الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
للأمة العربية قبل الإسلام خصائص تميزت بها دون غيرها من أمم العالم، من هذه الخصائص ما هو محبب مقبول، ومنها ما هو مستكره مرذول، شأن الأمم جميعًا في مراحل تاريخها ومسيرة حياتها، وإذا كانت هذه الدراسة ليست بذات طابع اجتماعي وإنما هي تعمد أول ما تعمد إلى دراسة العمق الثقافي لهذه الأمة العربية، فإننا لن نطيل في الوقوف أمام صفات الأمة العربية قبل الإسلام إلا بالقدر الذي يخدم هذه الدراسة.
كان من صفات العرب الكرم والشجاعة والحرية وإباء الضيم والفروسية والنجدة وإجارة المستجير وإغاثة الملهوف. وقد تبلورت كل هذه الصفات وتلك المميزات فيما تركه العرب الجاهليون من شعر وخطابة، إذ لم يكن العرب يملكون من الملامح الثقافية البارزة غير هذين الفرعين من فن القول، فتركوا فيهما ثروة هائلة رائعة لم تكد تترك أمة أخرى تركة مماثلة لها كمًّا وكيفًا في مثل تلك الفترة القصيرة بين إنشاء القصيد ومجيء الرسالة السماوية الإسلامية.
ومن ثم فقد كان غرام العرب بالشعر يدفعهم إلى الاعتزاز بالشعراء، وكان الشاعر يحتل من قبيلته مكان الصدارة؛ لأنه المحامي عن كرامتها، الذائد عن حرماتها، المسجل لمفاخرها، الناطق بلسانها، حتى إن القبيلة كانت تقيم الاحتفالات عندما يبزغ بين أبنائها من تتفتق ملكته عن قول الشعر الجيد، ولذلك فقد أثر عنهم أنهم كانوا يحتفلون بمولد الشاعر أي ظهوره.
وقد قيل الشيء نفسه فيما يتعلق بالخطيب، ذلك أن القبيلة كانت تحتفل أيضًا بميلاد الخطيب احتفالها بمولد الشاعر، فهو الآخر لسانها في المفاخرات، وممثلها في المنافرات التي كانت تستمر أيامًا وأسابيع. وكانت المنافرات بصفة خاصة تحتل مقام الاهتمام لا بين قبيلتي الخطيبين المتنافرين وحسب، بل بين هذه القبيلة وحلفائها وتلك القبيلة ونصرائها، ومن أجل ذلك فقد تضاربت الآراء حول من هو أحق بالتفضيل والتقديم في نطاق القبيلة، أهو الشاعر أم الخطيب؟ والحق أن القبائل لم تكن -بحكم العادات العربية- في غناء عن
الاثنين. وكان كلاهما -أي الخطيب والشاعر- في مقام التقديم أو التأخير تبعًا للظرف الذي تعيشه القبيلة، فإن كانت طبيعة الظروف التي تجتازها أحوج إلى الشاعر منها إلى الخطيب كان الشاعر مقدمًا، وإن كانت الظروف التي بها محتاجة الخطيب أكثر من احتياجها الشاعر قدمت الخطيب.
وإذن فقد كان النتاج الثقافي للأمة العربية قبل الإسلام محصورًا في الشعر والخطابة ولا شيء غير ذلك من فنون القول، والأمة العربية كانت أمة غير كاتبة، الأمر الذي بسببه لم يسجل نتاجها من الشعر والخطب بالكتابة، وإنما اعتمد في ذلك على الرواية، فكان لكل شاعر رواية يحفظ كل شعره ويرويه عنه. وأحسب أن الأمر كان أيضًا فيما يتعلق بالخطيب، وإذن فقد كان التسجيل محكومًا بالذاكرة التي كان يتمتع بها الراوي والتي قد تتعرض للشيخوخة فيضيع الكثير من الكنوز التي وعت وفنون القول التي حفظت. وليس من شك في أنه كلما قدم العهد بالشاعر وزمانه كان المأثور من شعره أقل كثيرًا من القدر الذي أنشأه، وكذلك كان الأمر فيما يتعلق بالخطباء، فكان ما وصلنا من تراثهم هو الجزء وليس الكل، وما روي عنهم هو الأقل وليس الأكثر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد قامت فئة تشكك في التراث العربي بحكم أنه مروي وليس مسجلًا مسطورًا وذهب الأمر بالبعض منهم أن تقولوا كثيرًا حول التراث الأدبي الجاهلي، فمن قائل إن أكثره منحول، ومن قائل إنه منتحل كله وكتبوا في ذلك البحوث العديدة ودبجوا المقالات الطوال، وبالتالي قامت جماعة أخرى من الغيورين على تراثهم الثمين، تدحض ادعاءات الفئات الأولى أو افتراضاتها بالمنطق حينًا وبالبرهان حينًا آخر.
السبب في ذلك كله أن العرب لم تكن أمة كاتبة، وأمة غير كاتبة لا تستطيع أن تكون ذات حضارة فكرية أصيلة؛ لأن هذه الحضارة بحاجة إلى التسجيل والتسطير، فلما جاء الإسلام وشجع على التعلم ومعرفة القراءة والكتابة أصبحت هذه الأمة ومن اندرج تحت لواء العقيدة الجديدة من المسلمين تشكل أرقى مبادئ فكرية وأسمى حضارة أزلية. وقبل مرور قرنين من الزمان كانت من السعة في الحدود بحيث شملت ما يقارب نصف مساحة الكرة الأرضية المعروفة في ذلك الزمان، ومن الرحابة في العقول بحيث أغنت الفكر البشري بالعديد من المؤلفات والكتب في أكثر ميادين العطاء العقلي من ديني ودنيوي.