الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجمهور أظهر (1)
(1) انظر: ((بداية المجتهد ونهاية المقتصد)) لابن رشد الحفيد:1/ 185 - 186.
المطلب الأول: أدلة المذهب الأول (الجمهور)
اسْتَدَلَّ أصحابُ المذهبِ الأولِ على ما ذهبوا إليه بجملةٍ من الأدلة؛ من السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، ومن عَمَلِ الصَّحَابَةِ، ومن النَّظَرِ والقَواعِدِ الفقهيَّةِ:
الدليل الأول:
عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا جِئْتُمْ إلى الصَّلاةِ وَنحنُ سُجودٌ فاسْجُدُوا، ولا تعُدُّوهَا شَيْئًا، ومَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَة فقَد أَدْرَكَ الصَّلاةَ» (1).
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الرجل يدرك الإمام ساجدًا، كيف يصنع؟: 1/ 423 - 424 ((من مختصر المنذري مع معالم السنن))، وابن خُزَيْمَةَ في ((صحيحه))، كتاب الصلاة، باب إدراك المأموم الإمام ساجدًا، والأمر بالاقتداء به في السُّجُود. . 3/ 57 - 58، والدارقطني في السنن 1/ 346 - 347، والحاكم في ((المستدرك)): 1/ 216، وقال:((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصريين)). ووافقه الذهبي فقال: ((صحيح، ويحيى مصري ثقة))، وأخرجه ثانية في ص 273 - 274، وقال:((صحيح، قد احتج الشيخان برواته عن آخرهم غير يحيى بن أبي سليمان، وهو شيخ من أهل المدينة، سكن مصر، ولم يذكر بجرح)) وأخرجه البَيْهَقِيّ في ((السنن)): 2/ 89، وقال:((تفرد به يحيى بن أبي سليمان المديني. وقد ضعف الدراقطني والبَيْهَقِيّ هذا الحديث؛ لأن في إسناده: يحيى بن حميد)) انظر: ((تهذيب التهذيب)): 11/ 199 - 200. ولكن الحديث له طرق أخرى منها: عن عبد العزيز بن رُفَيْع كما سيأتي في الحديث الثاني. وقد روي الحديث أيضًا بإسناد آخر من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ ((من أَدْرَكَ ركعة من الصلاة فقد أَدْرَكَها قبل أن يقيم الإمام صلبه)) عند الدارقطني والبَيْهَقِيّ وابن خُزَيْمَةَ، كما سبق، ولذلك حكم الشيخ ناصر الدين الألباني على الحديث بأنه صحيح، وقوّاه بعمل الصحابة. انظر:((إرواء الغليل)): 2/ 261 - 262.
وهذا نصٌّ يدلُّ بصيغته نفسها على المعنى المقصود (1)
والمراد بالرَّكْعَة في هذا الحديث هو الرُّكُوع، وهذا المعنى متعيّن لا يُفْهَمُ هنا غيره، ويدلُّ على هذا وجوهٌ ثلاثة:
(الوجه الأول): أنَّ تَتَبُّعَ مواردِ استعمالِ الرَّكعةِ في الأحاديث وغيرها يشهد بأنه يكون بمعنى الركوع عند اقترانه بالسُّجود، فيكون مُدْرِكُ الإمامِ راكعًا مدركًا لتلك الرَّكْعَة.
وقد ورد إطلاق الرَّكْعَة على الرُّكُوع في جملة أحاديث، فقد روى الإمام مسلم من حديث البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ، رضي الله عنه، بلفظ: « .. فوجدتُ قيامَه، فركعتَه، فاعتدالَه بعد ركوعِه، فسجدتَه،. . قريبًا
(1) النصُّ عند علماء أصول الفقه هو: ما يفهم من العبارة دون توقُّف على أمر خارجي، ويكون هو المقصود من سياق الكلام. فالنص أعلى مراتب الدلالة وأقواها. وانظر:((أصول السرخسي)): 1/ 164، ((العُدَّة في أصول الفقه)) لأبي يعلى الحنبلي: 1/ 137، ((علم أصول الفقه)) لعبد الوهاب خلاف، ص 144.
من السَّواءِ» (1) فقد أطلق هنا الرَّكْعَة على الرُّكُوع مجازًا، بقرينة وقوع الرَّكْعَة في مقابلة القيام والاعتدال والسَّجْدَة.
وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقعت الرَّكْعَة مقابلة السُّجُود.
وواضحٌ: أنَّ من أَدْرَكَ الرَّكْعَة فقد أَدْرَكَ الصلاة، فيكون المراد إذن بالرَّكْعَة الرُّكُوع (2)(3)
ويُؤيِّد ذلك أنَّ ابنَ رَسْلانَ (4) فسَّر الصلاةَ في آخر الحديث
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، برقم (471): 1/ 343. وقد جاء ذلك أيضًا في حديث عائشة رضي الله عنها عند الأئمة الستة: ((أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات)). ومعلوم أنها ركعتان، ولو كانت أربع ركعات لكان فيها ثماني سجودات. وجاء أيضًا عن عائشة رضي الله عنها:((فصلَّى أربعَ ركعاتٍ في ركعتين وأربعَ سجداتٍ)). فهي أربع ركوعات في ركعتين. وهذا بَيِّنٌ وجَلِيّ في أنَّ المراد بالرَّكْعَة هو الرُّكُوع، حتى يستقيم الكلام وفي حديث جابر في الكسوف أيضًا:((صلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات)). وسيأتي هذا - إن شاء الله تعالى- عند مناقشة أدلة المذهب الثاني.
(2)
((عون المعبود في شرح سنن أبي داود)): 3 145.
(3)
((عون المعبود في شرح سنن أبي داود)): 3 145. ') ">
(4)
الحافظ الجليل: أبو العباس أحمد بن حسين بن علي بن يوسف بن أرسلان-بالهمزة، وقد تحذف- الرملي الشافعي، نزيل بيت المقدس، ولد سنة (773 أو775)، وتوفي سنة (884) له شرح سنن أبي داود. انظر:((نماذج من الأعمال الخيرية)) للشيخ محمد منير الدمشقي، ص (626).
نفسِهِ بأنها الرَّكْعَة، فقال:«فقد أَدْرَكَ الصَّلاةَ» (1): أي أَدْرَكَ الرَّكْعَة، وصَحّتْ له تلك الرَّكْعَة (2)
وقد أخرجَ الإمامُ ابن خُزَيْمَةَ حديثَ أبي هريرةَ وترجم له -كما تقدم- ترجمةً تدلُّ على أنَّ مذهَبه إدراكُ الرَّكْعَة بإدراك الرُّكُوع، فقال:((باب إدراك المأمومِ الإمامَ ساجدًا والأمر بالاقتداء به في السُّجُود، وألَاّ يعتدَّ به [أي السُّجُود] إذ المدرك للسجدة إنما يكون بإدراك الرُّكُوع قبلها))، ثم ساق الحديث نفسه (3)
وأخرج أيضًا حديثَ أبي هريرةَ باللفظ الآخر: «مَن أَدْرَكَ ركعةً من الصلاةِ فقد أَدْرَكَهَا قبلَ أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبَهُ» . وترجم له بقوله: ((باب ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركًا للرَّكعة إذا ركع قبل إمامه)) (4)
وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ إِدراكَ الرُّكُوعِ مع الإمامِ مجزئٌ لإدراكِ الرَّكْعَة والاعتدادِ بها.
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (580)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (607)، سنن أبو داود الصلاة (1121)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 271)، موطأ مالك وقوت الصلاة (15).
(2)
((عون المعبود)): 13/ 161. ') ">
(3)
انظر: ((صحيح ابن خُزَيْمَةَ)): 3 45 و57 - 58. ') ">
(4)
المرجع نفسه. ') ">
(الوجه الثاني): أنَّ هذا هو ما فهمَهُ من الحديث: عليُّ بن أبي طالب وابنُ مسعودٍ رضي الله عنهما، حيث قالا:«مَنْ لم يُدركِ الرَّكْعَةَ فلا يعتدّ بالسَّجْدَة» (1).
وقد أشرنا فيما سبق إلى حديث البَيْهَقِيّ وغيره، عن عبد العزيز بن رُفَيْع:«إذَا جِئْتُمْ والإمامُ راكعٌ فَارْكَعُوا، وإنْ كانَ سَاجِدًا فاسْجُدُوا، وَلا تَعْتَدُّوا بالسُّجُودِ إذا لم يَكنْ مَعهُ الرُّكُوعُ» . وسيأتي هذا دليلاً مستقلاً يلي هذا مباشرة، إن شاء الله تعالى.
فإنَّ ذلك كلَّه يدلُّ على أنه إذا حصل الرُّكُوع مع السُّجُود فإنه يعتدُّ بالرَّكْعَة. ويُؤيِّده أيضًا: ما أخرجه البَيْهَقِيّ عن ابن عمر وزيد بن ثابت، رضي الله عنهما، أنهما كانا يقولان:«من أَدْرَكَ الرَّكْعَة قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أَدْرَكَ السَّجْدَة» (2) وهذا كلُّه- وغيره مما سيأتي من أقوالهم وأفعالهم - تفسير أحسن تفسير للحديث، وهم أعلم بمعناه، والله أعلم.
و (الوجه الثالث): الذي يُؤيِّد حمل الركعة في هذا الحديث على الركوع، هو أنه لو حُمِل معنى الركعة فيه على مجموع القيام
(1) رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) ورجاله موثَّقون. انظر: ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)) للهيثمي: 2/ 76، وروى البَيْهَقِيّ: 2/ 90 مثله عن ابن مسعود.
(2)
((سنن البَيْهَقِيّ)): 2/ 90.