الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
161 - " كتَابُ التَيّمَّمَ وَقَولُ اللهِ تعَالى (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)
192 -
عَن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ورَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في بَعْض أسُفَارِهِ حَتَّى إِذا كُنَّا بالبَيْدَاءِ، أو بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطعَ عِقْدٌ لِي، فأقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلى الْتِمَاسِهِ، وأقامَ النَّاسُ مَعَهُ، ولَيْسُوا على ماءٍ، فَأتى النَّاسُ إلى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق فَقَالُوا: ألا ترى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ، أقامَتْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاس ولَيْسُوا
ــ
تيمم لفرض صلى بعده نفلاً دون العكس خلافاً لأبي حنيفة (1).
192 -
معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره " وهي غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة، كما ذكره ابن عبد البر وابن سعد وابن حبان، وقيل: إنها غزوة أخرى بعد غزوة المريسيع التي وقعت فيها قصة الإِفك، وأن العقد ضاع في الغزوتين " حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش " موضعان بعد ذي الحليفة " انقطع عقد لي " وكان من جَزْعِ ظفار بفتح الجيم وسكون الزاي وهو خرز يماني يجلب من ظفار على ساحل البحر، " فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه " أي نزل صلى الله عليه وسلم هناك للبحث عنه " وليسوا على ماء " إلخ، أي ولا يوجد في ذلك المكان ماء، ولا يحملون معهم ماءً " فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة " إلخ، أي فجاء الناس إلى أبي بكر يشتكون إليه ما صنعتْ بهم عائشة، حيث كانت السبب في إقامتهم بذلك
(1) فإنه يرى التيمم بدل مطلق عن الوضوء، والغسل، يصلى به ما شاء من فرض أو نفل، وسواء كانت فريضتين أو أكثر، سواء كان نفلاً بعد فرض، أو فرض بعد نفل. اهـ.
عَلىَ مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فجاءَ أبو بَكْرٍ ورَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم واضِعٌ رَأسَهُ عَلَى فخِذِي قَدْ نَامَ، فقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم والنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاء، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أبو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ في خَاصِرَتِي، فلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فأنزلَ اللهُ آيَةَ التيمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَير: مَا هِيَ بأوَّلِ بَركَتِكُم يا آل أبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذي كُنْتُ عَلَيْهِ، فأصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.
ــ
المكان على غير ماء (1)" فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس " أي فقال أبو بكر لعائشة مؤنباً لها: لقد كنت السبب في إقامة الناس هنا، وتأخيرهم عن السفر" وقال ما شاء الله " من ألفاظ التأنيب القاسية " وجعل يطعنني " أي ينخسني بيده " فلا يمنعني من التحرك إلَّا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي " أي فنخسني بيده كثيراً، حتى آلمني ألماً شديداً، وهممت أن أقوم من مكاني، ولم يمنعني من ذلك إلَّا وجود رأس النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي " فأنزل الله تعالى آية التيمم " التي في سورة المائدة لما جاء في رواية الحميدي عن عائشة أنها ذكرت الحديث ثم قالت فيه: فأنزل الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) إلخ، "قال أسيد بن حضير ما هي بأول بركتكم
(1) لأنه لولا انقطاع عقدها لما نزل الناس بذلك الموضع الذي لا ماء فيه.
193 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه:
أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فأيُّمَا رَجُلٍ
ــ
يا آل أبي بكر" أي أن بركاتكم كثيرة، وهذه إحداها " قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته " أي فأقمنا البعير الذي كنت راكبة عليه، فوجدنا العقد الضائع تحته. الحديث: أخرجه الشيخان والنسائي. والمطابقة: في قولها: " نزلت آية التيمم ".
ويستفاد منه: بيان مشروعية التيمم، وسبب مشروعيته، وأنه بدل عن الوضوء والغسل لقوله تعالى في الآية المشار إليها (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) أي جامعتموهن (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فإن قوله:(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) يدل على أنه يقوم مقام الوضوء، وقوله:(أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) يدل على أنه يقوم مقام الغسل.
193 -
معنى الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي " أي خصني الله تعالى من بين النبيين والمرسلين وسائر البشر أجمعين بخصائص كثيرة، ومزايا عديدة - ذكر السيوطي أنها تزيد على المائتين، لكن أبرزها وأهمها وأعظمها وأشملها له ولأمته هذه الخصائص الخمسة: أولها: هذه الخصلة، بل هذه المعجزة العظيمة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم:" نصرت بالرعب " أي نصرني الله تعالى بإلقاء الخوف في نفوس الأعداء " مسيرة شهر " أي إلى مسافة شهر، وهي أقصى مسافة في عصره بينه وبين أعدائه. ثانيها: هذه الرخصة الاستثنائية التي انفرد بها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، دون سائر الأنبياء والأمم الأخرى، وهي التي ذكرها في قوله:" وجعلت لي الأرض مسجداً " أي جعل الله لي ولأمتي هذه الأرض كلها مكاناً صالحاً للعبادة والصلاة فيها بعد أن كان الْمَعْبَدُ في اليهودية والمسيحية شرطاً في صحة
مِنْ أمَّتِي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأحِلَّت لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأعْطِيتُ الشفاعةَ، وكانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إلَى النَّاس عَامَّةً".
ــ
الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم:" وكان من قَبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم "" وطهوراً " أي وجعلت لي الأرض مطهرة من الحدث الأصغر والأكبَرْ، فيتيمم المسلم عند عدم الماء بدلاً عن الوضوء والغسل، " فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " أي فلا شيء يمنعُه من الصلاة، لأنّه سيجد في أرض الله مسجده، وفي صعيدها طهوره، إن فقد الماء فيصلي بالتيمم حيث كان، كما في حديث أبي أمامة " فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماءً وجد الأرض طهوراً ومسجداً ". ثالثها: أنه " أحلت لي الغنائم " وقد كان الأنبياء السابقون على قسمين، منهم من لم يؤذن له في القتال أصلاً، ومنهم من أذن له، فإن غنم شيئاً أخذته نار من السماء فأحرقته. رابعها:" وأعطيت الشفاعة " العظمى لفصل القضاء، وإراحة الناس من شدة ذلك الموقف الرهيب. خامسها: أني " بعثت إلى الناس عامة " بل إلى الثقلين جميعاً.
ويستفاد منه ما يأتي:
أولاً: أن من خصائص هذه الأمة التي أنعم الله عليها بالإِسلام أن جعل لها الأرض مسجداً وطهوراً، أي مطهرة للمسلم من الحدث والجنابة، فيتطهر بالتيمم بها عند عدم الماء، كما يتطهر بالوضوء والغسل عند وجود الماء، وفيه دليل على أن التيمم بدل مطلق عن الوضوء والغسل، حكمه حكمهما في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنوافل ما لم يحدث أو يجد الماء. قال العيني: وهو قول أصحابنا (1) -أي الحنفية- وبه قال إبراهيم وعطاء وابن المسيب
(1) شرح العيني على البخاري ج 4.
والزهري والليث وداود بن علي، والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن حزم:" وروينا عن حماد بن سلمة عن الحسن البصري قال: يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد مثل الوضوء ما لم يحدث. اهـ، وذلك لأنَّ التيمم بدل مطلق يرتفع به الحدث إلى وقت وجود الماء في حق الصلاة المؤداة لقوله صلى الله عليه وسلم: " التيمم وضوء المسلم، ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء أو يُحْدِثْ " أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي ذر، وقال الترمذي حديث حسن صحيح (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: " جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً " والطهور اسم للمطهر، فيدل على أن الحدث يزول بالتيمم زوالاً مؤقتاً إلى غاية وجود الماء، فإذا وجد الماء عاد الحدث (2). وقال الجمهور " المالكية والشافعية والحنابلة ": التيمم بدل ضروري تستباح به الصلاة مع قيام الحدث بصاحبه كطهارة المستحاضة، لحديث أبي ذر الذي جاء فيه: " فإذا وجدتَ الماء فأمِسَّه جلدك فإنَّه خير لك " ولو رفع الحدث لم يحتج إلى الماء إن وجده، فهذا يدل على أن الحدث لم يرتفع، لكن أبيح له أداء الصلاة مع قيام الحدث للضرورة كما في المستحاضة، ومما استدلوا به على أن الحدث والجنابة لا يزالان باقيين بعد التيمم ما رواه البخاري عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنَّه تيمم من الجنابة في شدة البرد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صليت بأصحابك وأنت جنب "، فقال: بل سمعت الله يقول: (ولا تَقتلوا أنفسكم) الآية فضحك النبي صلى الله عليه وسلم: ولم ينكر عليه. ومحل الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: " صليت بأصحابك وأنت جنب " فإنَّه أثبت بقاء جنابته مع التيمم. ولكن هذا الحديث ليس نصاً على بقاء الجنابة بعد التيمم، فقد قال فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي " يمكن أن يجاب عن قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن العاص رضي الله عنه: " صليت وأنت جنب " بأنه قال له ذلك قبل
(1) كما في " نصب الراية " للزيلعي.
(2)
" الفقه الإسلامي وأدلته " ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي.
أن يعلم عذره بخوف الموت إن اغتسل، وبعد أن علم عذره أقره وضحك (1) اهـ. وأما احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم "فإِذا وجدت الماء فأمِسَّه جلدك" فإنّه لا يدل على أن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما يدل على أنه لا يرفعه نهائياً، وإنما يرفعه مؤقتاً لحين وجود الماء، وهذا هو عين ما يقوله الحنفية ومن وافقهم من أهل العلم، وحاصل الخلاف بين الفريقين أنهم اختلفوا هل التيمم بدل مطلق أو بدل ضروري. فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى أنّه بدل مطلق وطهارة مطلقة لها حكم الوضوء والغسل تماماً، ولذلك فإنه يجوز التيمم قبل دخول الوقت، لأن التوقيت لا يكون إلَّا بدليل سمعي ولا دليل فيه فيقاس على الوضوء، والوضوء يصح قبل الوقت (2) ويجوز أيضا أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل، فيتيمم لأكثر من فرض، ولغير الفرض من النوافل، لأنه طهور عند عدم الماء، وإذا تيمم للنفل جاز له أن يؤدي به النفل والفرض معاً. وله أن يصلي بالتيمم الواحد فرضين معاً أو أكثر وما شاء من نافلة لأنَّ التيمم عندهم كالوضوء يصلي به من الحدث إلى الحدث، أو وجود الماء (3) اهـ. وقال الجمهور: لا يعدو التيمم عن كونه بدلاً ضرورياً، ولذلك فإنّه لا يصح التيمم إلَّا بعد دخول وقْتِ ما يتيمم له من الصلوات، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة، فعنده مسجده وطهوره " أخرجه أحمد فجعل صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً عند إدراك الصلاة - أي عند دخول وقتها، وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لكونه رافعاً للحدث، بخلاف التيمم، فإنه لا يجوز قبله، لكونه طهارةٌ ضرورية (4) كطهارة المستحاضة، فلا يجوز قبل الوقت. كما
(1)" أضواء البيان " لفضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
(2)
الفقه الإسلامي وأدلته ج 1 للدكتور وهبة الزحيلي.
(3)
" رحمة الأمة في اختلاف الأئمة " لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي.
(4)
أي فهو لا يرفع الحدث.