الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البخاري:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - " باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
- " (1)
ــ
(بسم الله الرحمن الرحيم)
1 -
" باب كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "
أقول وبالله التوفيق: جرت عادة المصنِّفين على إطلاق لفظ الباب على مجموعة من المسائل العلمية المشتركة في حكم واحد، وعلى هذا جرى البخاري حيث ذكر في هذا الباب الأحاديث المتعلقة بالوحي، وكيف بدأ وتدرج من مرحلة إلى أخرى، ومن رؤيا منامية إلى وحي صريح. كما ذكر فيه الأحاديث المتعلقة بالوحي المحمدي وتقرير صحته وثبوته وصدقه. ولا شك في أن تصدير البخاري. كتابه بباب بدء الوحى أمر في غاية المناسبة، والإِبداع والتوثيق العلمي. فإنّ فيه إشارة صريحة إلى أن ما بين دفتيه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم هو وحى إلهي، وكذلك السنة الصحيحة كلها. قال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنَّة كما ينزل بالقرآن، أخرجه الدارمي، وقال عز وجل:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا إني أوتيت الكتاب ومثله ". أما الوحي فله معنيان معنى لغوي ومعنى شرعي وإنْ شئتَ قلت: له في اللغة معان عديدة، وله شرعاً معنى واحد. فالوحي لغة يأتي لعدة معان وهي:
(أ) الإشارة الحسية باليد والعين وغيرهما، كما قال الشاعر:
(1) حديث "إنما الأعمال بالنيات
…
" سيأتي شرحه وافياً صفحة (145).
نظرت إليْها نظرةً فَتَحَيَّرَتْ
…
دَقَائِق فِكْري فِى بَدِيْع صِفَاتِهَا
فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا
…
فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا
ومنه قوله تعالى: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).
(ب): الكتابة كقول لبيد (1):
فمدافعُ الرَّيَّان عُرِّي رَسْمُها
…
خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلَامُها
(فالْوُحِىُّ جمع وَحْيٍ وهو الكتابة)، وإنما سميت الإِشارة والكتابة وحياً لدلالتهما على المعنى بسرعة لا يدانيهما فيها غيرهما. والعرب تسمي السرعة وحياً، فيقولون: تَوَحَّى الرجل إذا جاء بسرعة، فهما يرجعان إلى أصل واحد وهو السرعة.
(جـ) الإِلهام القلبي وهو ما يلقيه الله في قلب الإنْسان من علم، أو أمر، أو نهي. كما قال تعالى:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
(د) التسخير الغريزى للحيوان (2) كقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ): أي أنَّ الله سخرها عن طريق الغريزة أنْ تصنع هذه الأشياء
العجيبة.
(هـ) الوسوسة الشيطانية، ومنه قوله تعالى:(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ). وإنما سمي " الإلهام " و " التسخير الغرْيزي " و " الوسوسة الشيطانية " وحياً، لأنّها إعلام في خفاء، والعرب تسمي الإعلام الخفي
(1) ديوانه: 297
(2)
الوحي المحمدي للسيد رشيد رضا.
وَحْياً، قال الكسائي: تقول وحيت إليه إذا كلمته بكلام تخفيه عن غيره. أما الوحي شرعاً: فهو إعلام الله تعالى لنبيٍّ من أنبِيَائه بالشريعَة الْمنْزَلَةِ عليه، وما يتعلق بها من أخبار وأحكام سواءً كان هذا الإِعلام الإِلهي مَناماً أو إلهاماً أو كلاماً بواسطة أو بغير واسطةٍ. وِإنما سمي إعلام الله لأنْبِيَائِهِ وحياً لأمرين:
أولاً: لأنه يأتي غالباً إِلى الأنبياءِ في سرِّية وخفاءٍ، وأصل الوحي في اللغة " الإِعلام الخفي ".
ثانياً: أنه غالباً مما يتم في سرعةٍ شديدةٍ حتى أنَّ القسطلاني قال: والتلقي من الملك، وفهم النبي صلى الله عليه وسلم ما أُلقي إليه كأنه في لحظة واحدة، بل أقرب من لمح البصر، ولذلك سمي وحْياً لأن الوحي في اللغة الإِسْراع. والحاصل أنه سُمِّيَ وحياً لما يتصف به غالباً من الخفاءِ والسرعة، حتى قال بعضهم: الوحي شرعاً هو إلقاء الله تعالى الكلام أو المعنى في نفس النبي بخفاء وسرعة.
ولكن هذا التعريف في الحقيقة، لا ينطبق على الوحي في كل الأَحوال، فليس كل وحي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرعة وخفاء، فقد يأتي أحياناً عَلانيةً، ويلقاه جبريل أمام أصحابه، فيرونه ويشاهدونه، ويسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم، وَيقولُ لهم النبي صلى الله عليه وسلم:" هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ". وقد تطول مدة نزول الوحي، ويستغرق فترة من الزمن، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فالسرية والسرعة ليست صفة لازمة للوحي، ولا حالة مطرِّدَة فيه، وإنما هي حالة أغلبية والله أعلم.
أنواع الوحي: قال ابن القيم: وكمل الله له صلى الله عليه وسلم من مراتب الوحي مراتب عديدة.
أحدهما: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدء وحيه (1)، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه (2) من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم:" إنّ روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلاّ بطاعته ".
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي ما يقول، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده، عليه فيلتبس به الملك حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد. وحتى إن راحلته لتبرك به إِلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرّة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليها حتى كادت ترضها.
الخامسة: أن يرى الملك في صورته (3) التي خُلق عليها فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج. من فرض الصلاة وغيرها.
(1) واستمر على هذه الصورة ستة أشهر من ربيع الأول إِلى رمضان، حيث نزل عليه الوحي الصريح، وأتاه جبريل في غار حراء.
(2)
وهو ما يسمى بالإلهام، ومعناه إلقاء العلم الإلهي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، دون سبب ظاهرى، من إدراك حس أو نظر واستدلال.
(3)
وهو نادر جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يره على صورته الأصلية إلا مرتين، مرة سأل ربه أن يريه كذلك، فظهر له كما هو، فسد الأفق، ومرة أخرى عند سدرة المنتهي، ليلة المعراج، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد، وجاء فيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى، له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق. أخرجه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
السابعة: كلام الله له، منه وإليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله تعالى موسى بن عمران، وكلَّم أيضاً نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، قال ابن القيم: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحاً، " مباشرة دون حجاب " وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأَى ربه (1) تبارك وتعالى، وهي مسألة خلافية بين السلف والخلف، وقد بدأ الخلاف في هذه المسألة منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، فعائِشةُ وجماعة من الصحابة يقولون: لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وابنُ عباس ومن وافقه يقولون: رأى صلى الله عليه وسلم ربه، ليلة المعراج، وروى الخلال في " كتاب السنة " عن المروزي أنه قال: قلت لأحمد: يقولون إنَّ عائشة قالت: " من زعم أنّ محمداً رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية " فبأي معنى تدفع قولها قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي (2)، وقال ابن كثير: وصرح بعضهم بالرؤية بالعين، واختاره ابن جرير وبالغ فيه (3) وقال النووي في شرح مسلم: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه (4)، لحديث ابن عباس وغيره، حيث قال " أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم وإثبات هذا لا يأخذونه إِلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
عناصر الوحي: لا شك أنّ الوحي يتألف من عنصرين هما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالسنة توأم القرآن، والمصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي وحي إلهي من أنكرها فقد أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكفر بشهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنها لا تتحقق إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، والعمل
(1) زاد المعاد لابن القيم.
(2)
" مختصر سيرة الرسول " للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(3)
" البداية والنهاية " لابن كثير ج 3.
(4)
شرح النووي على مسلم ج 3.
(5)
والرؤية محمولة على المقيدة بالفؤاد، ومن روى أن الرؤية بالبصر، فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم، ومن قال: إنه رآه بعيني رأسه، ففيه نظر. (ع).
بسنته، ومن لم يعمل بالسنة لم يعمل بالقرآن؛ لأنه خالف قوله عز وجل (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). ولا تتحقق طاعة الله إلّا بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عز وجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وقوله صلى الله عليه وسلم:" من أطاعنى فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " أخرجه البخاري. وقال يحيى بن كثير: كان جبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن. وفي الحديث عن المقدام بن معدي كرب قال: قال النبي: صلى الله عليه وسلم " ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله " إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: " وإنّ ما حرم رسول الله كما حرم الله " أخرجه أبو داود. وقال طاووس رحمه الله تعالى: وقيل: لم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط إلا بوحي، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسن به (1).
من هو أول الأنبياء ومن أول الرسل؟
لا خلاف بين أهل العلم في نبوة آدم عليه الصلاة والسلام، فقد اتفقوا على أَنه نبي، وأنه أوّل الأنبياء، لثبوت ذلك بالأحاديث الصحيحة، قال الأستاذ الصابوني (2) وقد ورد في السنة الصحيحة ما يدل على نبوته صراحة وذلك في حديثين:
الأول: عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدى لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر "، رواه الترمذي.
الثاني: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله
(1) ترتيب مسند الإمام الشافعي لمحدث المدينة في القرن الثالث عشر الهجري الشيخ محمد عابد السندي المتوفى سنة 1257 هـ.
(2)
النبوّة والأنبياء للأستاذ محمد علي الصابوني.
أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم، قلنا: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: نعم، نبي يكلَّم، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جَمَّاً غفيراً .. رواه أحمد. قال: ولهذه الأدلة نرى علماء المسلمين متفقين على نبوته، لم يخالف في ذلك أحد، والله تعالى أعلم " قال " وأما رسالته فالأمر فيها مختلَفٌ فيه، فيرى بعض العلماء أنه رسول، وأنه أرسل إلى ذُرِّيته، ويرى الآخرون أنه لم يكن رسولاً، وإنَّما كان نبيّاً، ويستدل هؤلاء بحديث الشفاعة الوارد في صحيح مسلم أن الناس يذهبون إلى نوح يقولون له أنت أوّل رسل الله إِلى الأرض، فلو كان آدم رسولاً لما ساغ هذا القول.
والرأي الأرْجح أنه من الرسل. ومن أقوى الأدلة على رسالته قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) فقد روي عن الحسن وابن عباس رضي الله عنهما تفسير الإِصطفاء في الآية بالاختيار للرسالة، كما أخرجه ابن عساكر وابن جرير (1)، وهذا يدل على أن آدم أوّل الرسل، قالوا: إنما لم يذكر اسمه مع الرسل في قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلخ لأن الوحىَ الذي أنزل عليه كان غالباً حول الأمور الكونية (2)، لا التشريعية والله أعلم.
…
(1) تفسير الآلوسي ج 3.
(2)
فيض الباري على صحيح البخاري للشيخ محمد أنور الكشميري.
1 -
عَنْ عائِشَةَ رضي الله عنها:
أنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَام سأل رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَأتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أحْيَاناً يَأتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ
ــ
1 -
الحديث: أخرجه الشيخان
راوية الحديث: هي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته، وعمرها ست سنوات، ودخل عليها بالمدينة في شوّال من السنة الثانية وعمرها تسع سنوات.
ولها مناقب عظيمة، فمن مناقبها أنها حبيبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي كان ينزل عليه في فراشها، ونزلت براءتها من السماء، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم في حجرها، ودفن في حجرتها، وكانت من الستة المكثرين من رواية الحديث، وهم أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم. روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاً ومائتين وعشرة أحاديث في حين أنها لم تتجاوز الثامنة عشرة عند وفاته صلى الله عليه وسلم. وكانت مرجعاً للناس في الفقه والفتيا والكتاب والسنة، كما كانت موضعٍ تقدير الخلفاء، توفيت في رمضان سنة خمس وخمسين للهجرة مخلّفة بعدها تراثاً إسلامياً ضخماً يُعَدُّ مصدراً من مصادر التشريع الإِسلامي.
معنى الحديث: تُحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها " أن الحارث بن هشام " ابن المغيرة الخزومي شقيق أبي جهل، أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وأصبح من فضلاء الصحابة، خلّف اثنين وثلاثين ولداً منهم عبد الرحمن بن الحارث، أحد الفقهاء السبعة، وحضر اليرموك واستشهد فيها. " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ " أي أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال ليتعرّف على كيفية
الْجَرَس" وَهُوَ أشَدُّهُ علَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وأحْيَاناً
ــ
نزول الوحى، لأن الوحي هو مصدر هذا الدين، ولأن التعرف عليه والتأكد منه مما يقوِّي الإيمان ويزيد في اليقين. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد عُني بسؤاله هذا لأهميته، وأجابه عنه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس " أي أن للوحي صوراً مختلفةً، ومن هذه الصور أنه يأتي " في بعض الأوقات " على شكل صوت قوي غريب مبهم، يشبه دقات الجرس. لو سمعه الإِنسان العادي لم يفهم منه شيئاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعي هذا الصوت، ويفهم معناه، فور انتهائه. لأنّ الله تعالى الذي علَّم آدم الأسماء كلها قد هداه إلى معناه، وأقدره على فهمه.
أما مصدر هذه الصلصلة وصوت من هي؟ فالظاهر أنها صوت المَلَك الوكل بالوحي، لما جاء في رواية أخرى للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يأتي الملك أحياناً في مثل صلصلة الجرس " أي يأتي الملك بالوحي أحياناً، فيكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بصوت مثل صلصلة الجرس (1). وقد كان هذا النوع من الوحي يأتي بأصوات مختلفة، وربما أَتى كدويّ النحل، وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعونه أحياناً، فقد روى عمر في حديثه أنه صلى الله عليه وسلم إِذا نزل عليه الوحي يُسْمَعُ عنده كدويّ النحل، أخرجه الترمذي، والنُسائي والحاكم والبيهقي وأبو نعيم بإسناد جيد، قال القاضي (2): وما جاء مثل ذلك يجري على ظاهره، وكيفيّة ذلك مما لا يعلّمه إلاّ الله سبحانه، ومن أطلعه الله على شيءٍ من ذلك من ملائكته ورسله، قال صلى الله عليه وسلم " وهو أشده على " أيْ والوحي على هذه الصورة أشد أنواع الوحي على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما أفاده الحافظ أمر
(1) قال الكرماني الجرس شبه ناقوس صغير، أو سطل مقلوب في داخله قطعة نحاس يعلق على البعير منكوساً فإذا تحركت النحاسة فأصابته تحصلُ الصلصلة.
(2)
أى القاضي عياض.
يَتَمَثَّلُ لِىَ الْمَلَكُ رَجُلاً فيُكَلِّمُني، فأعيَ ما يَقُولُ" قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: ولقَدْ رَأيتُهُ ينزلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ في اليوْمِ الشَّديدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ
ــ
" واضح " لأن الفهم من كلام مثل صلصلة الجرس، أَشكل " وأصعب " من الفهم من الكلام العادي بالتخاطب المعهود. قال صلى الله عليه وسلم " فيفصِمُ عنّي وقد وعيت عنه ما قال " أي فلا يكاد ينتهي هذا الصوت المبهم الشبيه بالصلصلة وينقطع الإرسال إلا وقد فهِمْتُ ما يعنيه، وماذا قال فيه، لأن الله الذي علم آدم الأسماء كلها قد هدى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقدره ومكّنه من فهم هذه الصلصلة، ثم قال " وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً " أي وفي بعض الأوقات يصل إليَّ الوحي عن طريق الالتقاء الشخصي بالمَلَكِ الذي يحمله، فيأتي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة إِنسان من البشر، ويراه النبي صلى الله عليه وسلم عياناً، ويكلمه ويسمع منه كلاماً واضحاً جليًّا، ويلتقي به حقيقةً لا خيالاً، قال ابن خلدون: وفي هذه الحالة (1) ينتقل الملك من الروحانية المحضة إلى الصورة البشرية، وكان غالباً ما يأتي على صورة دحية الكلبي، أوسم العرب، ولا غرابة في ذلك، فإن الملائكة تتشكل كيف شاءت، لأنّها أجسام نورانية لطيفة قادرة بإذن الله على التشكل بأشكال مختلفة، إلاّ أنها لا تتشكل إلاّ بالصور الشريفة.
والملك كما يقول السيد رشيد رضا: قد منحه الله تعالى قوة التصرف في مادته وصورته، فالملائكة تكبر وتصغر كيف شاءت بإقدار الله تعالى لها على ذلك.
" فيكلمني فأعي ما يقول " أي فيبلغنى ذلك الملك الوحْي الذي جاء به من عند الله تعالى بكلام صريح واضح، فأفهمه في الحال، وهو معنى قوله:" فأعي ما يقول " لأن المضارع المقترن بالفاء يدل على الحال. "قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم
(1) مقدمة ابن خلدون.
عَنْهُ، وإنَّ جَبينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقاً.
ــ
عنه" أي فينقطع عنه " وإن جبينه ليتفصد عرقاً " أي يسيل العرق من جبينه بغزارة شديدة، كما يسيل الدم من العِرْقِ المفصود. بسبب ما يكابده من شدة الكرب والمعاناة، وما يبذله من جهد أثناء نزول الوحي عليه، وقد وردت في وصف ما يعانيه النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي أحاديث كثيرة، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه عند الوحي الرحضاء " أي يتقاطر منه مثل عرق الحمى " وفي حديث عبادة بن الصامت " كان نبي الله إذا أنزل عليه كرب تربد وجهه " وهذه الشدة التي يعانيها مصداق قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي ثقيلاً عند تلقيه وحياً، والالتزام به عملاً ولكن هذه المشقة تهون وتزول متى تكرر نزول الوحي، فتذهب متاعبه ومشقته، وتبقى حلاوته وعذوبته. كما أفاده فضيلة الأستاذ الشعراوي في فتاويه (1) والله أعلم.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: تنوع الوحي إلى أنواع مختلفة، فمن أنواعه: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتاً مثل صوت الجرس أو دويّ النحل ومنها التقاء الملك بالنبي صلى الله عليه وسلم متمثلاً في صورة إنسان من البشر يبلغه عن الله عز وجل ما شاء الله أن يبلغه له من أمر أو نهي أو خبر أو بشارة أو نذارة أو غيرها. وقد يلتقي به في سمع من الصحابة فيسأله ويُجيبُهُ ثم يعرفهم به صلى الله عليه وسلم بقوله: " هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم " كما في حديث جبريل المشهور.
ثانياً: بيان ثقل الوحي وشدته على النبي صلى الله عليه وسلم سيما ما كان منه مثل صلصلة الجرس.
(1) الفتاوى لفضيلة الأستاذ الشعراوي.
2 -
عَنْ عَائِشَةَ أمِّ الْمُؤْمِنينَ رضي الله عنها قَالَتْ:
أوَّلُ مَا بُدِىءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرؤيَا الصَّالِحَة في النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرى رؤيا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليْهِ الْخَلاءُ،
ــ
ثالثاً: إثبات وجود الملائكة وقدرتهم على التشكل بأشكال مختلفة والمطابقة: في قوله صلى الله عليه وسلم: " أحياناً، وأحياناً " فإنّه يدل على أن للوحي صوراً مختلفة.
2 -
الحديث: أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي
معنى الحديث: تحدثنا السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث، عن بَدْءِ نزول الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم فتذكر لنا أن أول ما أوحي إليه في البداية هو الرؤيا الصالحة والصادقة، التي اقتصر عليها الوحي مدة ستة أشهر، من ربيع الأول إلى شهر رمضان المبارك حيث جاءه الوحي الصريح. وإنما اقتصر الوحي في بدايته على الرؤيا فقط مراعاةً لسنّة التدرج، وتلطفاً وإيْناساً له صلى الله عليه وسلم، ورفقاً به، لئلا يَفْجَأهُ الملك يقظةً فيشق عليه. " فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح (1) " أي فكانت رؤياه صلى الله عليه وسلم كلها صحيحة صادقة، لا يرى رؤيا إلاّ تحقَّقَ تفسيرها وظهر، كما يظهر الصباح في هذا الوجود، لأنَّ رؤيا الأنبياء ليست من أضغاث الأحلام، وإنّما هي حق ووحي من الله.
وأفئدة الأنبياء كأجهزة الاستقبال (2) المعدة لالتقاط الأنباء في كل حين، فهي مستعدة لتسجيل ما يقذفه الملك فيها يقظة أو مناماً. " ثم حبب إليه الخلاء " أي حَبب الله تعالى لنبيّه العزلة والانفراد عن الناس، والانقطاع لعبادة الله
(1) قال بعضهم: فلق الصبح ضياؤه، وقال الخليل: هو الصبح نفسه، فيكون قوله " فلق الصبح " من إضافة الشيء إلى نفسه لتأكيده، كقولهم عين الشيء وسوّغ ذلك اختلاف اللفظين.
(2)
هكذا شبه الأستاذ محمد الغزالي قلوب الأنبياء في استقبالها للوحي الإلهي وهو تشبيه لطيف.
وَكَانَ يَخْلُو بغَارِ حِرَاءَ، فَيَتَحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التُّعَبُّدُ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ في غَارِ حِرَاءَ، فجاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: مَا أنَا بِقَارِىءٍ، قَالَ: فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي
ــ
تصفيةً لقلبه، وتزكية لروحه، وإبعاداً له عن الباطل وأهله. فاختار صلى الله عليه وسلم لنفسه هذه العزلة عن رغبة وعاطفة، حيث وجد فيها لذة الروح، وسلوة النفس، ومتعة القلب، بالأنس بالله تعالى، وذلك من مقدمات نبوته. " فكان يخلو بغار حراء "(1) أي فكان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى غارٍ منزوٍ في جبل حراء، على يسار الذاهب إلى منى، وعلى بعد ثلاثة أميال من مكة، فينفرد في ذلك الغار، لكْي يجمع بين الخلوة والتعبد والنظر إلى بيت الله الحرام، ولا تجتمع هذه المزايا العظيمة إلاّ في غار حراء الذي يطل على الكعْبة، فيمكنه من النظر إليها، والنظرُ إلى البيت عبادَة. " فيتحنث فيه " أي فيكثر هناك من عبادة الله تعالى ليالي وأياماً عديدة، ولا يمكن القطع في كيفية عبادته صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يرو شيء عن ذلك في الأخبار الصحيحة، ولكنّ الذي يرجحه المحققون من أهل العلم أنه كان يتعبد بالتفكير والتأمل في هذا الكون ومُبْدِعه، والفكر عبادة " قبل أن يَنْزِعَ إلى أهله "(2) أي فيمكث هناك في غار حراء فترة من الزمن حتى يحن إلى أهله، ويقوى اشتياقه إليهم، ويفرغ زاده " ثم يرجع إلى خديجة " أي فإِذا اشتد به الحنين إلى أهله، وانتهي ما معه من الزاد عاد إِلى خديجة مرَّة أخرى. " فيتزود لمثلها " أي فيأخذ من خديجة زاداً جديداً، يصطحبه معه إلى غار حراء. " حتى جاءه الحق " أي واستمر سيدنا محمد
(1) بالمد والقصر والتذكير والتأنيث والصرف وعدمه.
(2)
يقال نزع إلى أهله إذا حن إلى رؤياهم، وناقة نازع إذا حنت إلى مرعاها.
الْجَهْدَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرأ، فقُلْت: مَا أنَا بِقَارِىء، فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرأ، فَقُلْتُ: مَا أنا بقَارِىءٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ
ــ
صلى الله عليه وسلم على الخلوة والتعبد، حتى أشرقت عليه أنوار النبوة، ونزل عليه الوحي الصريح، يوم الاثنين السابع عشر من رمضان، فأتاهُ ملك الوحي جبريلُ عليه السلام -حقيقة لا خَيالاً- مرسلاً من ربِّ العزة، وكان صلى الله عليه وسلم قد أَتمَّ الأربعين من عمره وتلك سنة الله في الأنبياء، لا يأْتيهم الوحي حتى يتم نضجهم الجسمي والعقلي والنفسي ببلوغ أربعين سنة.
قال الشاعر:
وَأتتْ عَلَيْهِ أرْبَعُوْنَ فَأشْرَقَتْ
…
شَمسُ النُبُوَّةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ
" فقال اقرأ " أي فلم يشعر إِلّا وجبريل شاخصٌ أمامَ عينيْهِ يقول له: اقرأ. قال في فيض الباري: وهذا الأمر بالقراءة من باب التلقين والتلقي، كما يقول المعلم لتَلميذه: اقرأ، ومعناه: خذْ عَنّي ما ألقيه إليك من القراءة.
" قال ما أنا بقارىء " أي كيف أستطيع القراءة وأَنا أُمي لا أقدر عليها ولا علم لي بها " قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد " أي فأمسك بي ذلك الملَكُ، وضمني ضمة شديدة، حتى بلغ مني أقصى ما تتحمله الطاقة البشرية.
وإنما فعل ذلك إيناساً له، وتقوية لنفسه، وتنشيطاً لقلبه، على تلقي الوحي الإلهي. " ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارىء " أي ثم أطلقني، وأمرني بالقراءة ثانياً، فقلت: ما أنا بقارىء، وهو تأكيد للجواب الأول، ومتضمن لمعناه " فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء " أي ماذا تريد مني أن أقرأ. "فأخذني
بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيلدٍ فَقَالَ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُوْني فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَديجَةَ وأخبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشيتُ علَى نَفْسِي، فقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللهِ
ــ
فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) " أي إِقرأ ما أقولُه لك، وأبلغه إليك مستعيناً باسم الله وحوله وقوته، وِإقداره لك على القراءة، فإن الخالق العظيم الذي وهب الوجود لكل موجود، وأوجد الأشياء على غير مثال سابق، قادرٌ على تمكينك من القراءة دون أن تتوفر فيك أسبابها.
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) وهذا تأكيد للمعنى الأول، وجوابٌ لقوله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارىء، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما أنا بقارىء، قال الله تعالى له: وما يمنعك من القراءة وإن كنت أُميّاً لا تملك أسبابها؟. فإِن الذي خلق هذا الإنسان الحي العاقل المفكر من علقة جامدة، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم وأنت أمي. (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أيْ اقرأ وأنت واثق من أن ربك الكريم الأكرم، الواسع العطاء، الذي أنعم عليك بالنبوة دون كسب واختيار، قادر على أن يمنحك القراءة والعلم، وأنت أُمي لا قدرة لك عليها، ولا تملك اسبابها. فإن النبوة هبة إلهية يمنُّ الله بها على من يشاء من عباده، كما قالت الرسل لمن أنكر عليهم نبوتهم (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). وإن الذي وهبك النبوة دون كسب، هو الذي أكرمك بالقراءة والعلم دون سبب، ليكون ذلك آية واضحة على صدق نبوتك، كما قال الشاعر:
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الأمِّيِّ مُعْجِزَةً
…
فِي الجَاهِلِيَّةِ وَالتَأدِيْبِ فِي اليُتُمِ
" فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده " أي فعاد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وبهذه الأمور العجيبة إلى خديجة، يضطرب قلبه بين جنبه خوفاً
مَا يُخْزِيكَ الله أبداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضِّيفَ، وتُعِيْنُ على نوائب الحق. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حتى أتتْ به وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَل بنِ أسَد بْنِ عبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ،
ــ
مما وقع له، ويرتعش جسمه فزعاً، لأن الخوف الشديد يرتجف له الفؤاد تلقائياً، ويذهب بالحرارة الباطنة، ويعقبه البرد والقشعريرة، والرِعشة البدنية.
وكذلك جميع الانفعالات النفسيّة تنعكسُ على أعضاء الجسم الداخلية والخارجية، ولذلك ارتعد قلبه صلى الله عليه وسلم بسبب شدة الخوف، وارتجف جسمه.
وإنما قال يرجف فؤاده، ولم يقل: يرجف قلبه، لأن الفؤاد وعاءُ القلب، فإذا حصلت الرجفة للوعاء حصلت لما في داخله من باب أولى، فهو أبلغ " فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع " أي فدخل على خديجة، وجسمه يرتجف وينتفض من القشعريرة وهو يقول: غطوني بالثوب، فغطه خديجة حتى ذهب خوفه، وأحس بالدفء، فهدأ جسمه. " فقال لخديجة وأخبرها الخبر، " أي قصَّ عليها ما وقع له في حراء قائلاً:" لقد خشيت على نفسي " أي لقد خفت على نفسي مما حدث لي اليوم في حراء، وهذه هي طبيعة الإنسان إذا رأى ما يفاجأ به (1)، فقد حكى الله عنٍ موسى أنه خاف من سحر السحرة كما قال تعالى:(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)" فقالت له خديجة: كلا " أي: لا داعي لهذا الخوف والقلق، فليس الشيء الذي رأيته من الأشياء الكريهة التي تستوجب الخوف والهلع والفزع. " والله ما يخزيك الله أبداً "(2). أي أقسم بالله أنه لن يصيبك هوان أو مكروه، أو ينالك ذلٌّ أو فضيحة مدى
(1) قال علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله فبدا له جبريل فرأى منظراً هاله، إذ لم يتقدم له شيء من ذلك.
(2)
والخزي هو الهوان والذل والفضيحة.
وَكَانَ امْرَأً تنَصَّرَ فِى الْجَاهِليَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العِبْرانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ما شَاءَ اللهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخَاً كَبِيراً قَدْ عَمِيَ،
ــ
الحياة لأنّك على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، " وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، " إنك لتصل الرحم " أي تحسن إلى أقاربك بالبذل والعطاء، والخدمة والسماحة، وطلاقة الوجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على الإحسان إلى قرابته، ولو كانوا كفاراً. فإنّه لما جيء إليه بالشيماء (1) بنتِ حليمة السعديّة في سبايا هوازن بسط لها رداءه، وقال لها: إن أحْببت أقمت مكرَّمَة مُحَبَبّةَ (2) أو رجعت إلى أهلك، فاختارت أهلها، فأعطاها عبداً وجارية (3). " وتحمل الكَلَّ " بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو في الأصل الثقل ويطلق على الإنسان العاجز عن مؤنة عياله، لثقل أعباء الحياة عليه، أي وتساعد العجزة والضعفاء، وتعينهم، وتحمل عنهم أعباء حياتهم، فإنْ كانوا فقراء أعطيتهم، وبذلت لهم من مالك، وإن كانوا مرضى واسيتهم، وإن كانوا في ضيق فرجته عنهم، ثم إنك تحمل من الصعاب والشدائد ما لا يحمله غيرك، لما فطرك الله عليه من الشجاعة والصبر على المكاره. " وتكسب المعدوم " (4) قال عياض: رويناه عن الأكثر بفتح التاء مضارع كسب، وعن بعضهم بضمها مضارع أكسب. اهـ. أمّا بفتح التاء فمعناه أنّها وصفته صلى الله عليه وسلم بحسن الحظ في التجارة، فهي تقول له: إنك تكسب من المال ما لا يكسبه غيرك، وتربح في تجارتك ما لا يربحه سواك، وقد كانت العرب لا سيما قريش يتمدحون بكسب المال.
(1) بفتح الشين وسكون الياء وهي أخته من الرضاعة.
(2)
بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الياء.
(3)
شرح الشفا للشهاب الخفاجي، وشرح الشفا لعلي القاري.
(4)
والمعدوم هو المال الذي يعدم كسبه من الغير.
فقالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِن ابْنِ أخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ:
ــ
وأما بضم التاء فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم جواد كريم، يعطي الناس ما لا يعطيهمٍ غيره، وقيل المعدوم هو الإِنسان الضعيف العاجز عن الكسب. سُمِّيَ معدوماً لعجزه عن التصرف فتكون رضي الله عنها قد وصفته بمساعدة العجزة والضعفاء، والبذل لهم من ماله، ويحتمل أنها أرادت كل هذه المعاني، فإنّها كلها تنطبق عليه صلى الله عليه وسلم " وتقري الضيف " أي وتقوم بضيافة الضيْف، وتكريمه بما يليق به، والقِرى بكسر القاف: الطعام الذي يقدَّم للضيف، فهي تصفه بإكرام الضيْف، وتقديم الطعام له، والقيام بواجبه، والترحيب به، وطلاقة الوجه عند مقابلته. " وتعين على نوائب الحق " أي وتعين الناس عند وقوع الحوادث، وتقف من ذلك في جانب الحق فتناصر المظلوم، وتأخذ على يد الظالم، وتسعف الملهوف، وتجير من استجار بك، قال العيني: النوائبُ جمع نائبة، وهي الحادثة، والنازلة خيراً أو شراً، وإنما قال: نوائب الحق لأنّها تكون في الحق وفي الباطل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعين على باطل، فلا يعين ظالماً على ظلمه. هذا وقد شملت هذه الأوصاف المحاسن كلها. وكأنّها رضي الله عنها أرادت أن تصفه بالكمال الإنساني الذي لا يشوبه نقص. وهكذا الأنبياء كما قال الأستاذ الغزالي: يكملهم الله من جميع النواحي الأخلاقية والنفسية والعقلية، لأن النبوة امتداد في جميع المواهب، بخلاف العظمة أو العبقرية، فإنّها قلما تخلو من شائبة نقص.
" فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل " أي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل " ابن عم خديجة " لأن والدها خويلد بن أسد ووالده نوفل ابن أسد أخوان " وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية " أي اعتنق النصرانية، وترك عبادة الأوثان، وذلك أنه سافر مع زيد بن نوفل إلى الشام، واتصل بالرهبان، ودرس عليهم وأخذ عنهم النصرانيّة، ولم يكن يوجد من المتدينين إلا قليل
يا ابْنَ أخِى مَاذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَر مَا رَأى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى. يَا لَيْتَنِي فيهَا جَذَعاً، لَيْتَنِي أكونُ حَياً إذْ يُخْرِجُكَ قَومُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
ــ
وهو منهم " وكان يكتب الكتاب العبراني " أي يعرف الكتابة العبرية ويجيدها كما يعرف لغَتها لأنها لغة الكتب السابقة، وسميت عبرية لأن إبراهيم نطق بها بعدما عبر النهر فارّاً من النمرود، قال العيني: وكان آدم يتكلم باللغة السريانية، وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم، غير أن إبراهيم حُوِّلَتْ لغته إلى العبرانية حين عبر النهر. " فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب "، أي يكتب منه الشيء الكثير، من أَيِّ موضع شاء بالعبرانية أو العربية كما أفاده السنوسي، ويُترجم إلى العربية إن شاء. " وكان شيخاً كبيراً قد عمَي " أيْ فقد بصره عندما كَبِرَ سِنَّهُ " فقالت له خديجة يا ابن عَمِّ اسمع من ابن أخيك " ولم تقل من محمد تلطفاً منها وتحبيباً لابن عمها فيه حتى يقبل عليه ويُعْنَى بشأنه " فقال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى " ولم يكن ابن أخيه نسباً، ولكن أراد إشعاره بعظم منزلته لديه، وأنه حل من نفسه في المعزّة والمحبّة منزلة ابن أخيه منه، فأطلق عليه ذلك مجازاً، كقول العرب " يا أخا العرب ". " فأخبره رسول صلى الله عليه وسلم " أي قص عليه قصته " فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله علىَ موسى " أي طمأنه وبشره بأنّ ما رآه هو الملك الذي كان ينزل على موسى بالوحي، قال ابن دريد: الناموس هو صاحب سر الوحي، وقال القاري (1): وأهل الكتاب يسمون جبريل بالناموس " يا ليتني فيها جذعاً " بالذال المعجمة المفتوحة والنصْب على الأكثر، أي ليتني أكون شاباً قوياً عندما يخرجك قومك، لأساهم في نصرتك، والدفاع عنك، والجذع من المعز ما
(1) المرقاة شرح المشكاة للقاري.
أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوُفِّي، وَفَتَرَ الوَحْيُ.
ــ
دخل في سنته الثانية، ومن الإبل ما بلغ الخامسة (1)، ومن الخيل ما بلغ سنتين، واستعير هنا للشابّ القوي، ونصب على الحاليّة أي يا ليتني حَي موجود في مكة حال كوني جذعاً كما أفاده عياض " ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك " أي حين تخرجك قريش، وهذا تنازل في التمني، لأنه لما رأى استحالة كونه شاباً قوياً حين إخراجه، لأنه قد أصبح شيخاً هَرماً كفيف البصر، تنازل عن أمنيته السابقة، وتمنى أن يكون موجوداً، ولو على حالتة الراهنة.
ليساعده بالرأي والمشورة والتدبير وحض الناس، على اتّباعه. " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجى (2) هم؟ " وهذا استفهام تعجبي أي كيف تخرجني قريش من مكة مع شدة حبهم لي، وتعلقهم بي، ووصفهم لي بالأمين " قال: نعم لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلاّ عودي ". أي إلاّ عاداه قومه " وإن يدركني يومك أنصرك نصْراً مؤزراً " أي قوياً. " ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي " أي لم يلبث ورقة إلاّ قليلاً حتى مات، وانقطع الوحي.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: إيمان ورقة بن نوفل، وقد ذكر السهيلي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك نبي مرسل، وأنك الذي بشر بك عيسى، وستأمر بالجهاد، وإن يدركني ذلك أجاهد معك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:" لقد رأيت القس في الجنة، وعليه ثياب الحرير، لأنَّه آمن بي وصدقني " أخرجه البزار. وذكره
(1) أي أن الجذع من الإبل ما بلغ عمره خمس سنوات.
(2)
بتشديد الياء لأن أصله مخرجوني.
ابن مندة في الصحابة والبلقيني في أول من أسلم.
ثانياًً: أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعاً وحي إلهي، لقول عائشة رضي الله عنها " أوَّل ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا إلخ.
ثالثاً: أن أوّل ما نزل من الوحي القرآنى (اقرأ باسم ربك).
رابعاً: أن الخائف لا ينبغي أن يُسْألَ حتى يهدأ، حتى قال مالك: المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره، ولذلك فإن خديجة لم تسأل النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب عنه الخوف.
خامساً: أن مكارم الأخلاق سبب للسَّلامة من المكاره لقول خديجة رضي الله عنها " والله ما يجزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم " الخ وقد صدقت في قولها، وبرت في قسمها.
سادساً: جواز مدح الإِنسان في وجهه بصدق إذا لم يُخْشَ عليه الغرور والإِعجاب بنفسه، لأن السيدة خديجة رضي الله عنها قد مدحت النبي صلى الله عليه وسلم بخصال الخير الموجودة فيه.
سابعاً: محاولة التخفيف عمن أصابه الفزع، والتسرية عنه، وتطمين قلبه وتهدئة نفسه.
ثامناً: في الحديث دلالة على فضل السيدة خديجة ورجاحة عقلها، وحسن تصرفها في المواقف الصعبة.
تاسعاً: دل الحديث على وجود الرؤيا الصادقة التي لا بد أن يظهر لها وجود في الواقع، ويقع تفسيرها في اليقظة على حسب تعبيرها، ومنها رؤيا الأنبياء التي هي أعظم أنواع الرؤيا، وأعلاها شأناً، وأشرفها مقاماً، وأصدقها وقوعاً. لأنّها وحي إلهيٌ كما قالت عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدىء
به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح.
وإذا كانت الرؤيا الصادقة موجودة كما يدل عليه نص الحديث، فكذلك الرؤيا الكاذبة موجودة أيضاً كما يدل عليه مفهوم الحديث، فالرؤيا أنواع مختلفة:
منها الأحلام الشيطانية: التي يصورها الشيطان للإِنسان في أثناء نومه أشكالاً مختلفة من الأشباح المخيفة، التي تؤذي النائم، وتثير في نفسه الآلام والمخاوف، وتسبب له القلق النفسي، فقد يرى أسداً يفترسه، أو عدواً يقتله، وما هي إلاّ مجرد خيالات لا تمت إلى الواقع بصلة، وقد نبهنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من الرؤي الشيطانية، وأرشدنا إلى علاجه، وكيف نتخلص منه ونتغلب عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم:" الحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً وليتعوَّذ من شرها. فإنها لا تضره " وإنّما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ منها مع أنها خيال، لا حقيقة له ليتخلص من تأثيرها النفسي، وما تحدثه من وساوس، وأوهام وآلام نفسية، قد تؤدي بصاحبها إذا استسلم لها إلى الجنون، أو الموت المحقق، لأن الوهم وحش كاسر يقتل صاحبه، ويفتك به. فالتعوذ من هذه الرؤي يقضي على آثارها النفسية، ويخلص المرء من شرها، كما روي عن أبي سلمة رضي الله عنه أنه قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة رضي الله عنه يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " الحُلُمُ من الشيطانِ ". الخ فما كنت أباليها، أي فما عادت تخيفني لقناعتي نفسياً بعدم تأثيرها سيما بعد الاستعاذة منها.
ومنها الأحلام النفسية: التي قد تنشأ عن مؤثرات خارجية، كأن يرى النائم ناراً تحرقه بسبب سقوط أشعة الشمس على عينيه. أو يسمع دقات الساعة
فيرى مطارق حديدية تهوي على جسمه، وقد تنشأ عن موثرات عضوية فيرى معسور الهضم عدُواً، يخنقه، وربما نشأت عن رغبات مكبوتة في العقل الباطن، يريد أن ينفِّس عنها بهذه الأحلام، ولم يعرف فرويد وغيره من علماء النفس التحليليين غيرَ هذا النوع من الرؤيا فحصروا الرؤيا كلها فيه، فليست الرؤيا عندهم إلاّ تحقيقاً لرغبات نفسية لم يقدر لها أن تتحقق في الحياة العادية فينفس الإنسان عنها أثناء نومه، ويحاول تحقيقها ولو في النوم. وأنكروا وجود الأنواع الأخرى من الرؤيا، لقصور علمهم، وضيق أفقهم، فذلك هو مبلغهم من العلم، والإِسلام يقرّ هذا النوع من الرؤيا ويضيف إليه أنواعاً كما قال صلى الله عليه وسلم " الرؤيا ثلاث، رؤيا صالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا يحدث بها المرء نفسه " وعلماء النفس لا يعرفون إلا الأخير، وينطبق عليهم قوله تعالى:(بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) فهم لا يتحدثون إلّا عن هذه الأحلام النفسية، ويحصرون فيه كل الرؤى، في حين أن الرؤيا أنواع مختلفة، منها ما عرفه علماء النفس وتحدثوا عنه.
ومنها أيضاً الرؤيا الصادقة: التي يظهر تفسيرها في حياة الانسان، فيقع في اليقظة ما رآه في النوم على حسب التعبير الصحيح الذي تعبر به، وقد أثبت الإِسلام وجودها، وتحدث عنها علماء المسلمين، وهي كما يقولون: إلهام يلقيه الله تعالى في قلب العبد أثناء نومه، أو يلقيه الموكل بالرؤيا، أو ما تراه الروح عند عروجها إلى السماء أثناء النوم. فالأرواح -كما قال الإِمام علي رضي الله عنه " يُعْرَج بها في منامها، فما رأت وهي في السماء فهو الحق "(1) وقال الأستاذ سعيد حَوَّى " هذا النوعِ من الرؤيا مهم جداً (2) لأنه يكون مبشراً أو منذراً أو مخبراً أو محذراً "، والرؤيا
(1) كتاب الروح لابن القيم.
(2)
تربيتنا الروحية للشيخ سعيد حوى.
الصادقة تشمل الرؤيا الصالحة وغيرها، فإن كانت رؤيا حسنة تسَرُّ لها النفس فهي رؤيا صادقة وصالحة، وإن كانت سيئة تكرهها النفس فهي صادقة غير صالحة، وذلك لأنّ الرؤيا السيئة ليست كلها من الشيطان، بل هي على نوعين: ما يكون منها حقاً بحسب التعبير، فهو رؤيا صادقة، ولو كانت سيئة، وما يكون باطلاً لا يعلم له معنى من طريق التعبير فهو رؤيا شيطانية كاذبة، كما أفاده ابن أبي جمرة. وقد روِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه، أتاه رجل فقال: إنه رأى في المنام كأن رأسه قطع، والرأس يتدحرج، وهو يجري خلفه فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: هذه من الشيطان، أأحَدٌ يقطع رأسه ويبقى حياً (1)؟! ومن أعظم الرؤيا الصادقة رؤيا الأنبياء والفرق بينها وبين رؤيا الآخرين أنها قطعية، ووحي من الله تعالى لا شك فيه، ولهذا كانت حجة شرعية تبنى عليها الأحكام الفقهيّة، بخلاف رؤيا غيرهم، فإنّها تحتمل الصدق والكذب ولا يعتمد عليها في حكم شرعي.
عاشراً: جواز ذكر العاهة الموجودة في الشخص لفائدة، كقول السيدة عائشة رضي الله عنها:" وكان شيخاً أعْمى ".
الحادي عشر: أنه ينبغي للمستشار أن يوضِّح رأيه، ويدعمه بالأدلة المقنعة، كما فعل ورقة عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أو مخرجيّ هم؟ " لم يكتف بقوله " نعم " وإنّما دعّم قوله بالتجربة التاريخية فقال: لم يأت رجل بمثل ما أتيت به إلاّ عُودي، أي إنَّ تلك سنة الله في أنبيائه جميعاً وقد قال قوم شعيب لنبيّهم:(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) - (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) ولهذا قيل: لا كرامة لنبيٍّ في وطنه.
والمطابقة: في قول عائشة رضي الله عنها " أوّل ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة .. " فهو مطابق لقوله في الترجمة "باب كيف
(1) بهجة النفوس لابن أبي جمرة الأندلسي.
3 -
عنْ جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ وهُوَ يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحي، فقَالَ فِي حَدِيثهِ:
بينَا أنا أمشِى إذْ سَمِعتُ صَوْتاً مِنَ السَّمَاءِ فرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا الْمَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ على كُرْسي بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَرُعِبْتُ
ــ
كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
3 -
الحديث: أخرجه الشيخان
ترجمة راوي الحديث: وهو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري أحد المكثرين من الرواية، روى ألفاً وخمسمائة حديث وأربعين حديثاً، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، توفي بالمدينه سنة (78) هـ.
معنى الحديث: أن جابراً رضي الله عنه " قال وهو يحدث عن فترة الوحي " أي عن المدة التي انقطع فيها الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكانت سنتين ونصف، كما في بعض الأحاديث التي ذكرها السهيلي " فقال في حديثه " الذي يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم:" بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء " أي قال النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت أثناء مسيري بأطراف مكة صوتاً غريباً ينبعث من السماء فأثار ذلك الصوت انتباهي " فرفعت بصري "، أي فشخصت ببصري إلى أعلى كي أتعرّف على مصدر ذلك الصوت " فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض " أي فلما نظرت إلى السماء فوجئت برؤية ذلك الملك الذي سبق له أن جاءني بحراء، وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض قال:" فرعبت منه " أي فأصابني بسبب مشاهدة ذلك الملك خوف، وفزع شديد فقدتُ معه السيطرة على قوايَ الجسمية، كما في رواية مسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فَجثثتُ فرقاً حتى هويت
مِنْهُ، فرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) إلى قَولِهِ (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)، - فَحَمِىَ الْوَحْيُ وَتَتابَعَ.
ــ
إلى الأرض" أي غلب علي الخوف وارتعدت فرائصي حتى سقطت على الأرض " فرجعت فقلتُ: زَمِّلوني " أي فشعرت ببرد شديد، وقشعريرة عظيمة ارتعش لها جسمي بسبب الخوف والفزع الذي أصابني عند مشاهدة الملك الجالس على كرسي بين السماء والأرض فأسرعت بالعودة إلى خديجة ألتمسُ عندها الأمن والطمأنينة، وأقول لها: " زملوني " أي لفوني بالثوب، لأجد في ذلك بعضَ الدفء الذي أستعين به على تلك الرعشة البدنية، والتخْفيف من حدتها. فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) أي يا أيها المتلفف بثيابه لمقاومة تلك الرعشة البدنية التي أصابته عند مشاهدة ملك الوحي خوفاً وفزعاً منه، هدأ من روعك، وتهيأ لما يوحى إليك فإنّا قد بعثناك إلى الناس كافة، فبلِّغهم ما يوحى إليك. " إلى قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)" أي فأنزل الله عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فأمره الله تعالى أن يعظّمه وحده، ولا يرى كبيراً سواه، وأن يتوكل عليه في تبليغ رسالته، ولا يخشى أحداً، لأنه الكبير المتعال، القادر على حمايته ونصرته. كما أمره في قوله عز وجل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بتطهير ثوبه وبدنه ومكانه من النجاسات التي كان المشركون لا يتطهرون منها، وبتطهير قلبه عن سائر المعاصي والآثام، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم ختم ذلك بقوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) والرجز بضم الراء على قراءة حفص هي الأصنام، ومعناه: أن الله أمره أن يجرّد نفسه من العبودية لغير الله، والابتعاد عن عبادة الأصنام وغيرها من الآلهة الباطلة، إذ لا معبود بحق إلاّ الله. " فحمي الوحي "
أى فعاد إليه الوحي بعد ذلك، وقوي، وتتابع أي وتكاثر وتوالى نزوله، تقول العرب حميت النار والشمس، أي اشتدت وقويت حرارتها، ومنه قولهم:" سمي الوطيس ".
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: انقطاع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن، وفي مرسل الشعبي أن فترة الوحي كانت مدة عامين ونصفاً، ولا يثبت. وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": ويعارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أياماً.
ليزول عنه الخوف الذي أصابه في غار حراء عند نزول جبريل عليه لأول مرة، ليطمئن قلبه، ويشتاق إلى الرحمن، ويحن إلى عودته إليه.
ثانياً: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل بالمدثر، أي بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ) حيث أمره الله تعالى بتبليغ ما أوحى إليه فأصبح منذ نزول هذه الآية رسولاً إلى الناس كافةً كما نبىء باقرأ، عندما نزل عليه في حراء قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ).
ثالثاً: مشروعية الطهارة من النجاسة في قوله تعالى (وثيابك فطهر)
ولذلك قال الفقهاء: الطهارة من النجاسة شرط في صحه الصلاة، مستدلين
بهذه الآية الكريمة.
رابعاً: استدل أبو حنيفة بقوله تعالى: (وربك فكبر) على أنه يكفي للدخول في الصلاة مطلق الذكر المشعر بالتعظيم، دون التقيد بلفظ معين لكنّ الأحاديث الصحيحة دلت على أن الصيغة المشروعة في تكبيرة الإِحرام هي لفظ (الله أكبر) لأنّه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أي صيغة أخرى غيرها.
والمطابقة: في قوله " وهو يحدث عن فترة الوحي " حيث دل ذلك على
4 -
عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى (لا تُحرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال:
كَانَ رَسُولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ من التنزِيلَ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ
ــ
وجود فترة من الزمن انقطع فيها الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاوده.
4 -
الحديث: أخرجه الشيخان.
ترجمة راوي الحديث: وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة، بلغ الذروة في التفسير والفقه والأحكام، مع صغر سنه، استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " حتى عُرف بحَبْر الأمة، وكان من الستة المكثرين من الرواية، حنكه النبي صلى الله عليه وسلم بريقه، فأصبح لا يجاريه أحد في فتاويه، وُلدَ رضي الله عنه قبل الهجرة بثلاث سنوات، وكان بهيّ الصورة، جميل الطلعة، سمح المحيا، حتى قال عطاء: ما رأيت البدر ليلة الرابع عشر إلاّ ذكرت وجه ابن عباس رضي الله عنهما، وكان عمر رضي الله عنه يعظمه كثيراً ويستشيره، ويستفتيه، كفَّ بصرُه في آخر عمره، وقضى آخر حياته بالطائف حتى توفي بها سنة ثمانٍ وستين من الهجرة، وله من العمر واحد وسبعون عاماً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفاً وستمائة وستين حديثاً، ولما مات صلّى عليه محمد بن الحنفية ابن عمه، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة.
معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه " أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعاني من نزول الوحي القرآني مشقة عظيمة، بما يبذله من جهد كبير في تلاوة الآيات أثناء نزولها، وكان يتعب نفسه كثيراً بسبب تحريك شفتيه بتلاوتها مع جبريل أثناء نزولها، حيث كان يقرأها كلمة كلمة حرصاً على
شَفَتَيْهِ، فقَالَ ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما: فَأنا أحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قَالَ: جَمْعَهُ لَك (1) في صَدْرِكَ، وَتَقْرَأهُ (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وأنْصِتْ، (ثم إنَّ عَلَيْنَا
ــ
حفظها، خشية أن يتفلت منه القرآن، فكان يرهق نفسه في حفظ ما أنزل عليه من القرآن خشية أن يتفلت منه، " فأنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما " أي أن ابن عباس حرّك شفتيه أمامهم، وقال: أنا أحرك شفتيّ أمام أعينكم كتحريك النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يؤكد لهم أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وفي استطاعته أن يمثل لهم ما رآه عملياً، وفي هذا دلالة قوية على أنه يروي هذا الحديث عن مشاهدة وعيان. " فأنزل الله تعالى (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) " أي فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه أثناء الوحي نهاه الله عن تحريك لسانه بتلاوة القرآن متعجلاً حفظه خشية نسيانه، وتكفل له بحفظه في قوله (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) قال جمعه لك في صدرك أي قال ابن عباس: معناه أن علينا جمعه للنبي صلى الله عليه وسلم " في صدره " يعنى إننا نضمن لنبينا صلى الله عليه وسلم أن نثبت القرآن ونرسخه في صدره، فيحفظه ولا ينساه أبداً، كما قال تعالى:(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات إلاّ ما شاء الله (فإذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبعْ قُرْآنَهُ) قال: فاستمع له وأنصت. أي قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه فاستمع للقرآن، وأنصت إليه، ولا تشغل نفسك بتلاوته أثناء نزوله، وتحرك به لسانك، ولكن اسكت أثناء قراءته عليك، ولا تجهد نفسك في حفظه، فإن علينا جمعه في صدرك " (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثم
(1) كذا بضمير المخاطب في أكثر الروايات، كما أفاده القسطلاني إلا أنه في بعض الروايات بفتح الجيم وسكون الميم، وفي بعضها "جَمَعتَ" بفتح الجيم والميم.
بَيَانَهُ) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أنْ تَقْرَأهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أتاهُ جِبْريلُ اسْتَمَعَ، فإذَا انْطَلَقَ جِبْريلُ قَرَأهُ النَّبيُ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأهُ".
ــ
إن علينا أن تقرأه" ومعنى قوله تعالى (ثم إن علينا بيانه) كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ثم إن علينا أن تقرأه ". " إذن" فهو على هذا التفسير ضمان إلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل، يقول الله تعالى فيه: إن كنت تخشى ضياع القرآن منك فإنّا نضمن لك أن نمكنك من حفظه دون جهد أو عناء فتحفظه من غير حاجة إلى قراءته مع جبريل أثناء نزوله "ثم إن علينا" ثم إنا نضمن لك " أن تقرأه " كله عن ظهر قلب قراءة تامة كاملة كما أنزل، فلا تنقص منه كلمة، ولا تنس حرفاً، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)" فكان رسول الله بعد ذلك " أي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الوعد الإلهي له بحفظ القرآن وقراءته كما أنزل "إذا أتاه جبريل استمع" أي إذا جاءه جبريل بالوحي القرآني سكت، وأصغى إليه ثقة بوعد الله تعالى، وامتثالاً لأمره عز وجل " فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه " أي فإذا ذهب جبريل، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مثلما قرأه جبريل تماماً، وذلك لأنّ الله تعالى وعده بذلك، والله لا يخلف الميعاد.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: ما كان يعانيه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الوحي بالقرآن من جهد ومشقة.
بسبب قراءة القرآن أثناء قراءة جبريل وتحريك شفتيه معه حرصاً على حفظه.
ثانياًً: وعد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن، وقراءته كما أنزل، وهو مصداق قوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)
والمطابقة: في قول ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة.
5 -
وعن ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاس، وكانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، وكانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلةٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخيرِ من الريح المرسلة.
ــ
5 -
الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي.
معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كان رسول الله أجود الناس " أي أعظم الناس وأكثرهم جوداً على الإطلاق، لأن جوده صلى الله عليه وسلم كان خلقياً وشرعياً معاً. فأمّا جوده الخلقي فهو السخاء، وسهولة الانفاق الناشىء عن الطبع والوراثة، وأما جوده الشرعي فهو كما يقولون " إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي خالصاً لوجه الله تعالى دون رياء أو سمعة سواء كان هذا العطاء واجباً كالزكاة، أو مندوباً كالصدقة، وقد جمع الله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم بين كرم الطبع الموروث عن أسرته الهاشمية العريقة، وكرم الشرع الذي أدّبه به ربه، فأحسن تأديبه، وقد وصفه أنس رضي الله عنه بقوله: " كان أجود الناس، وكان أشجع الناس، فلو كانت الدنيا له فأنفقها لرأى على نفسه بعد ذلك خوفاً " " وكان أجود ما يكون فى رمضان " أي وكان يتضاعف جوده في هذا الشهر الكريم، فيتصف بأكثر الجود في رمضان " حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن " أي والسبب في زيادة كرمه، ومضاعفة جوده، يرجع إلى أمرين:
الأول: التقاؤه بالروح الأمين جبريل عليه السلام. حيث كان يلتقي به كل ليلة من شهر رمضان فكان صلى الله عليه وسلم يتوسَّع في البذل والعطاء فرحاً بلقائه، وشكراً لله تعالى على ذلك اللقاء، فكأنه كان يستضيف جبريل بكثرة إنفاقه على الفقراء، كما أفاده السنوسي في شرح مسلم: وقال الشهاب الخفاجي:
" كان صلى الله عليه وسلم يُسَرُّ بملاقاة جبريل وإمداده بالبشرى والكرامة فيحسن كما أحسن الله إليه.
الثاني: مدارسة القرآن حيث كان يلقاه جبريل في كل ليلة فيدارسه القرآن، أي يتناوب معه قراءة القرآن، فيقرأ جبريل عشراً، ويقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عشراً آخر، أو يشتركان معاً في القراءة في وقت واحد، على طريقة القراءة الجماعية من المدارسة بمعنى المشاركة في القراءة. أو يكون معنى المدارسة " العرض " ومعناه أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وحده وجبريل يستمع إليه، كما جاء في بعض روايات البخاري حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الطرق الثلاثة. والحاصل أن سبب زيادة جوده أمران: التقاؤه بجبريل، ومدارسته للقرآن:" فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " أي كان نبينا صلى الله عليه وسلم أكرم وأكثر عطاءً وفعلاً للخير، وأعظم نفعاً للخلق من الريح الطيبة التي يرسلها الله بالغيث والرحمة، تسوق السحاب إلى الأرض الميتة، تحييها بالنبات الذي يتغذى به الحيوان، وينتفع به الإنسان.
لأنّها قد تتخلف عن العطاء، أما عطاؤه صلى الله عليه وسلم فلا يتخلف أبداً، ولا يقف عند حد، ولأنّها إنما تعطى الدنيا فقط، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يعطي الدنيا والآخرة، لأنه جاء بنعمة الإِسلام التي تتحقق بها سعادة الناس في الدارين، هذا بالإِضافة إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان مضرب الأمثال في جوده وكرمه، ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يُسْألُ شيئاً إلاّ أعطاه" أخرجه أحمد.
ويستفاد من الحديث ما يأتي:
أولاً: الحث على الجود والإفضال في كل الأوقات -كما أفاده العيني- والزيادة منه في رمضان، وعند الاجتماع بالصالحين اقتداءً به صلى الله عليه وسلم. قال
6 -
عن ابْنِ عَبَّاس رَضِىَ اللهُ عَنْهُما:
أنَّ أُبا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب أخْبَرَه أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ في رَكْبٍ مِنْ قُرَيْش وكانُوا تجَّاراً بالشَّامِ في الْمُدَّةِ التي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مادَّ فِيهَا أبا سُفْيانَ وكُفَّارَ قُرَيْش، فأتَوه وَهُمْ بإيلِيَاء، فَدَعَاهُمْ في مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَه
ــ
السنوسي: ولذلك اعتاد الناس جعل الطعام، ونداء الناس إليه عندما ينزل بهم مَنْ يجب تعظيمه كأكابر العلماء ومن يفرحون به.
ثانياً: زيارة الصلحاء وأهل الفضل، ومجالستهم، لأنّها سبب الخير والصلاح.
ثالثاً: الإكثار من البذل والعطاء والإحسان وقراءة القرآن في شهر رمضان.
مطابقة الحديث للترجمة: في قوله " فيدارسه القرآن .. " لأن القصد من هذه المدارسة تثبيت الوحي القرآني في صدره صلى الله عليه وسلم.
6 -
الحديث: أخرجه الخمسة، ولم يخرجه ابن ماجه
ترجمة ابن عباس وأبي سفيان رضي الله عنهم، أما ابن عباس فقد تقدم.
وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، ولد قبْل الفيل بعشر سنوات، وأسلم ليلة الفتح، وكان شيخ مكة، وقائد قريش في حروبها، شهد الطائف وحنيناً، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من غنائمها مائة من الإبل، فقئت عينه الأولى في غزوة الطائف، والثانية يوم اليرموك، ونزل المدينة، فمات بها سنة إحدى وثلاثين من الهجرة عن عمر يبلغ ثمان وثمانين سنة.
معنى الحديث: يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما "أن أبا سفيان بن
عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثم دَعَاهُمْ، فَدَعَا بِتَرْجُمَانِه، فقالَ: أيّكُمْ أقْرَبُ نسباً بهذا الرَّجُلِ الَّذي يَزْعُمُ أنهُ نَبِي؟ قَالَ أبو سُفيَانَ: فَقُلْتُ: أنَا أقْرَبُهُمْ نَسَباً، قَالَ: ادْنُوهُ مِنِّي، وقرَّبُوا أصْحَابَهُ، فاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ
ــ
حرب أخبره أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام" أي أن أبا سفيان أخبره أنه بينما كان في رحلة تجارة ببلاد الشام مع جماعة من قريش أرسل إليه هرقل ملك الروم يطلب مقابلته، وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل (1) مع دحية الكلبي كتاباً إلى هرقل يدعوه فيه إلى الإِسلام، فلما وصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا: نعم. فدعي في نفر من قريش لمقابلته، وكان سبب اجتماع أبي سفيان بهرقل في بلاد الشام، واهتمامه بمقابلته، أنه لما حاربته الفرس نذر إن نصره الله عليهم أن يسير من حمص إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه، فلما انتصر عليهم وفى بنذره، فمُدت له البسط الفاخرة على طول الطريق، من حمص إلى بيت المقدس، وفرشت الورود والرياحين، وسار هرقل في موكب النّصر، حتى وصل إلى بيت المقدس، فلما وصل إليها، كان أبو سفيان موجوداً في مدينة غزة، وصادف ذلك وصول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، ورؤيته في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فدفعته هذه الأسباب مجتمعة إلى الحرص على الاجتماع بأبي سفيان، ليتعرّف منه على حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى مجلسه " وأرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش ": أي في مدة الهدنة التي تمّت بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش بعد صلح
(1) كما جاء في رواية مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل إلخ.
قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إنّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فإنْ كَذَبَني فَكَذِّبُوهُ،
ــ
الحديبية " فأتوه وهم بإيلياء " أي فاجتمع أبو سفيان وأصحابه بهرقل في مدينة بيت المقدس " فدعاهم وحوله عظماء الروم " أي فدعاهم إلى مقابلته في مجلسه، وحوله علماء الدين، وكبار رجال الدولة، " ثم دعاهم " أي أدناهم منه، وقربهم إليه " ودعا بترجمانه " بفتح التاء وضم الجيم، كما رجحه النووي ويجوز ضم الجيم والتاء كما حكاه الجوهري. أي وأرسل إلى ترجمانه " فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي " أي فلما حضر الترجمان بين يديه قال له هرقل: قل لهؤلاء العرب، أي واحد منكم أقرب نسباً إلى هذا الرجل الذي يدعي النبوة؟ وإنما سأل عن أقرب الناس إليه ليسأله عن صفاته وأخلاقه، لأن القريب أدرى الناس وأعلمهم بأحوال قريبه، ولأنه لا يطعن فيه بما ليس فيه، كما أفاده العيني، ووصفه بالزعم ليشجع المسؤول عنه على أن يتحدث عنه بحرية مطلقة على شرط أن يتحرى الصدق في حديثه عنه، "قال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسباً" وهو الواقع، لأن بني هاشم وبني أمية أبناء عمومة، ينحدرون عن أصل واحد. "قال أدنوه مني" أي فأمر قيصر الروم بتقريب أبي سفيان منه وأدناه من مجلسه تكريماً له وحفاوة به، لأنه شيخ مكة وعظيمها جرياً على عادة الملوك في تقدير النبلاء، ووجهاء الناس، وعظماء الرجال، وإنزالهم منازلهم، " وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره " أي وراء ظهره لئلا يمنعهم الحياء منه عن مواجهته بالتكذيب إذا كذب على محمد صلى الله عليه وسلم " ثم قال لترجمانه إني سائل هذا عن هذا الرجل " أي عن محمد، " فإن كذبني فكذّبوه " بتشديد الذال، وذلك ليتحرى الصدق في كلامه، ولا يشهد إلّا بالحق " فوالله لولا الحياء من أن يَأثِروا علي كذباً " بكسر الثاء أي لولا الحياء من أن يرووا عني الكذب في بلادي فأعاب به عند قومي " لكذبت عنه " أي لكذبت في الحديث عنه ووصفته بخلاف
فَوَاللهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أن يأثِرُوا عَلَيَّ كَذِباً لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أوّلَ مَا سَألنِي عَنْهُ أنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُم؟ قُلْتُ: هُوَ فِينا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ منكُمْ أحدٌ قَطّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فأشْرافُ النَّاسِ اتَبّعَوْه أم ضعفاؤهم؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤهُمْ، قَالَ: أيزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ:
ــ
الواقع.
" ثم كان أول (1) ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ " أي فكان أوّل سؤال وجهه إلىَّ قولَهُ كيف نسبه فيكم؟ وهل هو ذو نسب شريف أم وضيع "قلت: هو فينا ذو نسب" والتنكير للتعظيم، أي هو ذو نسب رفيع، وأصل عريق في قومه لأنّه من بني هاشم ذروة قريش، وأكرمها نسباً وحسباً، وحسباً في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريش، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " أخرجه الترمذي فهو من تلك الأسرة الهاشمية التي عرفت منذ الجاهلية بكريم الخصال، ومن ذلك النسب الطاهر الشريف، الذي صانه الله تعالى من سفاح الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ".
" قال " هرقل: " فهل قال هذا القول أحد قبله قط "؟ أي فهل ادعى أحد من العرب " النبوة " قبل ظهوره " قلت: لا " أي لم يحدث أن ادعى أحد النبوة قبله.
" قال " هرقل: " هل كان أحد من آبائه من ملك "؟ أي هل تولّى
(1) يجوز في "أول" الرفع على أنه اسم كان "وإن قال" في تأويل مصدر خبر كان، ويجوز فيه العكس. اهـ.
بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحدْ مِنْهُمْ سُخْطَةً لِدِينهِ بَعْدَ أن يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، ونَحْنُ منه في مُدَّةٍ لا ندري
ــ
أحد من آبائه الملك " قلت: لا " أي لم يحدث شيء من هذا.
" قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم " أي هل أكثر أتباعه السادة والقادة من أهل الكبر والخيلاء، أم المساكين والأحداث والفقراء. " قلت: بل ضعفاؤهم " أي بل أكثر أتباعه الضعفاء. قال ابن حجر: وهو محمول على الأكثر والأغلب، فإنه غالباً ما يتبعه المستضعفون كبلال وعمار وصهيب وغيرهم الذين لا منافسة ولا حسد عندهم أما أصحاب الحسد كأبي جهل فهم أبعد الناس عنها قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون " ويتكاثر عددهم.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة " بضم السين وسكون الخاء (1) "لدينه" أى هل يعود أحد من أتباعه إلى الكفر بغضاً للاسلام وكراهية له ونفوراً منه " قال: لا " لم يخرج أحد من دينه كراهية له.
"قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال"؟ أي قبل أن يدعي النبوة، ويأتيكم بهذا الدين الذي يخالف دين آبائكم ويقول لكم ما قال من الدعوة إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام. " قلت: لا " وذلك لأنه كان معروفاً عندهم بالصدق والأمانة، ولقد شهد له أعداؤه بالصدق حتى بعد أن قال لهم ما قال حيث قال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟!
(1) وهي كراهية الشيء وعدم الرضا به.
ما هُوَ فَاعِل فِيهَا، ولم يُمْكِنِّي كَلِمَة أدْخِلُ فيهَا شَيْئاً غَيْرَ هذ الكَلِمَةِ، قالَ: فَهَلْ قاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إياهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ سِجَال، يَنَالُ مِنَّا، وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأمرُكُمْ؟
ــ
"قال: فهل يغدر"؟ أي ينقض العهد " قال: لا " وإنما اشتهر في حياته كلها بالوفاء. " ونحن فى مدة " أي في هدنةٍ مؤقتة بعشر سنوات وهي صلح الحديبية " لا ندري ما هو فاعل فيها " من الوفاء أو الغدر " قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة " أي لم أجد كلمة أنتقصه فيها غير هذه، على أنها ليست بشيء، لأن شهادتهم له في الماضى بالوفاء يَجعل احتمال وقوع الغدر منه في المستقبل ضعيفاً، فانّ من شب على شيء شاب عليه. قال أبو سفيان: فوالله ما التفت إليها - أي لم يعر هرقل هذه الجملة اهتماماً.
" قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال " أي نُوَب، نوبة لنا، ونوبة له " ينال منا " أي مرة ينتصر علينا ومرة ننتصرُ عليه.
" قال: فماذا يأمركم؟ " به من العقائد والأعمال " قلت يقول اعبدوا الله وحده " أي يأمرنا بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة " ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم " قال أبو السعود: شيئاً نصب على أنه مفعول به، أي لا تشركوا به شيئاً من الأشياء، صنماً أو غيره، أو على أنه مصدر أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً والمراد أنه ينهاهم عن الشرك بأنواعه، وعن عبادة غير الله مطلقاً، " ويأمرنا بالصلاة " المعروفة، "والصدق"، وفي رواية والصدقة، وفي رواية أبي ذر في الجهاد بالصلاة والصدق والصدقة، كما أفاده الحافظ، والمراد بالصدق القول المطابق للواقع،
قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبَدُوا اللهَ وَحْدَه، ولا تشرِكُوا بِهِ شَيْئاً، واتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤكُمْ، ويأمرنا بالصَّلَاةِ، والصِّدْقِ، والعَفَافِ، والصِّلَةِ، فقَالَ لِلترجُمَانِ: قُلْ لَهُ إنِّى سَألْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فذكرتَ أنَهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فكَذَلِك الرُّسُلُ تُبْعَثُ في نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَألتُكَ: هَلْ قَالَ أحَدٌ منكُمْ هذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، فذكَرْتَ أنْ لَا، فقلتُ: لَوْ كَانَ أحدٌ قَالَ هذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَتَأسّى بِقَوْل قِيْلَ قَبْلَهُ، وَسَألْتُكَ: هلْ قال مِنْ آبائه
ــ
أو للاعتقاد، وهو الأنسب هنا، لأن الإنسان لا يكلف إلاّ بما يعلمه كما في الأصول " والعفاف " أي الكف عن المحارم، وكل ما ينافي المروءة " والصلة " أي الإِحسان إلى الأقارب خاصة وإلى الناس عامة، فيدخل فيه جميع أنواع البر.
" فقال للترجمان إني سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، أي وهكذا الرسل يختارهم الله من أشرف القوم نسباً وحسباً، لأن جودة الأخلاق يرثها الرجل من آبائه، وإن من القضايا المسلم بها أن الفرعٍ يشبه أصله، وأن الأصل ينتج مثله، فالأبناء يحملون خصائص آبائهم وراثياً كما ثبت ذلك علمياً، واشتهر أيضاً عند العرب حتى قال شاعرهم.
أعْرِف فِيْهِ قِلّةَ النُّعَاس
…
وَخِفَّةً في رَأسِهِ مِنْ رأسِ
وذوو الأحساب كما قال القاري أبعد عن انتحال الباطل وأقرب إلى انقياد الناس لهم.
" وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أنْ لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله " أي لظننت أنه اقتدى بغيره من أدعياء النبوة.
مِنْ مَلِكٍ، فذكَرْتَ أنْ لا، فَقُلتُ: لوْ كَانَ منْ آبائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُل يَطْلُبُ مُلْكَ آبائِهِ، وسَألتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أنْ لَا، فَقَد أعْرِفُ أنهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ على النَّاس وَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ، وَسَألتُكَ: أشْرَافُ النَّاس اتَبّعَوهُ أمْ ضُعَفاؤهُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَبّعَوهُ، وَهُمْ أتباعُ الرُّسُلِ، وسَألتُكَ: أيَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أنَهُمْ يَزِيدُونَ، وكَذَلِكَ أمْرُ الإِيمَانِ حتَّى
ــ
" وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه " أي يحاول أن يستعيد ملك أبيه لنفسه، ولكنه ليس من أبناء الملوك حتى يظن به ذلك، وعن جرير رضي الله عنه أنه أتي برجل فأرعد من هيبته، فقال له صلى الله عليه وسلم:" هوِّن عليك، فلست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد " أخرجه الحاكم.
" وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أنْ لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب " أي ليدع الكذب " على الناس ويكذب على الله "، لأن الكذب على الله أشنع وأعظم جرماً قال تعالى:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ).
" وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت: أنّ ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل " قال الأبي: لأن ذوي الرئاسات يأبون تسويد غيرهم عليهم، وتأبى أنفسهم الاتباع، إلا من هداهم الله.
" وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتم " كما قال تعالى: (ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره
يَتِمَّ، وسأَلْتُكَ: أيرْتَدُّ أحدهم سُخْطَةً لدِينه بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فذَكَرْتَ أنْ لا، وَكذلِكَ الإِيمانُ حينَ يُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أنْ لا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وسَألتُكَ: بِمَا يَأمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَهُ يأمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَحْدَه، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، ويْنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوثَانِ، ويأمُرُكُمْ بالصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والعَفَافِ، فإن كَانَ مَا تَقُولُ حَقَّاً فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أعلَمُ أنهُ
ــ
الكافرون) فلابد أن ينمو عدد المؤمنين، وتتضاعف قواهم البشرية على مر الزمان، حتى تتحقق لدين الله العزة والمنعة.
" وسألتك أيرتد أحد منهم سخطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشته القلوب " أي حين تمازج حلاوته قلوب معتنقيه لأن الإِيمان إذا دخل القلب السليم ارتاح له الضمير والوجدان، واطمأنت إليه النفس، فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا تفارقه كراهية له.
" وسألتك هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر " لأنّ الغدر نقيصة يتنزه عنها فضلاء الناس، فضلاً عن الأنبياء.
" وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت: أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين " قال القسطلاني أي أرض بيت المقدس، أو أرض ملكه "وقد كنت أعلم أنه خارج" أي وقد سبق لي أن علمت من الإِنجيل والكتب السابقة عن ظهور رسول بعد عيسى، وذلك مصداق قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم
خَارِج، ولم أكنْ أظُنُّ أنَه منكم فَلَو كُنْتُ أعلم أني أخْلُصُ إليْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَن قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةَ إلى عَظِيم بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ، فَقَرَأهُ فإذَا فيه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِن مُحَمَّدٍ عَبد الله وَرَسُولِهِ إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَام على مَنِ اتَبّع الهُدَى، أما بعدُ: فإني
ــ
يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" وفي الفصل العشرين من السفر الخامس من التوراة ما نصه " أقبل الله من سيناء وتجلى من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه وفاران جبال مكة " ولم أكن أظن أنه منكم " ولعله لم يطلع على ما في التوراة، أو لم يفهمه " فلو كنت أعلم أني أخلص إليه " أي أصل إليه " لتجشمت لقاءه " أي لتكلفت عناء السفر إليه " ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه " أي لغسلتُ وجهي من الماء الذي يسيل من قدمه.
" ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية الكلبي إلى عظيم بصرى " أي إلى أميرها الحارث ابن أبي شمر الغساني، "فدفعه إلى هرقل"، فأرسله عظيم بصرى إلى هرقل، " فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله " قال القسطلاني: وصف نفسه بالعبودية تعريضاً ببطلان قول النصارى في المسيح أنه ابن الله، لأن الأنبياء مقرون في أنهم عباد الله، "إلى هرقل عظيم الروم" أي المعظم عندهم، ولم يصفه بالملك، لأنّه معزول بحكم الإسلام، "سلام على من اتبع الهدى" خاطبه بذلك لأنّ هذه هي صيغة التحية المشروعة في مخاطبة الكفار، حيث إنَّ السلام لا يوجّهُ إلاّ لمن آمن بالله، واتبع شريعة الله، " أما بعد " وهي كلمة ينتقل بها من موضوع إلى آخر، ولهذ سميت فصل الخطاب "فإني أدعوك بدعاية
أدْعُوكَ بِدِعَايَه الإِسْلامِ، اسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللهُ أجرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ
تَوَلَّيْتَ فإنَّما عَلَيْكَ إِثْمُ اليَرِيْسِيِيْنَ، و (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
ــ
الإِسلام" أي بدعوته "أسلم تسلم" في الدنيا بالنجاة من الحرب والجزية، وفي الآخرة بالنجاة من النار " يؤتك الله أجرك مرتين " مرة على إيمانك بنبيك عيسى، ومرة على إسلامك (1)، " فإن توليت فإنما عليك إثم اليريسيين " أي إثم أتباعك من عامة الشعب " ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " أي نستوي فيها جميعاً، لأنها تتفق عليها جميع الأديان السماوية " أن لا نعبد إلا الله " وهكذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة امبراطور الروم وحامي الديانة المسيحية إلى توحيد الله تعالى، وذلك لنفي ألوهية المسيح التي يزعمونها، وإثبات أنه عبد الله، وهي الحقيقة التي قالها المسيح نفسه، كما جاء في القرآن الكريم، وكما جاء في " إنجيل برنابا " عندما سأل الكاهن عن قول الناس فيه فأجابه: بأن فريقاً يقول إنك الله، وآخر يقول إنك ابن الله، ويقول فريق: إنك نبي، فقال يسوع: أيتها اليهودية الشقية إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض اني بريءٌ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأنني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر (2) اهـ. كما في الفصل الثالث والتسعين. ولما قال لهم كما في إنجيل برنابا - ما قولكم أنتم وأجابه بطرس بقوله: "إنك المسيح ابن الله" غضب " يسوع وانتهره قائلاً: " انصرف عني لأنك أنت الشيطان ". وقد صرح المحققون من علماء المسيحية المعاصرين بنفي ألوهية المسيح. وأنه ليس ابن الله. ومن ذلك ما نشرته جريدة الندوة في عددها (5774) الصادر في
(1) أي على إيمانك بمحمد والدخول في دينه
(2)
" نظرات في إنجيل برنايا " للأستاذ محمد علي قطب.
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) قَالَ أبو سفْيَانُ: فلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ،
ــ
(16/ 3/1398 هـ) تحت عنوان رابطة العالم الإسلامي حيث قالت: وقف الدكتور روبرت إلي رئيس قسم المسيحية بجامعة (رومنتوا موند) الأمريكية يخطب في إحدى الجمعيات متحدثاً عن الدين المسيحي وذكر أن المسيح ليس ابن الله كما يدعون، وليست له أية ألوهية كما يعتقدون وقال إن المسيح لم يدّع هذا في يوم من الأيام، وان هذه الاعتقادات دخيلة على الدين المسيحي" وهذا مطابق لما جاء في القرآن الكريم، حكاية عن عيسى عليه السلام أنه قال (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) الخ الآية.
" ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله " قال القاري: فلا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحليل والتحريم " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي فقد لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، وأنكم كافرون بالله " فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب " أي اللغط والخصام " وارتفعت الأصوات وأخرجنا " من مَجْلِسهِ " فقلت لأصحابي لقد أمر أمرٍ ابن أبي كبشة " أي لقد عظم شأن محمد الذي كنا ندعوه استهزاءً وسخرية به عندما كان يحدثنا بهذه الكنية فنقول " هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء " وأبو كبشة أبوه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزى " إنه يخافه ملك بني الأصفر " أي أن هذا الذي كنا نستخف به، فندعوه بهذه الكنية، قد وصل إلى هذا المستوى، وعلا قدره، حتى أصبح يخافه ملك الروم، ويعترف له بالفضل والنبوة " فما زلت موقناً أنه سيظهر " أي ينتصر وينشر دينه في المستقبل القريب " حتى أدخل الله علي الإِسلام " ووفقني إليه.
كثُر عِنْدَه الصَّخَبُ وارْتَفَعَتِ الْأصْوَاتُ، وأخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأصْحَابِي: لَقَدْ أمِرَ أمْرُ ابْنِ أبي كَبْشَة إنَّهُ يَخَافهُ مَلِكُ بني الأصْفَر، فما زِلْتُ مُوقِنَاً أنه سَيَظْهَرُ حتى أدْخَلَ اللهُ عليَّ الإسْلامَ، وكانَ ابْنُ الناطُور صَاحِبُ (1) إيليَاء وَهِرَقْلَ، أسْقِفَ على نَصَارَى الشَّامِ، يُحَدِّثُ أنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إيلياء أصْبَحَ خبيثَ النَّفْس، فقالَ لَهُ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قد اسْتَنْكَرْنَا هَيئتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظرٌ في النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَالوهُ: إِنى رَأيت اللَّيْلَةَ حِيْنَ نَظرتُ فِي النُّجُومِ، أن مَلِكَ (2) الخِتَانِ
ــ
واعلم أنه إلى هنا ينتهي الجزء الأول من الحديث الذي يرويه أبو سفيان ويبدأ الجزء الثاني منه الذي يرويه الزهري فيقول: " وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام " أي، وكان ابن الناطور وهو أمير بيت المقدس وصديق هرقل رئيساً للديانة المسيحية بالشام " يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح خبيث النفس " أي قلقاً مهموماً " فقال له بعض بطارقته " أي قواده:" قد استنكرنا هيئتك "!! أي لاحظنا عليك تغير وجهك، مما يدل على معاناتك لبعض الهموم النفسية " قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء: ينظر إلى النجوم " أي ينظر إليها، فيستدل بها في زعمه على ما يقع في المستقبل أو في الحال، والحَّزاء: الكاهن المنجم، " فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن مَلِكَ الختان قد ظهر " أي عرفت من النجوم أن مَلِكَ الأمّة التي تختتن قد ظهر، "فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا ليس يختتن إلاّ اليهود، فلا يهمنك شأنهم" لأنّهم لا دولة لهم ولا صولة، "واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من
(1) ويجوز في صاحب الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي وهو صاحب إيلياء، والنصب على الاختصاص.
(2)
" مَلِكَ " قال القسطلاني بفتح الميم وكسر اللام، ولغير الكشميهي " مُلْك " بالضم والإسكان.
قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إلَّا اليَهودُ، فلا يَهُمنَّكَ شَأنُهُمْ، واكتُبْ إلى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ على أمرِهِمْ، أتِي هِرَقْلُ بِرَجُل أرسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا اسْتَخْبَرَه هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فانْظرُوا أمخْتَتِن هُوَ أمْ لا؟ فَنَظروا إليْهِ فَحَدَّثُوهُ أنهُ مُخْتَتِن وسألَهُ عَن الْعَربِ، فقالَ: هُمْ يَخْتَتِنُون، فقالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأمَّةِ قدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ برُومِيّةَ، وكانَ نَظيراً لَهُ في الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ، فلم يرم حِمْصَ حَتَّى أتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأيَ هِرَقْلَ، على خُرُوج
ــ
اليهود" (1) أي إن كنت تخشى منهم فاستأصلهم، " فبينما هم على أمرهم " أي فبينما هم في حيرة من أمرهم " أتي هرقل برجل أرسله ملك غسان " وهو عدي بن حاتم "يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يتحدث فيقول: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي اتبعه ناس، وخالفه ناس، " فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ أي فلما أحضره هرقل بين يديه، وسأله عن قصَّة هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي أمرهم بالكشف عليه، حتى ينظروا أهو مختتن أم لا؟ "فنظروا إليه" وكشفوا عليه "فحدثوه أنه مختتن" أي فأخبروه أنهم وجدوه مُخْتتناً، " وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون " فعرف أنَّ ما شاهَدَهُ هم العرب، "فقال هرقل: هذا ملَكُ هذه الأمة قد ظهر" أي هذا الذي رأيته في النّجوم معناه أن ملكَ الأمة التي تختتن وهم العرب قد ظهر على هذه الأرض وأنَّ دولتهم ستغْلب على هذه البلاد كلها، " ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية " وهي روما عاصمة إيطالية اليوم، "وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص"
(1) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر فليقتلوه كما أفاده القسطلاني.
النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأنَّهُ نَبِي، فَأذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَماءِ الرُّومِ في دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أمَرَ بابوابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ: اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ في الْفَلَاح والرُّشْدِ، وأن يَثْبُت مُلْكُكُمْ، فَتُبايِعُوا هَذَا الرَّجُلَ، فحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الأْبوابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رأى هِرَقْلُ نَفْرَتَهمْ، وِإيس من الإِيمان، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إنِّى قُلْتُ مَقَالَتي آنِفَاً أخْتَبِرُ بِها شِدَّتَكُمْ على دِيْنكُمْ، فَقَدْ رأيتُ، فسجدوا له، ورَضُوا عَنْهُ، فكانَ ذلِكَ آخِرَ شَأنِ هِرَقْلَ.
ــ
أي لم يكد يصل إليها " حتى أتاه كتاب من صاحبه " في رومِيَّةَ، وكان أسقف روما " يوافق رأي هرقل على خروج النبي وأنه نبي " أي على ظهور النبي الذي بشر به عيسى وأن محمداً هو النبي المبشر به، " فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص " أيْ فأعلن هرقل لعظماء دولته عن عقد اجتماع في قصر عظيم بحمص، لكي يلقي فيهم خطاباً هاماً، " ثم أمر بأبوابها فغلّقت " أي دخل جناحاً خاصاً أغلق أبوابه عليه "ثم اطلع" أي أطل عليهم من الشرفة " فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح "، أي هل ترغبون في الفوز والظفر، " والرشد " بفتحتين، أو بضم الراء وتسكين الشين، وهو إصابة الحق عقيدة وقولاً وعملاً، " وأن يثبت ملككم " أي يبقى ويدوم لكم، " فتبايعوا هذا الرجل " أي تعاهدوا محمداً على الإسلام، " فحاصوا حيصة حمر الوحش " أي ثاروا ثورة الحمر الوحشيه، " إلى الأبواب " أي: وهجموا على الأبواب يريدون الوصول إليه ليفتكوا به " فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم " أي فلما رأى نفورهم من الإِسلام وثورتهم العنيفة عليه "وايس من الإيمان قال: ردوهم علي" أي قال لجنده: ردوهم عني " وقال إني قلت مقالتي آنفاً " أني قلت كلامي الذي قلته لكم الآن " أختبر شدتكم
على دينكم" أي لأختبر صلابتكم في دينكم، وشدة تمسككم به وقوة دفاعكم عنه " فقد رأيت " وفي رواية فقد رأيت منكم ما أحببت " فسجدوا له " على عادة الأعاجم " فكان ذلك آخر شأن هرقل " أي نهاية قصته وموقفه من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يستفاد من الحديث: ما يأتي:
أولاً: ملاطفة المكتوب إليه، وتقديره التقدير اللائق المناسب، الذي لا يتجاوز حدود الشريعة الإِسلامية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم، ولم يقل إلى ملك الروم لأنه أصبح معزولاً بحكم الإِسلام، ولم يقل: إلى هرقل، ليكون فيه نوع من الملاطفة.
ثانياًً: تصدير الكتاب بالبسملة ولو كان المبعوث إليه كافراً.
ثالثاً: من السنة في الخطابات الإِسلامية أن يبدأ أولاً باسمه ثم باسم المكتوب إليه كما فعل صلى الله عليه وسلم في خطابه إلى هرقل.
رابعاً: في الحديث حجة ظاهرة لن يمنع بدء الكافر بالسلام وهو مذهب الشافعى، وأجازه جماعة مطلقاً، وجماعة للاستئلاف أو الحاجة، ولكن قد جاء النهي عنه في الأحاديث الصحيحة، ولا اجتهاد مع النص.
خامساً: استحباب أما بعد.
سادساً: أن الكتابي إذا أسلم له أجران.
سابعاً: مشروعية دعاء الكفار إلى الإِسلام قبل قتالهم، وهو واجب، والقتال قبل الدعوة حرام إن لم تكن بلغتهم الدعوة، وإلا فهي مستحبة كما قال الشافعي، وقال مالك: يجب الانذار مطلقاً، والأول مذهب الجماعة.
ثامناً: استقباح الكذب عند جميع الأمم والشعوب.
تاسعاً: أن الرسل لا تبعث إلا من ذوي الأنساب العريقة.
عاشراً: أن صدق الرسالة المحمدية كان معلوماً عند أهل الكتاب علماً قطعياً، لقول هرقل:" وقد كنت أعلم أنه خارج ".
الحادي عشر: تكريم قيصر الروم لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنايته بشأنه، حيث اهتم بقراءته، وعرضه على رعيته، وتتبع أخبار مرسله، وسأل عن صفاته وشمائله، بخلاف كسرى الذي مزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فمزق الله دولته.
قال دحية الكلبي:
لقيت قيصر بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بدمشق، فأدخلت عليه خالياً، فتناول الكتاب، فقبّل خاتمه، وفضه، وقرأه، ثم وضعه على وسادة أمامه، ثم دعا بطارقته، ثم خطبهم فقال: هذا خطاب النبي الذي بشر به عيسى، وأخبر أنه من ولد إسماعيل، قال: فنفَروا نفرة عظيمة وحاصوا فأومأ إليهم أني جربتكم لأرى غضبكم لدينكم الخ. وذكر السهيلي (1)" أن هرقل وضع هذا الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، ولم يزالوا يتوارثونه كابراً عن كابر في أعز مكان، وأن ملك الفرنج في دولة الملك المنصور قلاوون الصالحي أخرج لسيف الدين صندوقاً مصفحاً بالذهب، واستخرج منه مقلمة ذهبية، فأخرج منها كتاباً زالت أكثر حروفه فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا به، يعنى بالاحتفاظ به، وقالوا: إنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه " اهـ. ونقل ابن كثير في " البداية والنهاية " عن الشافعي أنه قال: وحفظنا أن قيصر الروم أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثبت الله ملكه " وهو إخبار منه صلى الله عليه وسلم لا دعاء له، لأنه لا يدعو لكافر. فإن صح
(1) شرح السهيلي على سيرة ابن هشام.
هذا الخبر فمعناه " أنه سيبقى من دولة الروم بقية، فإن زال سلطانها من الشرق بفتح القسطنطينية، فإنه ستبقى منها بقية في أوروبة، ولا زالت هذه البقية من الروم موجودة حتى الآن في إيطالية وليست " روما " عاصمة إيطالية اليوم سوى مدينة " رومية " المذكورة في حديث الباب: هي المعنية والمقصودة بقوله: ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وقد ذكر ياقوت هذه المدينة في معجم البلدان (1) باسمها القديم " رومية "، وأطال الحديث عنها، فراجعه إن شئت.
مطابقة الحديث للترجمة: في اشتماله على صفات من يوحى إليه من الأنبياء ودلالته على إثبات الوحي المحمدي، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم ..
…
(1) معجم البلدان لياقوت الحموي (حرف الراء).
بسم الله الرحمن الرحيم
قال البخاري رحمه الله: " كتاب الإِيمان "
أقول وبالله التوفيق: لما فرغ البخاري من باب بدء الوحي. شرع في المقاصد الشرعية، وأهمها الإيمان، لأنه أساس الأعمال، والشرط الأول في صحتها، كما يدل عليه قوله تعالى:(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وغيره من الآيات القرآنية. أما معنى الإيمان:
فالإِيمان لغة: مشتق من الأمن بمعنى الاطمئنان إلى الشيء والوثوق به، ثم أطلق على التصديق، تقول العرب: آمَنَهُ إذا صدَّقَه، لأن مَنْ صدق شخصاً أمِنَه من الكذب والخيانة. أما الإيمان شرعاً: فهو عند أكثر أهل السنة مركب من ثلاثة أركان لا بد منها، فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق وسائر أهل الحديث إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، هذا هو الإيمان عند السلف، كما في " شرح الطحاوية " فهو يتكون من ثلاثة أركان أو ثلاثة عناصر أو أجزاء. الأول التصديق بالجنان: أي القلب، ومعناه: التصديق القلبي الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكذلك التصديق بكل ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وبكل ما عُلِمَ من الدين بالضرورة، كأركان الإسلام الخمسة مثلاً، وهذا التصديق لا بد منه في صحة الإيمان، ولا يتحقق الإيمان إلا بوجوده، كاملاً، فمن أنكر شيئاً من ذلك فهو غير مؤمن أصلاً، بل هو كافر مخلد في النار، لأنّ التصديق لا يقبل التجزئة أو التفرقة بين الأشياء التي يجب الإيمان بها فإذا صدق بالبعض، وكفر بالبعض كان كافراً ولو كان هذا البعض قضية واحدة
من قضايا الإِيمان، وأقر بلسانه وأتى بجميع شعائر الإسلام، ولم يصدقه بقلبه، لا ينفعه ذلك، لأن التصديق القلبي هو الركن الأول من أركان الإيمان، ولا يكفي في الإِيمان مجرد الإِقرار باللسان، لأن المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرّون بألسنتهم، لكنهم لما لم يصدقوا بقلوبهم، نفى الله عنهم اسم الايمان في قوله عز وجل:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). الثاني الإقرار باللسان: أي النطق بالشهادتين مع الاعتراف بأن كل ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم أو جاء به حق وصدق عن الله تعالى، فمن لم يقر بذلك ويعترف به بلسانه لغير عذر شرعي من خرس أو إكراه فهو جاحد كافر عند الله والناس ولو صدَّق بقلبه، فإن التصديق وحده دون إقرار ممن هو قادر عليه لا يكفي خلافاً لما زعمه الجهم بن صفوان، من أنّ من عرف الله بقلبه وجحد بلسانه ومات قبل أن يقر فهو مؤمن كامل الإِيمان كما أفاده الرازي، وهذا قولٌ باطلٌ، لأن فرعون كان مصدقاً بقلبه، فلم ينفعه ذلك حين أنكر التوحيد بلسانه، فسجَّل الله عليه وعلى قومه الكفر والجحود في محكم قرآنه، ووصفهم بقوله:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ). الثالث العمل بالجوارح: وهو أن يؤدي المؤمن كل أركان الإسلام، ويلتزم بفعل الواجبات، وترك المحرمات، فالعمل جزء من الإيمان، وقد أنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكاراً شديداً، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار (1)، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وقال الأوزاعي: كان من مضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان، والدليل من القرآن على أن العمل جزء من الإِيمان قوله تعالى (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
(1)" التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية " للشيخ عبد العزيز بن ناصر الراشد.
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فجعل الأعمال المذكورة التي هي الهجرة والجهاد والنصرة جزءاً من الإيمان الحق، الذي يستحق صاحبه النجاة من النار، والفوز بالجنة ابتداء مع الَأولين الأبرار، أما الدليل من السنة على أن العمل جزءٌ من الإِيمان فهو قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:" هل تدرون ما الإِيمان بالله؟ شهادةَ أن لا إله إلاّ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا الخمس من المغنم " فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرّف الإِيمان بالشهادة والصلاة والزكاة والصوم، فجعل هذه الأعمال المذكورة جزءاً من الإيمان، قال ابن القيم: فيه أن الإِيمان بالله هو مجموع هذه الخصال من القول والعمل كما علم ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل (1) من الكتاب والسنة اهـ. وهو مذهب السلف الصالح، قال ابن تيمية:" ومن أصول أهل السنة أن الدين والإِيمان قول وعمل (2)، قول القلب (3) واللسان (4) وعمل القلب (5) واللسان والجوارح (6). اهـ. فالعمل جزء من الإِيمان ولكن لا ينتفي الإيمان بانتفائه ولا يبطل باقتراف كبيرة، أو ارتكاب معصية، فأهل السنة لا ينفون عن العاصي الإيمان بالكلية، ولا يخرجونه من الدين، ولا يحكمون عليه بالكفر والخلود في النار، وهم كما قال ابن تيمية: " لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإِيمانية ثابتة مع المعاصي، وقال أيضاً:" ولا يسلبون الفاسق الإِيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة " فالعاصي، ومرتكب الكبيرة لا يسلب من الإِيمان
(1) التنبيهات السنية شرح العقيدة الواسطة.
(2)
العقيدة الواسطية لابن تيميّة.
(3)
وهو التصديق القلبي الجازم المساوي لليقين الذي لا يقبل شكاً ولا ريبة بكل ما أخبر به الله تعالى أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من وجود الله وصفاته وأفعاله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
(4)
قول اللسان هو النطق بالشهادتين، مع الاعتراف بكل قواعد الإيمان المذكورة في الفقرة السابقة.
(5)
وهو شامل لكل أعمال القلوب من نية وإخلاص وتوكل وخوف ورجاء وغيرها.
(6)
وهو شامل لجميع العبادات الشرعية من صلاة وحج وصوم ونحوها.
بالكلية، ولا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحق به الجنة ابتداء، وإنما هو مؤمن فاسق. قال ابن تيميّة " هو مؤمن ناقص الإيمان أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الإِيمان "(1) ومعنى ذلك أننا لا ننفي عن العاصي اسم الإِيمان، ونقول إنه كافر خارج عن الملة، ولا نطلق عليه الإيمان دون أن نقيده بالفسق. والدليل على أن العاصي لا ينتفى عنه الإِيمان أَن الله أثبت للقاتل والباغي إخوة الإِيمان، فقال في القاتل:(فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) وقال في البغاة: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) والدليل على أن العاصى لا يدخل في الإِيمان المطلق الكامل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" لأن الله نفى عن هؤلاء العصاة الإِيمان المطلق الكامل الذي يستحقون به النجاة من النار، والفوز بالجنة، ابتداء مع الأوَّلين الأبرار خلافاً للمرجئة والجهمية فإنهم قالوا، لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة وقالوا: إيمان أفسق الناس كإيمان أبي بكر وعمر (2).
فالخوارج والمعتزلة غلوا والمرجئة جفوا، أولئك تعلّقوا بأحاديث الوعيد وهؤلاء تعلّقوا بأحاديث الوعد فقط، وهدى الله أهل السنة والجماعة للقول الوسط الذي تدل عليه أدلة الكتاب والسنة فقالوا: إن الفاسق لا يخرج من الإيمان بمجرد فسقه، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله إن عفا عنه دخل الجنة من أول وهلة، وإن لم يعف عنه عذب بقدر ذنوبه، ثم دخل الجنة، فلا بد له من دخول الجنة، فالعاصي معرّض لعقوبة الله وعذابه، وقابل لعفو الله وغفرانه، حيث قال عز وجل:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فهذه الآية صريحة في أن من مات غير
(1) العقيدة الواسطية.
(2)
التبيهات السنية شرح العقيدة الواسطية.
مشرك فهو تحت مشيئة الله، وفيها الرد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المرجئة القائلين بأن الذنوب لا تضر، وأن الناس في الإِيمان سواء لا تفاضل بينهم. والحاصل أن المرجئة قالوا: العمل ليس من الإِيمان، أما أهل السنة فإنهم قالوا: الأعمال داخلة في الإِيمان، وكذلك قال المعتزلة والخوارج: العمل جزء من الإِيمان، ولكن الفرق بين أهل السنة من جهة وبين المعتزلة والخوارج من جهة أخرى -كما في " شرح العقيدة الواسطية " (1) أن أهل السنة يقولون: إن الأصل في الإِيمان التصديق، والعمل ليس جزءاً أصلياً في الإِيمان وأما الخوارج فإنهم جعلوا العمل جزءاً أصلياً في الإِيمان، مساوياً للتصديق، فإذا انتفى انتفى الإِيمان فيكون كافراً ويخلد في النار. ومن أوضح الأدلة وأصرحها على بطلان قولهم هذا، ما جاء منصوصاً عليه في السنة الصريحة أنّ من أصول الإيمان .. " أن لا يكفر أحدٌ بذنب " ففى الحديث " عن أنس رضي الله عنه:" " ثلاث من أصل الإِيمان: الكف عَمَّن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإِسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله حتى يقاتل آخر أمتى الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإِيمان بالأقدار " أخرجه أبو داود، فهل بقي بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام لمتكلم وهل بعد قوله هذا قول لقائل)) ومن الأدلة الصريحة على أن مرتكب الكبيرة لا يخلَّد في النار.
حديث أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "قال لي جبريل: من مات من أمتك
لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، أو قال: لم يدخل النّار، قال: وإن زنى، وإن سرق؛ قال: وإن " أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي. قال الخطابي: والمعنى أن من مات على التوحيد فإن مصيره إلى الجنة، وإن ناله قبل ذلك من العقوبة ما ناله، وأما قوله " لم يدخل النار " فمعناه لم يدخل دخول تخليد، ويجب التأويل بمثله جمعاً بين الآيات والأحاديث والله أعلم. أمّا الإِسلام فإنّه
(1) المنحة الإلهية شرح العقيدة الواسطية، للأستاذ علي مصطفى الأستاذ بكلية أصول الدين.
لغة الانقياد بالقلب أو باللسان والجوارح، وشرعاً النطق بالشهادتين. مع الإقرار لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والالتزام بأحكام الشريعة، وَأداء أركانها، فمن فعل ذلك حكمنا بإسلامه، وعاملناه معاملة المسلمين في جميع الأحوال، الشخصية من ميراث ونكاح وطلاق، والصلاة عليه بعد موته، ودفنه في مقابر المسلمين، وعصمة نفسه وماله، في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أمرت أنْ أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلاّ بحق الإِسلام، وحسابهم على الله " أخرجه الشيخان ومعنى قوله: " وحسابهم على الله " كما قال القاري: " أننا نحكم عليهم بظاهر حالهم، فنرفع عنهم ما على الكفار ونؤاخذهم بحقوق الإِسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله يتولى حسابهم -يعني على ما في قلوبهم- فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق " اهـ. وإنما يختلف معنى الإِسلام عن معنى الإِيمان إذا اجتمعا في نص واحد، أما إذا افترقا فإن معناهما يكون واحداً ولهذا قال أهل العلم: إذا اجتمعا افترقا، كما في حديث جبريل، حيث دل الإِسلام على الانقياد للأعمال الظاهرة، ودل الإِيمان على الأعمال الباطنة، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا انفرد الإِسلام وحده تضمن معنى الإِيمان. كما في قوله تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وإذا انفرد الإِيمان تضمن معنى الإِسلام، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " الإِيمان بضعٌ وسبعون شعبة ".
***