الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من أَدْرَكَ الرَّكْعَة فقد أَدْرَكَ السَّجْدَة» : حقٌّ لا شك فيه، ولم يقل: إنه إن أَدْرَكَ الرَّكْعَة فقد أَدْرَكَ الوقفة التي قبل الرُّكُوع، فلا يجوز لأحد أن يُقْحِمَ في كلامِهِ، صلى الله عليه وسلم، ما ليس فيه، فيقول عليه ما لم يَقُلْ.
3 -
وأما حديث أبي بَكْرَةَ، رضي الله عنه، فلا حجةَ لهم فيه أصلاً؛ لأنه ليس فيه أنه اجتزأ بتلك الرَّكْعَة، وأنه لم يَقْضِها، فسقط تعلُّقهم به جملة، ولله الحمد
الجوابُ عن مناقشةِ ابنِ حَزْم السَّابقةِ:
وكلُّ ما ناقش به ابنُ حَزْم أدلةَ الجمهور القائلين بإدراك الرَّكْعَة بإدراك الرُّكُوع، يمكن أن يجاب عنه، ولذا سأذكر فيما يلي ما يمكن أن يذكره أصحاب المذهب الأول ردًّا على مناقشة الإمام السابقة بالترتيب نفسه الذي سبق آنفًا:
1 -
ليس حديث أبي هريرة حجة على عدم الاعتداد بإدراك الرَّكْعَة بإدراك الرُّكُوع، بل هو حجة قوية لإدراك الرَّكْعَة بإدراك الرُّكُوع، إذْ إنَّ ذلك يتبادر فهمُه من اللفظ نفسه في الحديث، ولا يتوقف فهمه على أمرٍ خارجيٍّ، وقد سِيقَ الحديث أصالةً لبيان
ذلك، فهو نصٌّ في المسألة بعينها (1)(2)
ففي الحديث، إذَن، دلالة على أنَّ من أَدْرَكَ الرُّكُوع فقد أَدْرَكَ الرَّكْعَة، لأنا قد بينَّا في وجه الاستدلالِ بالحديث أنَّ المراد بالرَّكْعَة هو الرُّكُوع، بل جاء ذلك صريحًا في بعض الروايات عن معاذٍ، وأبي هريرةَ، وابن الأزهرِ وغيرهم، وقد سبق من الآثار ما يدل على ذلك قطعًا وقد نقلناه عن الحافظ ابن رجبٍ الحنبليّ وغيره، وهذا ما حاول ابنُ حَزْم أن يَنفيَه بدون دليلٍ صحيحٍ يُعْتدُّ به.
وإذا أَدْرَكَ الرَّكْعَة، واحتسبت له، فهو ليس مطالَبًا بقضاء ما أَدْرَكَه، لأنَّه مطالبٌ بقضاء ما فَاتَه لا ما أَدْرَكَهُ.
2 -
وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أَدْرَكَ الرَّكْعَة فقد أَدْرَكَ السَّجْدَة» معناه: أن من أَدْرَكَ الرُّكُوع فقد أَدْرَكَ الرَّكْعَة أيضًا، لأنه قد يُطْلق على الرُّكُوع ركعةٌ، وقد جاء ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات» (3).
(1) انظر تعريف النصِّ عند علماء أصول الفقه فيما سبق، ص (189) تعليق (1).
(2)
انظر تعريف النصِّ عند علماء أصول الفقه فيما سبق، ص (189) تعليق (1). ') ">
(3)
أخرجه الأئمة الستة مطولاً عن عائشة رضي الله عنها، فأخرجه البخاري في الكسوف، باب خطبة الإمام في الكسوف:1/ 185 بحاشية السندي، ومسلم في الكسوف، باب صلاة الكسوف رقم (901): 2/ 620، وأبو دواد في كتاب جماع أبواب صلاة الاستسقاء، باب من قال أربع ركعات (الكسوف): 2/ 40 - 41، من ((مختصر المنذري))، والترمذي في باب صلاة الكسوف عن ابن عباس: 3/ 129 - 130 من ((تحفة الأحوذي))، والنسائي في الكسوف باب كيف صلاة الكسوف برقم (1263): 1/ 401، وأخرجه أيضًا: أبو عوانة: 2/ 374 - 375، وهو عند الدارمي: 1/ 360 عن ابن عباس وفيه: أن صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتان في كل ركعة ركعتان، والبغوي في ((شرح السنة)): 4/ 375 - 376.
ومعلوم أنها ركعتان، ولو كانت أربع ركعات لكان فيها ثماني سجودات.
وجاء أيضًا عن عائشة رضي الله عنها: «فصلَّى أربعَ ركعاتٍ في ركعتين وأربعَ سجداتٍ» (1) فهي أربع ركوعات في ركعتين. وهذا بَيِّنٌ وجَلِيّ في أنَّ المراد بالرَّكْعَة هو الرُّكُوع، حتى يستقيم الكلام.
وكذلك قال الإمامُ الحافظُ ابنُ حَجَرٍ تعليقًا على قول الإمام البخاريِّ في ((صحيحه)): باب من أَدْرَكَ ركعة من العصر قبل الغروب وأورد فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه:«إذا أَدْرَكَ أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمَّ صلاته» (2) - قال: ((فكأنه أراد تفسير الحديث، وأنَّ المراد فيه: ((سجدة)) أي ركعة، وقد رواه الإسماعيليُّ من طريق حُسين بن محمدٍ، عن شيبانَ بلفظ:«من أَدْرَكَ منكم ركعة» ، فدلَّ
(1) انظر: ((التعليق المغني على سنن الدارقطني)): 2/ 63.
(2)
صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607)، سنن أبو داود الصلاة (1121)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 271)، موطأ مالك وقوت الصلاة (15).
على أنَّ الاختلاف في الألفاظ وقع من الرُّواة، وقال الخَطَّابِيُّ:((المراد بالسَّجْدَة: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها)) (1)
وكذلك ترجم الإمام عبد الرزَّاق الصَّنْعَانيُّ في ((مُصَنَّفِه)) ترجمةً تدلُّ على ذلك فقال: ((باب من أَدْرَكَ ركعة أو سجدة)) ثم ساق حديثَ أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى لله عليه وسلم:«من أَدْرَكَ ركعة من الصلاة فقد أَدْرَكَ الصلاة» (2) وحديثَ عبد العزيز بن رُفَيْعٍ عن شيخٍ من الأنصار قال: «دَخلَ رجلٌ المسجدَ، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فسمع خَفْقَ نَعْلَيْهِ، فلمَّا انصرفَ قال:((على أيِّ حالٍ وَجَدْتَنَا))؟
قال: سجودًا، فسجدتُ. قال: كَذَلِكَ فَافْعَلُوا، ولا تَعْتَدُّوا بالسُّجُود إلا أن تُدْرِكُوا الرَّكْعَة، وَإذَا وَجَدْتُمُ الإمَامَ قائمًا فَقُومُوا، أو قَاعدًا فَاقْعُدُوا، أو رَاكِعًا فَارْكَعُوا، أو سَاجِدًا فَاسْجُدُوا، أو جَالِسًا فَاجْلِسُوا» (3).
وأما إدراك الوقوف؛ فقد حصل عندما شرع بتكبيرة الإحرام واقفًا ثم ركع مع الإمام، وقد اعتدَّ بها رسولُ الله صلى الله عليه
(1)((فتح الباري)): 2 38، وتقدم تخريجه فيما سبق في الدليل الأول لمذهب الجمهور. ') ">
(2)
صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607)، سنن أبو داود الصلاة (1121)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 271)، موطأ مالك وقوت الصلاة (15).
(3)
((المصنف)) لعبد الرزاق: 2/ 281.
وسلم واعتبرها ركعة، كما في حديث أبي بَكْرَةَ أيضًا. وبذلك سَلِمَ الدليل من المناقشة التي وجَّهَهَا ابنُ حَزْم.
3 -
وأما حديث أبي بَكْرَةَ، رضي الله عنه، فلو لم يكن ركوعه مجزئًا لأمَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإعادة. ولم يُنْقل أنه أمَرَه بإعادة الصلاة، أو أنه أخبره بعدم الإجزاء والاعتداد بالرَّكْعَة، فثبت أنَّه اعتدَّ بها؛ لأنَّ السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيانٌ، فلما سكت صلى الله عليه وسلم عن الأمر بالإعادة دل ذلك على الإجزاء. والأصل أن الرَّكْعَة وقعت مجزِئةً فيكون معتدًّا بها، وإلا لأمَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة أو أخبره بعدم إجزائها.
وأما قولُ ابنِ حَزْم: (إنَّ الحديث ليس فيه أنه لم يَقْضِها). فهذا صحيح، ولا يعني ذلك وقوعَ القضاء، فإنَّ الأصل هو الإجزاءُ وعدمُ القضاء. ثم يقال: أين الدليل على أنَّه قضاها؟
فإذا لم يوجد دليل على قضائها، ولم ينقل ذلك، فالأصل عدم القضاء، والنهيُ إنما كان عن السرعة في الإتيان إلى الصلاة، أو عن التأخُّر في الإتيان إلى الصلاة، أو عن السَّعي إليها سعيًا يشتدُّ معه النَّفَسُ، كما أشار إليه الحافظ ابن حَجَرٍ، والزَّيْلَعِي (1) والله أعلم.
ونضع هنا كلمةً نفيسة للحافظ ابن رجب الحنبليِّ رحمه الله
(1) انظر فيما سبق ص (196 - 197). ') ">
– يقول فيها: ((وقد أجاب البخاريُّ في كتاب ((القراءة)) (1) عن حديثِ أبي بكْرةَ بجوابين: (أحدهما): أنه ليس فيه تصريحٌ بأنَّه اعتدَّ بتلك الرَّكعة. (والثاني): أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن العَوْد إلى ما فعله)). ثم قال الحافظ ردًّا على ذلك:
فأمَّا الأولُ: فظاهر البطلان؛ ولم يكن حرص أبي بكرة على الركوع دون الصفِّ إلا لإدراك الركعة، وكذلك كلُّ من أمر بالركوع دون الصفِّ من الصحابة ومَن بعدهم، إنما أمر به لإدراك الركعة، ولو لم تكن الركعة تدرك به لم يكن فيه فائدة بالكليّة، ولذلك لم يقل منهم أحدٌ: إنَّ من أدركه ساجدًا فإنه يسجد حيث أدركتْه السجدة ثم يمشي بعد قيامِ الإمام حتى يدخل الصفَّ. ولو كان الركوع دون الصفِّ للمسارعة إلى متابعة الإمام فيما لا يعتدُّ من الصلاة لم يكن فَرْقٌ بين الركوع والسجود في ذلك.
وهذا أمرٌ يفهمه كلُّ أحدٍ من هذه الأحاديث والآثار الواردة في الركوع خلف الصفِّ. فقولُ القائل: لم يُصرِّحوا بالاعتداد بتلك الركعة، هو من التَّعَنُّت والتشكيك في الواضحات. ومثل هذا إنَّما يحمل عليه الشُّذوذُ عن جماعة العلماء، والانفرادُ عنهم بالمقالات المُنْكَرَة عندهم؛ فقد أنكر ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على من خالَف
(1) انظر: كتاب (خير الكلام في القراءة خلف الإمام) للبخاري، ص 52، 53. ') ">