الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرمين عين الشيخ عبد الله البقيشي في وظيفة مدرس في معهد الحرم المكي وهو - أي المعهد - تابع لرئاسة الحرمين.
وكان الشيخ عبد الله البقيشي قريبًا من الشيخ ابن حميد، بل كان في كثير من الأحيان ملازمًا له.
وكان تعيين البقيشي مع طائفة من طلبة العلم والمقربين من شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد لأن الشيخ عبد الله كان كما قال لي قد انقطع في بيته بعد أن استقال من القضاء.
وفي هذه الاثناء عندما تخلى عن القضاء عرف الذين يحبونه حقيقة لأنهم ظلوا ملازمين له، يستفيدون من دروسه بخلاف بعض الناس الذين كانوا يتعرضون له من أجل نفوذه، فعينهم في شئون الحرمين في وظائف في التدريس والمراقبة ووظائف إدارية تحتاج إلى أكفاء ليشغلوها.
فكان الشيخ عبد الله البقيشي منهم، وقد سكن مكة سنوات في هذا العمل.
وكان الشيخ عبد الله بن حميد يناديه أحيانًا باسم التدليل (بَقُّوش).
السفر على الأقدام إلى عنيزة:
مما يستحق التسجيل هنا أننا كنا نطالع في مكتبة جامع بريدة في الكتب، وكنا مستغرقين في طلب العلم وبلغنا أنه توجد في عنيزة نسخة مخطوطة من كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف للمرداوي) وهو كتاب موسع مهم في فقه الإمام أحمد، كان المتأخرون من فقهاء الحنابلة ينقلون عنه ويكثرون ولم يكن طبع إذ ذاك.
وقد علمنا أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله كان طلب من أي شخص عنده كتاب في عنيزة أن يجعله في غرفة في جامع عنيزة عارية بمعنى أن يبيح لمن يريد أن يطالع فيه أن يفعل دون أن يخرجه من المكتبة، وإذا أراد
صاحبه أن يسترجعه فيأخذه إلى بيته فعل من غير حرج، ومن ذلك نسخة مخطوطة من الإنصاف، فعزمنا على أن نسافر إلى عنيزة لرؤية ذلك الكتاب، ولكن الطريق المألوفة للسفر إلى عنيزة في ذلك الوقت هي استئجار حمار نتعاقب على ركوبه أو استئجار حمارين يكون معهما صاحبهما، وهذا يكلفنا مالا لسنا مضطرين إلى بذله.
الطريقة الأخرى أن نسافر مع الذين يسمون الجماميل وهم أصحاب إبل يتعيشون من حمل البضائع والناس من بريدة إلى عنيزة وبالعكس.
وذلك بأن يسافر الشخص منهم ومعه في الغالب بعيران أو حتى بعير واحد من عنيزة بعد صلاة المغرب فيسير الليل كله حتى إذا فتح السوق من صباح الغد كان قد وصل إلى بريدة، وسلم ما يحمله من بضائع.
ثم ينتظر وجود بضائع تحمل من بريدة إلى عنيزة على الطريقة نفسها.
إلا أنه يحدث أحيانًا الا يجد الجمال حملًا، وأن يكون محتاجًا للنوم فيبقى أكثر من اليوم.
وكانوا كلهم من أهل عنيزة إلا شخصًا اسمه الحصان فأبوه من أهل بريدة، وأمه من أهل عنيزة، ويعيش في عنيزة.
وأذكر منهم الآن الغراس والعبودي وابن حميِّد.
وهم يحملون الراكب على البعير الذي عليه حمل بريال فرانسي واحد ويعيدونه إلى البلدة التي خرج منها بريال آخر.
وكان معنى ذلك أن يدفع كل واحد منا ريالين فضيين كبيرين، فقررنا أن نسافر إلى عنيزة مشيًا على الأقدام من أجل رؤية ذلك الكتاب (كتاب الإنصاف).
كان ذلك صيف يوم من عام 1364 هـ وكان عمري 19 سنة، وعبد الله البقيشي في مثل سني تقريبًا، إذ كان ولايته في عام 1344 هـ، وقد سافرنا
بالفعل إلى عنيزة سيرًا على الأقدام، وذكرت تفصيلات ذلك في كتاب (رحلات في البيت) مما لا أرى داعيًا لذكره هنا.
وقد اشتغل الشيخ عبد الله البقيشي في تجارة الأراضي، فاشترى أرضًا إلى الشمال من بريدة وهي روضة كانت من مراتع الماشية لأهل بريدة فبنيت بيوتًا واستراحات سميت البقيشية نسبة إلى الشيخ عبد الله البقيشي هذا.
ومن الطرائف المتعلقة بالشيخ عبد الله البقيشي أنني ذهبت أنا واياه من الرياض إلى الظهران ونزلنا في فندق في الدمام في غرفة واحدة مزدحمة، وكنا نحتاج إلى النوم لأننا قد تعبنا في ذلك اليوم من السفر لأنه على سيارة، وعندنا عمل غدًا هناك يحتاج إلى تجوال.
وقد سمعت شخيرًا منع عني النوم لأنني بطبيعتي لا أستطيع أن أنام إذا كان شيء من هذا النوع، فلما أعياني الأمر وقلت له: إنني لم أنم وقد فهم السبب وقال ضاحكًا: هو أنت قط سمعت (ماطور)؟ فقلت له: إنه مواطير، فضحك كثيرًا ونهض جالسًا وقال: سوف أبقى هكذا حتى أرى أنك قد نمت.
وكان مرحًا كريم الطبع رضيَّ النفس وقد استشارني قبل ذلك بيوم أو يومين قائلًا: إنه ينوي التزوج بأخرى، فقلت له في ذلك الصباح: يا أبا محمد، أنت استشرتني في أمر زواجك ولا أدري أأنت جاد عازم أم متردد، لكنني أستطيع على ضوء ما سمعته البارحة أن أؤكد أنك لن تجد أصبر من زوجتك فلا تتزوج غيرها ففهم مقصودي وضحك كثيرًا.
وهذه هي الوثيقة التي أشرت إليها من قبل وتدل على قدم عهد أسرة البقيشي في منطقة بريدة وهي بخط علي بن عبد العزيز بن سالم وهو من أسرة السالم الكبيرة وثري معروف في وقته وتقول بالحرف الواحد:
"الحمد لله وحده
أيضًا أقر ثنيان السالم بأن لحق عليه في ذمته لسليمان الصالح خمسة أريل إلَّا قرش يحل أجلهن في شهر العمر من سنة 1267 وهن داخلات بالرهن السابق شهد على ذلك (محمد البقيشي) وشهد به وكتبه علي العبد العزيز بن سالم".
ومعنى الحق عليه أنه أضاف إلى دين سابق عليه للدائن وهو سليمان بن صالح السالم من أسرة السالم الكبيرة التي منها الكاتب أيضًا، وقوله: إلا قرش المراد بالقرش هنا ثلث الريال الفرانسي، ولم يكونوا يعرفون القرش الموجود الآن، وقد أدركناهم يسمون ثلث الريال (قرش) وكتبتها أنا (جرش) للتفرقة بينها وبين القرش واحد القروش.
ولا يزال في ذهني قول بعض الدلالين وهو يحرج على سلعة في سوق بريدة جرشين بالسلعة الفلانية ويريد بذلك ثلثي الريال، أو يقول: ريال إلا جرش لهذا المعنى.
وقوله في الوثيقة: يحل أجلهن في شهر العمر فالعمر بإسكان العين وفتح الميم هو شهر محرم اول شهور السنة، وقوله: وهن داخلات بالرهن السابق فهو رهن كان اتفق عليه الطرفان قبل كتابة تلك الوثيقة.
وهذه صورة الوثيقة.
والمقصود أن أسرة البقيشي قديمة السكني في منطقة بريدة مما يؤيد ما قاله لي صديقنا الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي رحمه الله من أن نسبهم يرجع إلى المصاليخ، وأنهم أبناء عم للقرعاوي والله أعلم.
توفي الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي في حادث سير بين القصيم ومكة المكرمة في 14/ 4/ 1403 هـ وذلك بالقرب من مركز ظلم في عالية نجد رحمه الله.
ترجم له الأستاذ محمد العثمان القاضي، فقال:
عبد الله بن محمد البقيشي: من بريدة.
هو العالم الجليل الورع الزاهد الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي، ولد في مدينة بريدة حوالي سنة 1343 هـ وتربي أحسن تربية وقرأ القرآن وحفظه عن ظهر قلب في الكتاتيب، وتعلم مبادئ العلوم وقواعد الخط والحساب فيها ثم شرع في طلب العلم بهمّةٍ ونشاطٍ ومثابرة، فقرأ على علماء بلده.
ومن أبرز مشايخه: الشيخ عمر بن سليم والشيخ عبد العزيز البراهيم العبادي ومحمد الصالح المطوع، ولما توفي الشيخ عبد الله بن سليم وتعين عمر بن سليم خلفًا له عيَّن عمر المترجم له إمامًا في مسجده بجنوبي بريدة وظل إمامًا ومدرسًا في المسجد سنوات، ولما تعيَّن الشيخ عبد الله بن حميد قاضيًا في بريدة لازمه في جلساته ملازمة تامة وصار من خواصه، وعينه مشرفًا على مكتبة جامع بريدة وصار يطالع عليه دروسه ويقرأ عليه في المجالس العامة والخاصة ويسافر معه.
كما عينه أيضًا كاتب ضبط في المحكمة، ولما نقل الشيخ عبد الله بن حميد للإشراف على المسجد الحرام نقله معه وعينه مدرسًا في الحرم المكي فقام بواجب وظيفته خير قيام، وكان حسن التعليم، وظل في تدريسه بالحرم يضع سنوات وكان على جانب كبير من الأخلاق العالية والصفات المحمودة متواضعًا مستقيمًا في دينه وخلقه عازفًا عن الدنيا.
وافاه أجله المحتوم في حادث مُروع بين القصيم ومكة في عودته لمكة من القصيم، وكان بصحبة بعض عائلته فأصيب بعضهم وتوفي البعض الآخر، وكان ضمن من توفي، وكان الحادث الذي أودى بحياة بعضهم بتاريخ 14 من ربيع الآخر سنة 1403 هـ وحزن الناس لفقده فرحمه الله برحمته الواسعة (1). انتهى.
ومن الغرائب في وفاة الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي رحمه الله ما ذكره سليمان بن إبراهيم الطامي بقوله:
الشيخ البقيشي يخبر بدراهمه بعد وفاته رحمه الله:
الشيخ عبد الله بن محمد البقيشي عالم فاضل وهو أحد موظفي الحرم المكي الشريف أيام إشراف الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحم الله الشيخين.
روى لي ابنه الصديق عبد الرحمن هذين الموقفين العجيبين قال في الموقف الأول: كان والدي رحمه الله أحد الذين طلبهم الشيخ عبد الله بن حميد للعمل في الحرم المكي الشريف، وكان يتردد بين مكة وبريدة أثناء إجازته والعطل الصيفية للزيارة وقضائها بين أبنائه وأقاربه في بريدة.
وفي إحدى سفراته وهو عائد من بريدة إلى مكة المكرمة معه عائلته المكونة من زوجة والدي الثانية وبعض إخواني ومجموعهم ستة أفراد في سيارة (متسوبيشي) وبالقرب من مركز ظلم وبالتحديد يوم 17/ 3/ 1403 هـ مساءً حصل لوالدي حادث انقلبت السيارة ومات جميع أفرادها الستة الذين كانوا بداخلها حيث انقلبت فجأة.
يقول عبد الرحمن: وبعد فترة باع أخي محمد سيارة والدنا على إحدى ورش التشليح بالطائف وفي إحدى الليالي وأخي محمد نائمًا جاءه والدي
(1) روضة الناظرين، ج 3، ص 162، وفي كلامه ملاحظات عديدة لم أر مناقشته فيها.
بالرؤيا وقال له: ترى بتندت (سقف) السيارة دراهم أنا مخفيها، خذها (راوي السالفة) لا يتذكر عدد الدراهم، ولكنه قال: مبلغ لا بأس به.
ذهب محمد إلى الورشة بالطائف وإذا موجود من السيارة تندتها وبعض أجزاءها فاشترى أخيي التندة فقط، وطلب من البائع فك التندة (السقف) من أطرافها، وبعد دقائق أخذ محمد السقف وحمله في سيارته وعندما خرج من الطائف أوقف أخي محمد سيارته وقلب السقف وهو بين مصدق ومكذب ليبحث فيه عن الدراهم. أدخل يده من إحدى الفتحات، فإذا فعلًا الدراهم موجودة، حمد الله أخي أنه أعادها إليهم، وترحم على والده، غفر الله له ولأموات المسلمين.
أما الموقف الثاني فيقول فيه الصديق عبد الرحمن:
مضت السنون بعد وفاة والدي وكان أخي محمد يصوم رمضان في مكة كل عام هو وعائلته ويصوم الست من شوال في المدينة المنورة.
وفي إحدى السنين وفي العام 1416 هـ أمر أخي محمد سائقه بأن يذهب إلى بريدة مع بعض أبنائه، وأغراضهم الخاصة، وهو أي محمد وعائلته سوف يلحقون بعد صيام الست في المدينة المنورة.
سافر السائق ومعه بعض الأبناء، وعندما وصلوا إلى مركز ظلم تعطلت السيارة عطل مفاجئ، علمًا بأن السيارة موديلها جديد.
حاول السائق إصلاحها ولكن دون جدوى.
يقول الراوي عبد الرحمن:
اتصل السائق بأخي محمد بمكة يخبره بأن سيارتهم متعطلة، ولا يعرف السبب ولم تجد معها محاولات الإصلاح.
فقال أخي: سوف أحضر إليكم الآن، فحمل أخي باقي عائلته وجاء إلى
سيارته الثانية، وعندما وصل إليهم حاول أخي إصلاح السيارة وتفحصها فلم يجد لها خرابًا، فقط أنها لا تشتغل.
قال محمد للسائق: سأخذ عائلتي إلى بريدة وأنت تنقل السيارة بواسطة (مركبة) سطحة لتصلح خرابها هناك.
قالت أم محمد لولدها محمد: أنا أكره هذا المكان (ظلم) الذي حصل فيه حادث والدكم رحمه الله، فلا تبقوا هنا هيا نذهب.
ركب الجميع سيارة أخي محمد وهو نفسه قائدها، وبقي السائق مع سيارته المتعطلة ينتظر سطحة لنقلها، فلما ساروا وحاذوا مكان حادث والدي انقلبت سيارتهم فجأة أيضًا عدة انقلابات، فتوفي جميع من فيها وعددهم ثمانية أفراد من بينهم والدتي وأخي محمد، وباقي أخواتي وعائلة أخي رحمهم الله جميعًا، وكان حادثهم بعد حادث والدي بثلاثة عشر عامًا، إذ حصل هذا الحادث في شهر شوال عام 1416 هـ.
أما سائق السيارة الثانية فإنه بعد ما سار أخي محمد بعدة كيلوات شغل سيارته فاشتغلت كأن لم تصب بعطل، وإنما وقوفها كأنه لشيء ما، وقدر قد كتبه الله وسيقع فوقع فعلًا، وهو حادث هذه العائلة ووفاتهم جميعًا غفر الله لهم جميعًا، وما أحسنها من خاتمة صيام وعمرة في رمضان.
وكان ممن أسعف أهل الحادث سائقهم الذي كتب الله له النجاة بعزله عن العائلة:
والشاعر يقول:
لا تقل فيما جرى كيف جرى
…
كل شيء بقضاء وقدر (1)
(1) سواليف المجالس، ج 10، ص 7 - 10.