وكذلك كل ما جاء من هذا الباب إنما يُفيد نفي القرينة. وهذا شأنُ المجاز. ومنه
(1) ينظر: الفتوحي، شرح الكوكب المنير 2/ 15، 33. ') ">
قول عمر رضي الله عنه: (فزوَّرت في نفسي كلامًا) إنما أفاد ذلك بقرينة قوله: في نفسي. وسياق القصة.
وأما قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [سورة الملك:13] فلا حجة فيه لهم؛ لأن الإسرار نقيض الجهر، وكلاهما: عبارة أرفع صوت من الآخر.
وأما الشعر الذي يُنسب إلى الأخطل. فليس هو في نُسخ ديوانه (1) وإنما هو لابن ضمضام (2)
ولفظُه:
إنَّ البيان من الفؤاد وإنما
…
جُعل اللسان على الكلام دليلاً (3)
وإنْ صح أنَّ الأخطل قاله كما قالوه. فالأخطلُ نصراني إسلامي. وهو ومن تقدَّمه من شُعراء الجاهلية إنما يُحتج بقولهم في
(1) قال ابن قُدامة في البرهان (مجلة البحوث الإسلامية ص 261): وقد سمعت شيخنا أبا محمد ابن الخشاب - رحمة الله عليه - وكان إمام أهل عصره في العربية - يقول: قد فتشتُ دواوين الأخطل العتيقة، فلم أجد هذا البيت فيها.
(2)
هكذا في الأصل و (س) والتحبير للمرداوي 3/ 1277 ولعل الصواب: ابن ضمضم، وهو سعيد بن ضمضم الكِلابي، أبو عثمان، شاعر مُقِل. ينظر: ابن النديم، الفهرست 52.
(3)
ينظر: المرداوي، التحبير 3/ 1276. ') ">
موضوعات لغة العرب، ومعرفة الكلام. فأما ما يشترك فيه العربُ وسائر الناس فلا يُحتج فيه ببيت نادر مع ظُهور فساده.
وبتقدير صحته على ما قالوا: لم يجز أن يُوصف الله تعالى بالكلام أصلاً. فإنَّه تعالى ليس بذي فؤاد. تعالى الله عن ذلك علوًّا كثيرًا (1)
وأيضًا: فأهلُ العُرف متفقون على أنَّ من لم ينطق ليس بمتكلم، ولو حلف لا يتكلَّم فلم ينطق لم يحنث إجماعًا.
والفرقةُ الناجية أهل السنة والجماعة: يُؤمنون بما أخبر اللهُ به تعالى في كتابه أو ثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم في خِطابه، من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل.
وعلى هذا درج السلفُ وأئمة الخلف. كلُّهم متفقون على الإقرار والإمرار. وقد أُمرنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بمنارهم، وحُذِّرنا المُحدثات وأُخبرنا أنها من الضلالات.
فما جاء في الصفات من الآيات والأحاديث الثابتات: آمنا بها، ولا نردّه ولا نجحده، ولا نتأوَّله بتأويل يخالف ظاهره، ولا نشبهه بصفات المخلوقين ولا سمات المُحدثين.
(1) ينظر: المرداوي، التحبير 3/ 1291. ') ">
ونعلم أنَّ الله سبحانه لا شبيه له ولا نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى:11] وكلّ ما تخيَّل في الذهن أو خطر في البال، فإنَّ الله تعالى بخلافه وله العظمةُ والكبرياء والجلال.
وسيوافقُ قولي هذا من الناس ثلاثة.
رجلاً مُنقادًا، سمع الناس يقولون فقال كما قالوا: فهو لا يرعوي ولا يرجع؛ لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر.
ورجلاً تطمح به عزةُ الرئاسة وطاعةُ الإخوان وحب الشهرة: فليس يرد عزَّته ولا يثني عنانه إلاّ الذي خلقه إنْ شاء؛ لأن في رجوعه إقرارَه بالغلط واعترافَه بالجهل. وتأبَى عليه الأَنَفة. وفي ذلك أيضًا: تشتتُ جمع وانقطاع نظام، واختلافُ إخوان عقدتهم له النِّحلة.
والنفوس لا تطيب بذلك إلاّ من عصمه الله ونجَّاه.
ورجلاً مُسترشدًا يُريد الله بعلمه، لا تأخذه في الله لومةُ لائم ولا يدخله مِن مُفارقٍ وحشةٌ ولا تلفته عن الحق أنفة، فإلى هذا بالقول قصدنا، وإيَّاه أردنا.
نسأل الله العظيم أن يُلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شُرورَ أنفسنا، وأن يسلك بنا وبإخواننا المؤمنين سبيلَ الهداية، وأن يجنِّبنا وإياهم مسلك الغِواية. إنَّه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمدُ لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. آمين.