الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ الحنبليُّ: ((وقد رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن أدرك الرُّكوعَ فقد أدركَ الرَّكعة من حديث أبي هُرَيْرةَ، وله طُرُقٌ متعدِّدة عنه، ومن حديثِ معاذِ بنِ جَبَلٍ، وعبدِ الرحمنِ بنِ الأَزْهرِ، وغيرِهم، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب ((شرح الترمذيِّ)) (1) فإن ثبت هذا النقلُ كان نصًّا صريحًا في المسألة. والله أعلم.
(1)((فتح الباري)) لابن رجب الحنبلي:7/ 116. وأما شرحه للترمذي فهو في عداد الكتب المفقودة.
الدّليل الثالث:
حديثُ أبي بَكْرَةَ، رضي الله عنه، «أنَّه دخل المسجدَ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم راكعٌ، فركعَ دونَ الصفِّ، ثم مشَى إلى الصفِّ، فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته قال: أيُّكُمُ الَّذي رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثمَّ مَشَى إلى الصَّفِّ؟ فقال أبو بَكْرَةَ: أنا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: زَادكَ اللهُ حِرْصًا ولا تَعُدْ» (1).
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الرُّكُوع دون الصف، فتح الباري: 2/ 267، وأبو داود في الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف برقم (654) 1/ 338 (من مختصر المنذري)، واللفظ له، والنسائي في الإمامة، باب الرُّكُوع دون الصف: 2/ 118، والإمام أحمد في ((المسند)): 5/ 39، 43، 46، والإمام محمد بن الحسن في ((الآثار))، ص (25) وقال:((وبه نأخذ، نرى ذلك مجزئًا، ولا يعجبنا أن يفعل الرُّكُوع دون الصف ثم المشي. . وهو قول أبي حنيفة))، وأخرجه أيضًا في ((الحجة على أهل المدينة)): 1/ 215، والبَيْهَقِيّ في ((السنن)): 2/ 90، وعبد الرزاق الصنعاني في ((المصنَّف)): 2/ 282، والطَّحَاوِيّ في ((شرح معاني الآثار)): 1/ 395 بلفظ: ((جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع وقد حَفَزَني النَّفَس [اشتدَّ بي] فركعت دون الصف ثم مشيت إلى الصف. .)). والطبراني في ((الكبير)) بزيادة: ((صلِّ ما أَدْرَكَت واقض ما سبقك)) كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي: 2/ 76، وفي بعض طرقه أنه قال:((. . . خشيت أن تفوتني الرَّكْعَة. .)) والبغوي في شرح السنة: 3/ 377 - 378. وانظر: ((فتح الباري)) لابن حَجَر: 2/ 268، ((نصب الراية)) للزيلعي: 2/ 39، ((فتح القدير)) للكمال بن الهمام: 1/ 252.
ولو لم يكن إدراكُ الرُّكُوعِ مجزئًا لإدراكِ الرَّكْعَةِ مع الإمامِ لَأَمَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالإعادة، ولم يُنْقَل ذلك عنه، فدلَّ على أنَّ ذلك يجزئه لإدراك الرَّكْعَة والاعتداد بها.
والنَّهيُ إنما وقع عن السرعة والعجلة إلى الصلاة، كأنه أحبَّ له أن يدخل في الصف ولو فاتته الرَّكْعَة، ولا يعجِّل بالرُّكُوع دون الصف، ولذلك قال البَيْهَقِيّ في عقب هذا الحديث:((يعني - والله أعلم - ليس عليك أن تركع حتى تصل إلى موقفك، لما في ذلك من التعب، كما ليس عليك أن تسعى إذا سمعت الإقامة)) (1)(2)
وقال العلامةُ زين الدِّينِ بنُ المُنَيِّرِ: ((صوَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم فِعْل أبي بَكْرَةَ من الجهة العامة، وهي الحرص على
(1)((سنن البَيْهَقِيّ)): 2 90.
(2)
((سنن البَيْهَقِيّ)): 2 90. ') ">
إدراك فضيلة الجماعة، وخطَّأه من الجهة الخاصة. وقوله:((ولا تَعُدْ)) أي لا تعُدْ إلى ما صنعتَ من السعي الشديدِ ثم الرُّكُوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصفِّ، وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحًا في بعض طرق حديثه)) (1)
وقال القَسْطَلانيُّ: ((أي لا تَعُد إلى الرُّكُوع دون الصفِّ منفردًا؛ فإنه مكروه؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصفِّ حتى يأخذ مكانه من الصفِّ» (2) والنهيُ محمولٌ على التنزيه، ولو كان للتحريم لأمَرَ أبا بَكْرَة بالإعادة. وإنما نهاه عن العَوْدِ، إرشادًا إلى الأفضل (3)
(1)((فتح الباري))، لابن حجر: 2/ 268. ') ">
(2)
أخرجه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)):1/ 396. وقال ابن حجر في ((الفتح)) 2/ 269: ((إسناده حسن)). وضعَّفه الألبانيُّ مرفوعًا حيث قال: وهذا إسناد ظاهره الصحة، ولذلك قال الحافظ في ((الفتح)): إنه حسن. ولكنه معلول وعلّته خفية جدًّا، فإن الرجال كلهم ثقات. . ولكن عُمَر بن علي عمّ المقدَّمي – أحد رواته - هو علة الحديث فقد كان يدلِّس تدليسًا شديدًا. . . وأخشى أن يكون دلّس في هذا الحديث عن بعض الضعفاء حيث زاد الرفع، والمعروف أنه موقوف، فقال ابن أبي شيبة: أنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به موقوفًا. . . انظر: ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)): 2/ 408، ((الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف))، لابن المنذر:4/ 183
(3)
وذهب إلى التحريم: النخعي، والحكَم بن عتيبة، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق، وابن خُزَيْمَةَ من الشافعيَّة؛ لحديث علي بن شيبان عند أبي داود1/ 336، والترمذي:2/ 26، وابن ماجه:1/ 321، والإمام أحمد:4/ 228، وابن خُزَيْمَة: 3/ 30، والطيالسي ص (166) وعبد الرزاق:2/ 59، والطحاوي:1/ 393،والبيهقي: 3/ 104، وابن المنذر:4/ 184، والبغوي: 3/ 378: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحدَه، فأمره أن يعيد الصلاة)). زاد ابن خُزَيْمَةَ في رواية له: ((لا صلاة لمنفرد خلف الصفِّ)). وانظر: ((الهداية في تخريج أحاديث البداية)) للغماري: 3/ 211 - 213. وأجاب الجمهور: بأنَّ المراد: لا صلاة كاملة؛ لأن من سنَّة الصلاة مع الإمام: اتِّصال الصفوف وسدَّ الفُرَج، وقد روى البيهقيُّ من طريق المغيرة عن إبراهيم فيمن صلّى خلف الصفِّ وحده، فقال: صلاته تامة وليس له تضعيف. انظر: ((مسائل الإمام أحمد)) لابن هانئ: 1/ 51 - 53، ((صحيح ابن خُزَيْمَةَ)): 3/ 32، فتح الباري:2/ 268، ((الأوسط في السنن)) لابن المنذر:4/ 183، ((إرشاد الساري)): 1/ 101.
أو المراد: لا تَعُدْ إلى أن تسعى إلى الصلاة سعيًا شديدًا بحيث يضيق عليك النّفَس؛ لحديث الطبرانيّ: «أنه دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى» ، وللطحاوي بلفظ:«وقد حفَزَهُ النَّفَس» .
أو المراد: لا تعُدْ تمشي وأنت راكع إلى الصفّ؛ لرواية حماد – عند الطبراني - فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قال: «أيّكُمُ الَّذي دَخَلَ الصَّفَّ وهو راكعٌ» ؟ ولأبي داود: «أيّكُمُ الَّذي رَكَعَ
دُونَ الصفِّ ثمَّ مَشَى إلى الصَّفِّ؟ فقال أبو بَكْرَة: أنا» (1).
وقال الإمام الطَّحَاوِيّ عن هذا النهيِّ إنه يحتمل معنيين: ((يحتمل: ولا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف. . . ويحتمل: ولا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك فيه النَّفَس)) (2)
ويدلُّ على ذلك: ما رواه البخاريُّ في كتابه المفرد ((القِرَاءَة خلْفَ الإمَامِ)): «. . . ولا تَعُدْ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ» ، وهي أيضًا عند الطَّبَرَانِيِّ في ((المعجم الكبير)).
فهذه الزيادة دلَّت على ذلك، ويقوِّيها حديثُ:«فَأْتوا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ والوَقَارُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، ومَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» (3).
(1)((إرشاد السّاري بشرح صحيح البخاري))، للقسطلاني: 1/ 101 - 102. وانظر: ((فتح الباري)) لابن حجر:2/ 268 - 269، ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للمُلَاّ علي القاري: 3/ 76، ((إعلاء السنن)) للعثماني: 3/ 299 - 300.
(2)
((شرح معاني الآثار للطحاوي)): 1 396. ') ">
(3)
متفق عليه من حديث أبي قتادة ومن حديث أبي هريرة، وله طرق وألفاظ، وهو في ((الأوسط)) للطبراني من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا:((إذا أَتيتَ الصلاة فَأتها بوقار وسَكِينةٍ، فصلِّ ما أَدْرَكْتَ واقضِ ما فاتَكَ)) وله عن أنس بلفظ: ((إذا أتيتم الصلاة فأتوا وعليكم السكينة فصلُّوا ما أَدْرَكْتم واقضوا ما سُبِقْتُم)) ورجاله ثقات والحديث أخرجه أيضًا: الترمذي، وابن ماجه، والدارمي، ومالك، والطَّحَاوِيّ في ((شرح معاني الآثار)). انظر:((التلخيص الحبير)) لابن حَجَر: 2/ 28، وله أيضًا:((فتح الباري)): 2/ 116 - 118، ((نصب الراية)) للزيلعي: 2/ 40، ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) للألباني: 3/ 195.
وقيل: وقع النهي عن التأخُّر عن الصلاة. ويُؤيِّده ما روى الحاكمُ في ((المستدرك)) عن عبد الله بن الزُّبَيْر، رضي الله عنهما، أنه قال على المنبر:«إذا دخل أحدُكم المسجدَ والناسُ ركوعٌ فلْيركعْ حين يدخل، ثم لِيَدِبَّ راكعًا حتى يدخل في الصفِّ، فإنَّ ذلك من السنَّة. قال عطاء: وقد رأيته يفعل ذلك» (1).
والخلاصة بعد هذه الروايات وما فيها من دلالات: أنَّ أبا بَكْرَةَ دخل المسجد بعد إقامة الصلاة، فانطلق يسعى سعيا شديدًا، وقد حَفَزَه النَّفَسُ، فركع دون الصفِّ ثم مشى في الصلاة إلى الصفِّ؛ لأنه يرى أنه يدرك الركعة بذلك، وقد خشي أن تفوته لو لم يفعل ذلك كما في رواية البخاري (خشيت أن تفوتني ركعة معك)، وإلا لم يفعل ذلك كلَّه. ولم يأمُرْه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإعادة الركعة أو قضائها، إذْ لم ينقَل عنه شيء من ذلك، وإنما أمَرَهُ عليه الصلاة والسلام بعدم العَوْد إلى السَّعْيِ الشَّديد أو الرُّكوع دونَ
(1) أخرجه الحاكم في ((المستدرك)): 1 214، وقال:((صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وسيأتي تخريجه بالتفصيل في الدليل الخامس.