الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على هذه الإستجوابات المثيرة بكل هدوء دون أن يبدوا عليه الانزعاج أو الإنفعال.
ولم يثبت أنه اتخذ أي إجراء تأديبى ضد هؤلاء اليهود مع علمه بأنهم في كل استجواباتهم ومناظراتهم لا يبحثون عن الحق لاتباعه، وإنما يبحثون عن المتاعب لإثارتها في وجه هذا الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يعرفونه قبل غيرهم أنه الحق، فصاروا يقاومونه بكل وسيلة ممكنة، بغيًا وحسدًا.
النبي وحرية القول
ويمكننا الإعلان (بكل فخر واعتزاز) أن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الموقف المتسامح الذي وقفه من اليهود الذين شنوا عليه وعلى دعوته حربًا إعلامية واسعة متواصلة عنيفة - كان أول من وضع ونفذ قانون حرية القول والفكر، للمخالفين في العقيدة والدين.
فليس مشرعو القوانين الحديثة في البلاد الديمقراطية من العالم الحر الذين يفخرون بأن حكوماتهم تمنح الفرد مطلق الحرية ليفكر ويعلن عما يريد أن يقول، ولو كان هذا القول يتنافى مع رغبات الحاكم الأعلى ولا يتفق مع اتجاهاته، إلا عيالًا على ذلك القانون الذي وضع أسسه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وطبقه إزاء خصومه (من مواطنيه) في العقيدة والدين والاتجاه، منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا.
بل إن مشرعي القوانين الحديثة (في البلاد الديمقراطية الغربية) لم يستطيعوا (حتى في القرن العشرين) أن يقتربوا - في مجال منح الحريات العامة - مما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المجال - من حريات مطلقة لمواطنيه ممن يخالفونه في الرأي والعقيدة والدين، كما رأينا في
مواقفه المتعددة من اليهود الذين لم يتركوا وسيلة من وسائل الإعلام إلا واستخدموها ضد النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وسخروها لتنفير الناس عنه وتشكيكهم فيما يدعو إليه بل والطعن (صراحة) فيه وفي رسالته.
ومع هذا لم يقم ضدهم بأي أعمال تأديبية من سجن أو فرض غرامة أو نفى أو ما شابه ذلك، مع العلم أنه كان قادرًا على ذلك لأن الدولة له والأمة كلها (ما عدا اليهود) طوع إشارته.
وهذه المعاملة مع الخصوم - في مجال العقيدة والسياسة - لم يستطع أرقى تشريع في العالم المتحضر اليوم الوصول إليها.
فالقوانين العصرية في البلاد (المسماة بالديمقراطية في الغرب) تنص على إطلاق الحريات العامة للمواطنين على اختلاف اتجاهاتهم ومذاهبهم وتحمى هذه الحريات، ولكن بشرط أن لا تستخدم هذه الحرية للتخريب وإشاعة الفتنة والفرقة بين الناس.
أما إذا استخدمت الحريات لهذا الغرض، فإن هذه القوانين تمنع هذه الحرية وتضرب على أيدى مستغليها لذلك الغرض التخريبى الذي يؤدي في النهاية إلى هدم النظام القائم.
وإذا رجعنا إلى محاضر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وجدنا أنه قد وقف منهم تلك المواقف المتسامحة ومنحهم مطلق الحرية ليقولوا فيه وفي دينه ونظامه ما شاعوا، مع العلم أنهم لا يقصدون بكل ما يقولونه من انتقادات ويتقدمون به من استجوابات حول الدين الجديد والنظام الذي جاء به، إلا هدم هذا الدين وإشاعة الفتنة بين المواطنين وإسقاط النظام القائم لتبقى لهم السيطرة على المجتمع.