الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنو قينقاع ينقضون العهد
وتمشيًا مع النية المبيتة والمخطط المرسوم لدى هؤلاء اليهود، استمروا في تحرشهم بالمسلمين واستفزازهم ومحاولة إثارتهم وجرهم إلى حرب يرغب اليهود (سلفًا) في إثارتها، وما زالوا كذلك حتى نشبت الحرب بين الفريقين بعد أن تزايد طغيان اليهود إلى درجة نقضوا معها الذي بينهم وبين المسلمين.
وقد ذكر ابن إسحاق أن سبب هذه الحرب هو أن امرأة مسلمة جاءت بحلى لها لتبيعه في سوق بني قينقاع في المدينة، ولما جلست اجتمع عليها نفرم من اليهود يستفزونها ويتحرشون بها فأرادوها على كشف وجهها فأبت ذلك، فعمد أحد اليهود إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك اليهود منها وسخروا، فصرخت مستغيثة بالمسلمين الذين كان أحدهم حاضرًا فوثب المسلم على اليهودى المعتدى فقتله، فشد اليهود على المسلم فقتلوه فوقع الشر بينهم، يقول ابن إسحاق إن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحادث ضرب الحصار على اليهود ولم يذكر تفصيلًا آخر.
مناقشة ابن إسحاق
غير أن الباحث المتعمق المتجرد يجد من الصعب عليه التسليم بأن هذا الحادث الفردى هو المبرر الوحيد لضرب النبي صلى الله عليه وسلم، الحصار على بنى قينقاع، فلا بد أن يكون من الأسباب ما هو أكبر من هذا الحادث قد
أدت إلى محاصرة بنى قينقاع وضرورة محاربتهم.
فالذي يعرف أناة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وحلمه يجزم أنه لم يضرب الحصار على هؤلاء اليهود إلا بعد أن تأكد لديه نقضهم العهد ومنابذته، يدلنا على ذلك سعيه للاجتماع بهم في سوقهم وتحذيرهم ونصحهم (دون سواهم من اليهود) وأن اليهود إنما اتخذوا من حادثة المرأة المسلمة وما نتج من الاعتداء عليها وسيلة وفرصة لإعلان الحرب على المسلمين. يدلنا على ذلك أنهم سارعوا إلى الاعتصام بحصونهم ورفضوا أية مفاوضة أو تفاهم، وأن ذلك قد حدث منهم نتيجة تخطيط سابق ونية مبيتة لسلوك طريق العدوان الذي سلكته قريش في بدر فنقضوا بذلك العهد.
وقد أشار ابن إسحاق نفسه إلى ذلك بقوله: "إن بنى قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد. إلا أنه لم يفصل كيف كان نقضهم العهد.
بل إن القرآن (وهو أصدق من كل حديث)، قد أشار إشارة واضحة إلى أن سبب الحرب بين بنى قينقاع والمسلمين هو أكبر من سبب حادث المرأة الذي ذكر ابن إسحاق، وهو أن اعتداء اليهود وتحرشهم بالمسلمين في المدينة كان على مستوى عدوان وطغيان قريش عندما سعوا لإشعال نار الحرب في بطاح بدر بغيًا وعدوانًا واحتقارًا لشأن المسلمين.
فقد جاء في القرآن الكريم بشأن بنى قينقاع هؤلاء قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَينِ الْتَقَتَا (أي المسلمين والمشركين في بدر) فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيهِمْ رَأْيَ الْعَينِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (1).
فالذي نراه (والأمر مجرد اجتهاد واستنتاج) أن حادث سوق بنى قينقاع (مجردًا) يستبعد أن يكون الحافز الوحيد لضرب الحصار على هؤلاء اليهود بل لا بد من أن يكون هناك ملابسات ومضاعفات أخرى أتت من قبل اليهود، اضطر النبي صلى الله عليه وسلم معها إلى ضرب الحصار على هؤلاء اليهود لتفادى شرهم ووضع حد لعبثهم واستهتارهم الذي يعرض الأمة اليثربية كلها لأخطار قد يصعب تلافيها.
ولعله من عجيب الاتفاق أننى بعد أن حررت هذه الملاحظة حول سبب إجلاء بنى قينقاع، اطلعت على رأى للمؤلف الإنكليزى المعروف الدكتور (مونتجمرى وات) فقد قال هذا المؤلف في كتابه (محمد نبي ورجل دولة) ص 130 وما بعدها: "لقد كان طرد قبيلة بنى قينقاع أحد العوامل الهامة التي عملت على تثبيت مركز محمد ودعمه، وسبب هذا الطرد كما ترويه بعض الروايات - نزاع طفيف طرأ بين يهود القينقاع وبعض التجار المسلمين في السوق في المدينة، فبينما كانت إحدى النساء العربيات جالسة عند صائغ ذهب ربط أحد اليهود مجموعة من الشوك بثوبها حتى إذا نهضت انكشف معظم جسمها فضحك المشاهدون.
(1) آل عمران: 12.
وقد اغتاظ أحد المسملين الحاضرين فقتل مدبر هذه الحيلة ثم لقى هو حتفه، ثم انسحب اليهود بعد هذه الحادثة إلى معاقلهم وتوجه محمد صلى الله عليه وسلم مع بعض أتباعه فحاصرهم هناك"، ثم علق مونتجمرى على هذه الرواية بقوله:
"غير أنه لا يمكن الاعتماد على هذه القصة، فهي أسطورة كثيرًا ما نقرأ عنها في تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام، إلا أنه قد يكون هناك نزاع بين المسلمين واليهود".
ثم يبدى الدكتور مونتجمرى رأيه الخاص فيقول: "أما الأسباب التي أدت بمحمد إلى اتخاذ قرار طرد اليهود فيظهر أنها أكثر عمقًا من هذه الحادثة العابرة، فاليهود لم يظهروا استعدادهم التام للاندماج في المجتمع الإسلامي، ولذا فقد رأى محمد أن يقاطعهم، ورغم أنهم كانوا لا يزالون يحتفظون ببعض الصلات معه، إلا أنه كان دائمًا يترقبهم بحذر ليغتنم أية فرصة يهيؤونها له بسبب مخالفتهم لروح المعاهدة المبرمة بينهم"(تأمل). ثم يضيف الدكتور مونتجمرى مبررًا آخر لما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم ضد يهود بنى قينقاع فيقول:
"وقد يكون محمد صلى الله عليه وسلم أيضًا على علم بالعلاقات الودية بين اليهود ومناوئيه من قريش في مكة (وهذا بالتأكيد يعد مخالفة لروح الاتفاقية المبرمة بين المسلمين واليهود بل وناقضًا لها"(1).
(1) انظر بنود هذه المعاهدة مفصلة في كتاب - الوثائق السياسية ص 1 للدكتور محمد حميد الله.