الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي
الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ
…
الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي
الفصل الأول: الجاحظ 150 - 255هـ:
إن اسمه عمرو بن بحر بن محبوب وكنيته أبو عثمان؛ وإنما قيل له الجاحظ لأن عينيه كان بهما جحوظ أي نتوء، وكان يقال له أيضًا الحدقي، وكان الجاحظ درة ثمينة في جبين المعرفة العربية والإنسانية، عالمًا في كل فن، آخذًا من كل علم بطرف بل أطراف، ثقف نفسه ثقافة واسعة هيأت له أسباب المجد في حياته، ومكنته من تأليف نفائس الكتب التي كتبت له ولها الخلود بعد مماته.
لقد انتفع الجاحظ بكل لحظة من لحظات عمره الطويل بالقراءة والاطلاع فما كان يُرى إلا ومعه كتاب، وما وقع في يده كتاب إلا استوفاه قراءة، بل إن الطريف الممتع في حياة الجاحظ أنه كان يستأجر دكاكين الوراقين -أي محلات بيع الكتب حسب تعبير زماننا- ويبيت فيها للنظر فيما حوته من العلم.
لقد ثقف الجاحظ نفسه في علوم الدين ومعارف الدنيا وتتلمذ على أعلام العلماء مثل الأخفش في اللغة وإبراهيم النظام في علم الكلام، كما نهل الفصاحة من مناهلها السليمة من شفاه أهل المربد بالبصرة، والجاحظ علم البصرة الذي لا تخطئه العين.
إن الجاحظ جعل لنفسه مدرسة في الأسلوب شبيهة بمدرسة ابن المقفع بل أرفع منها شأنًا وأعلى منها مقامًا، بل إن مدرسته أنقى من مدرسة عبد الحميد وأيسر، إنه ينصح من ينشد السداد في الكتابة، بأن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة1.
1 معجم الأدباء "16/ 87".
ويقول الجاحظ في صفة الأسلوب الأمثل: "متى شاكل -أبقاك الله- اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماحة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينًا بحسن الموقع، وحقيقًا بانتفاع المستمع، وجديرًا أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه، متخيرًا من جنسه وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض، ومن أعاره من معرفته نصيبًا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبًا، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كبر التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم"1.
هذه هي طريقة الجاحظ في الكتابة يصفها للمتأدبين ويمارسها بنفسه حين يكتب، لا يفتعل ولا يتوعر ولا يسجع إلا لمامًا ولكنه يعمد إلى المزاوجة وهي ضرب من الكتابة أقرب إلى السجع وإن تخلصت من القافية.
أما وقد استقام للجاحظ أسلوب الكتابة فإنه لم يلبث أن عمد إلى التأليف من خلال هذا النمط السهل الرفيع من أنماط الكتابة.
وكان الجاحظ من رجال المعتزلة ينهج نهجهم في تفكيرهم الديني ويسير في ركبهم، بل على رأسهم، فقد أصبح له مدرسة تفكير تعرف بالمدرسة الجاحظية وكان هو عميدها بطبيعة الحال. وقد تورط فيما تورط فيه بعض المعتزلة على أيام المأمون والمعتصم في فتنة خلق القرآن، ولم يستنكر ما تعرض له بعض أئمة المسلمين من تعذيب من خلال تلك الفتنة، كالذي حدث للإمام أحمد بن حنبل، بل هو واحد من الذين أرخوا لهذه المحنة تاريخًا كان من الأفضل لو لم يورط نفسه فيه.
وعلى كل حال فقد كان الجاحظ عالمًا جليلًا حتى إن المتوكل لما علم بفضله استدعاه لتأديب بعض ولده، ولكنه عندما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه. وكان الجاحظ على فيض علمه ووافر أدبه لا يزال متطلعًا إلى المزيد، وكان يقول:"إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
والجاحظ مع علمه وفضله واعتزاله، ظريف صاحب نكتة وحليف بسمة خفيف الظل سريع البديهة لماح العارضة، وله نوادر كثيرة باسمة ومضحكة حكى طرفًا منها ياقوت في
1 معجم الأدباء "14/ 96".
ترجمته له، كما ظهرت سمائها في كتابه المشهور "البخلاء".
وأما مكانة الجاحظ عند العلماء الأعلام فهي من السمو ورفعة القدر بحيث إنه ليس من اليسير حصر آراء كبار العلماء فيه، ولكن لا بأس من ضرب مثل أو أكثر للتعريف بمكانته. فقد أثر عن جماعة من الصائبين الكتاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة إلا على ثلاثة أنفس، فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه
…
إن النساء بمثله عقم
فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة! قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وشهامته، وقيامه في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل وافر، ولسان عضب وقلب شديد....
والثاني الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علمًا وتقوى وزهدًا وورعًا وعفةً ورقةً وتألهًا وتنزهًا وفقهًا ومعرفةً وفصاحة ونصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول
…
والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، رشاه آنفًا، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم وبين الذكاء والفهم.
ويطيل ثابت بن قرة في وصف الجاحظ إطالة أملتها الضرورة التي تدفع به إلى استيفاء قدر الرجل ولكننا اكتفينا منها بهذا القدر1.
ومن سمو قدر الجاحظ ما يستفاد من هذه القصة التي تتلخص في أن بعض الناس قالوا لأبي هفان الراوية: لم لا تهجو الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك، فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
والمثال الآخر على سمو قدر الجاحظ عند صفوة الخاصة ما حكاه أبو القاسم
1 معجم الأدباء "16/ 95".
السيرافي عن رجل غض من قدر الجاحظ عند ابن العميد، وكان ابن العميد وزيرًا جليلًا كاتبًا شاعرًا فارسًا عالمًا جليل القدر في نواحٍ عديدة من نواحي المعرفة.
يقول أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد الوزير فجرى ذكر الجاحظ، فغض منه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت له: سكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك على الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه صار بذلك إنسانًا يا أبا القاسم، فكتب الجاحظ تعلم العقل أولًا والأدب ثانيًا، ولم أستصلحه لذلك1.
إذن فالجاحظ رائد كبير من رواد التأليف في الفكر العربي، والعقل الإسلامي عاش للعلم جامعًا وهاضمًا، ومانحًا، وللكتاب قارئًا وخادمًا ومؤلفًا، ملأ سماء زمانه فكرًا وحركة وعلمًا على صفحات الكتب وبين دفات المجلدات.
فما هي كتب الجاحظ تلك التي تعلم العقل والأدب حسب تعبير الوزير الجليل أبي الفضل ابن العميد وكم عددها وما موضوعاتها، وما أهمها قيمة وأجلها قدرًا؟
مؤلفات الجاحظ ومنهجه:
أما عدد كتب الجاحظ فيما يروي سبط الجوزي في كتاب مرآة الزمان فهي ثلاثمائة وستون كتاب، وهو بذلك يكون أوفر المؤلفين المسلمين عدد كتب، وهي في الوقت نفسه من أرفعها قدرًا وأسماها علمًا. وكتب الجاحظ ليست كلها مجرد تصنيف ولكنها في أكثرها ابتكار وخلق وإبداع بحيث نستطع أن نقرر أنه أول من مارس التأليف الحق في علوم الدنيا بين أساتذة العربية وعلماء الإسلام. وقد شهد له محبوه من أمثال ابن العميد، وثابت بن قرة كما أقر بفضله شانئوه من أمثال أبي هفان والمسعودي صاحب "مروج الذهب" الذي يقول عن مؤلفاته:"وكتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى نادرة طريفة. وله كتب حسان، منها البيان والتبيين، وهو أشرفها؛ لأنه جمع فيه بين المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى به، وكتاب الحيوان، وكتاب الطفيليين والبخلاء"2.
1 وفيات الأعيان "3/ 142".
2 مروج الذهب "4/ 47".
والواقع أن المسعودي في كلمته هذه القصيرة لا يعرف بكتب الجاحظ وحسب، وإنما هو يشرح منهجه في التأليف ومذهبه في التفكير، وكان المسعودي من الحصافة بحيث وقف وقفة ظاهرة أمام أنفس كتب الجاحظ، وهو البيان والتبيين، كما أنه لم ينس أن يذكر الكتابين اللذين يجيئان بعده شهرة وذيوعًا وهما: كتاب الحيوان وكتاب البخلاء.
والموضوعات التي طرقها الجاحظ في كتبه متشعبة متشابكة متعددة متميزة، وبمعنى آخر كان الجاحظ يحسن طرق أي موضوع يريد طرقه، كان يعد نفسه له ويحيط بأطرافه ثم يبدأ الكلام فيه، فلا يكاد ينتهي منه إلا وقد قدم طرفة جديدة من طرائف العقل العربي. لقد سئل أبو العيناء: أي شيء كان الجاحظ يحسن؟ فقال: ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن.
لقد مر بنا أن عدد الكتب التي ألفها الجاحظ بلغت ثلاثمائة وستين كتابًا، وهي في اعتقادنا ليست جميعًا مما يصلح أن يطلق عليه اسم كتاب، فبعض هذه الكتب أقرب إلى أن يكون رسالة منه إلى أن يكون كتابًا، ولكن في الوقت نفسه عنده من الكتب ما يصل حجمه الكمي والكيفي إلى سبعة مجلدات بحروف المطبعة الحديثة مثل: كتاب الحيوان، أو إلى أربعة مجلدات مثل: البيان والتبيين.
نعود مرة ثانية إلى موضوعات التأليف عند الجاحظ، ولكي تكون الفكرة واضحة عن تعددها فإننا نذكر منها على سبيل المثال كتاب البيان والتبيين، كتاب الحيوان، كتاب البخلاء، كتاب المعرفة، كتاب النبي والمتنبي، كتاب مسائل القرآن، كتاب فضيلة المعتزلة، كتاب الإمامة على مذهب الشيعة، كتاب إمامة معاوية، كتاب الرد على النصارى، كتاب القواد، كتاب اللصوص، كتاب المعلمين، كتاب الجواري، كتاب العرجان والبرصان، كتاب النساء، كتاب المقينين والغناء والصنعة، كتاب أمهات الأولاد، كتاب المغنين، كتاب ذوي العاهات، كتاب في الأسد والذئب، كتاب الكيمياء، كتاب أحدوثة العالم، كتاب نقض الطب، كتاب التفاح، كتاب الزرع والنخل، كتاب النرد والشطرنج، كتاب غش الصناعات، كتاب من يسمى من الشعراء عمرًا، كتاب فضل الفرس، كتاب التسوية بين العرب والعجم، كتاب تنبيه الملوك، كتاب الأصنام، كتاب البلدان، كتاب الربيع والخريف إلخ إلخ.
هذه بعض موضوعات كتب الجاحظ، وإن الذي يدرس ما قد وصل إلينا منها -وهي لسوء الحظ قليلة بالنسبة إلى العدد الهائل الذي ألفه يستطيع أن يرى من خلال تناوله لموضوعاته المختلفة المتشعبة شخصية العالم المتمكن والمؤلف المتماسك الحصيف الذي يفيض العلم من خاطره فيضًا وتنساب المعرفة من قلمه انسيابًا.
غير أننا وقد ذكرنا تلك الكتب نحسُّ أننا لا نستطيع أن نجرد الجاحظ من مسحة شعوبية حين كتب كتابًا بعنوان فضل الفرس، ثم انعطف وكتب كتابًا آخر بعنوان: التسوية بين العرب والعجم.
قد يقول قائل إن ما كتبه الجاحظ حق، فالإسلام سوى بين العرب والعجم وغيرهم من الشعوب. والجواب أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن هناك ما يدعو إلى تأليف كتاب بهذا العنوان، هذا فضلًا عن الكتاب الآخر الذي خصصه لفضل الفرس.
على أننا ونحن نعرض لمؤلفات الجاحظ لا بد لنا أن نقف وقفة قصيرة عند كتابيه "البيان والتبيين" و "الحيوان" محاولين استكناه قدرهما ومنهجهما الأدبي.
وعلى عادة المؤلفين القدماء الذين كانوا يعيشون من أقلامهم وكتبهم أهدى الجاحظ كتابه "البيان والتبيين" إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد وزير المأمون، وأهدى كتابه "الحيوان" إلى الوزير الأديب محمد بن عبد الملك الزيات، كما أهدى كتابه "النخل والزرع" إلى الكاتب العبقري إبراهيم بن العباس الصولي، ومعنى ذلك أن كتاب "الحيوان" أسبق تأليفًا من "البيان والتبيين"؛ لأن محمد بن عبد الملك الزيات الذي أهدى الجاحظ إليه كتاب الحيوان توفي سنة 223هـ وأما أحمد بن أبي دؤاد الذي أهدى إليه كتاب البيان والتبيين، فقد ولى أمر الدولة بعد مقتل ابن الزيات وبقي في الحكم سبع سنوات أثار فيها فتنة خلق القرآن وتوفي سنة 240 هـ، وأما الصولي الذي أهدى إليه كتاب الزرع والنخل فقد توفي سنة 243هـ.
يبقى بعد ذلك معنى أكبر من طبيعة الإهداء نفسه، فذلك أمر غير ذي بال اللهم إلا في تحديد أي من هذه الكتب الكبرى قد كتب قبل أخيه، أما المعنى الذي نقصد إليه فهو أن الجاحظ قد ألف هذه الكتب التي ازدانت بها المكتبة العربية، وهو فوق الثمانين من العمر، فليس غريبًا إذن أن يكون هذان الكتابان اللذان بين أيدينا محققين مطبوعين أكثر من مرة يمثلان فكر الجاحظ وخلاصة علمه وجوهر تجربته.
البيان والتبيين:
إنه في نظرنا أفضل آثار الجاحظ جميعًا وهو واحد من أشهر كتب الأدب العربي الذي يعلم الذوق ويصقل الفكر وينبه الخاطر ويوسع المدارك وما من أدب في العربية منذ تاريخ تأليف هذا الكتاب إلى يومنا إلا وقد أفاد منه واستعان به في شئون الثقافة الإسلامية والأدب العربي، ولم يخل كتاب كبير من كتاب عباقرة العربية من أثر منه مبتدئين بابن قتيبة الذي هو نظير للجاحظ علمًا وفضًلا مارين بعلماء المشارقة والمغاربة والأندلسيين مثل المبرد وعبد
القاهر الجرجاني من المشارقة والحصري القيراوني من المغاربة، وابن رشيق وأحمد بن عبد ربه من الأندلسيين. بل إن نسخ البيان والتبيين وصلت إلى الأندلس في حياة الجاحظ فأعلت ذكره وجعلت الكثيرين من شباب الأندلس المرتحلين إلى المشرق طلبًا للعلم ينحدرون إلى البصرة لكي يروا الجاحظ ويتلقوا عنه.
وكل موضوعات كتاب البيان والتبيين جيدة يستوي في ذلك ما نهج فيه منهج الجد، وما جنح فيه إلى جانب الفكاهة والهزل.
فأما موضوعات الجد في الكتاب فتتلخص في الأغراض الآتية:
1-
الخطابة: وقد أورد الجاحظ أخبار الخطباء في الجاهلية والإسلام، كما بين صفات الخطيب الناجح، وذكر مكانة الخطيب بين قومه حين قدموه في كثير من الأحيان على الشاعر، كما ذكر الخطباء الشعراء وأخبارهم وزودونا بعد ذلك بعدد وافر من الخطب المشهورة لمشاهير الخطباء كالحجاج، وزياد وأكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وقس بن ساعدة وزيد بن علي، كما قدم نماذج لأغراض الخطابة المتعددة. وهو حين يتحدث الخطيب يمدح الصوت الجهير ويذم الصوت الضئيل، كما ذكر في مقام رحابة الشدق وسعة الفم ويعد الصوت وذكر في مقام الذم صغر الفم.
ويذكر أيضًا النساء الخطيبات الفصيحات مثل أم المؤمنين عائشة وصفية بن عبد المطلب وغيرهما، وللخطابة والخطباء ونماذج الخطب أمكنة رحيبة في البيان والتبيين.
2-
البلاغة والبيان: ولعل هذا الغرض الذي جاء على صفحات عديدة من الكتاب، مجمعًا تارة ومفرقًا تارة أخرى، من أهم أغراض الكتاب. فلقد تحدث الجاحظ عن اللحن واللحانين ومخارج الحروف، كما تحدث عن اللثغة وضرب لذلك مثلًا بواصل بن عطاء الذي كان خطيبًا مفوهًا ولكنه كان يتفادى الألفاظ التي فيها حرف الراء حتى لا يؤذي آذان السامعين بقبح نطقها، كما تحدث عن البلاغة في الإيجاز وعن البلاغة في الإطناب وضرب لذلك أمثلة كثيرة، هذا فضلًا عن نماذج كثيرة جدًّا لضروب من الأقوال البليغة.
3-
الشعر: لقد وشى الجاحظ كتابه هذا بمنتخبات من الأشعار اختارتها قريحة أديب لماح، وكان يقف عند كثير من المقطوعات التي يجيء بها وقفة الصيرفي الناقد البارع يبين وجوه محاسنها إن كانت حسنة، ووجوه قبحها إن كانت معيبة. ولم يكن يترك شاعرًا منذ الجاهلية إلى عصره إلا وقد اختار شيئًا من شعره في مناسبة بعينها وقدم بعضًا من أبياته في مجال الاستشهاد، والحق أن ما قد حواه البيان والتبيين من ثروة شعرية يعد شيئًا نادر المثال مثل تلك المجموعات التي اختارها أبو تمام أو البحتري وغيرهما، وأطلقوا عليها اسم كتب "الحماسة".
4-
الرسائل والوصايا والمحاورات: وكل هذه موقورة كثيرة في حنايا الكتاب، بعضها رسائل رسمية متعلقة بشئون الدولة وهي ما اصطلح على تسميتها بالرسائل الديوانية، وبعضها الآخر رسائل اجتماعية جرت بين أصدقاء وهي التي يطلق عليها الرسائل الإخوانية، ولما كان الجاحظ سيدًا من سادة الأسلوب في الكتابة العربية، فإنه يحسن ما يختار من رسائل في مقام الغرض الذي اختاره من أجله. هذا وقد أكثر الجاحظ من ذكر الوصايا وخاصة وصايا الخلفاء. ويهتم الجاحظ بالمحاورات، والطريف منها بشكل خاص، وما كان يبعث على الافتخار كتلك المحاورات التي كانت تجري بين عبد الملك ورجاله، أو بين الحجاج والعامة حينًا، وبينه وبين أعدائه والخارجين عليه أحيانًا أخرى والتي تنتهي عادة إما بالإفراج والعفو أو بالقتل وسفك الدم، وهي محاورات خليقة بأن تقرأ؛ لأنها تربي النفس وتنهض بالأخلاق وتعلم قوة الحجة ونصاعة البرهان.
5-
النساك والقصاص: وكان هؤلاء على أيام الجاحظ وقبله بقليل من الخطر والأهمية بمكان، وكانوا صفوة بين علماء ومعلمين. وقد تكاثروا في البصرة بلد الجاحظ بشكل خاص، ومن منا يستطيع أن يغفل شأن الحسن البصري ناسكًا، ومن ذا الذي يجرؤ على إنكار خطره عالمًا وخطيبًا! لقد أتى الجاحظ في أكثر من فصل من فصول كتابه بأسماء العشرات من أمثال مالك بن دينار وأبي حازم الأعرج ويزيد الرقاشي، ولم يغفل النساء الزاهدات مثل رابعة العدوية القيسية ومعاذة العدوية، وأم الدرداء.
وأما الجانب الساخر من فصول البيان والتبيين فهو الحكمة التي تصدر عمن لا يتوقع المرء أن تصدر منه، والجاحظ يجيد الكتابة الفكهة فهو فكه بطبعه مرح في غير تكلف، ومن ثم فقد خص الحمقى والنوكى بدراسة وافية، وكثيرًا ما كانت الحكمة تجري على ألسنتهم وهو لسوء الحظ يعد المعلمين في أكثر الأحيان من الحمقى، بل إنه يحمل عليهم في سخرية، وينسب إلى بعض الحكماء قوله: لا تستشيروا معلمًا ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء. كما أنه يذكر من أمثال العامة قولهم: أحمق من معلم كتاب، غير أنه لا يلبث في موضع آخر أن يستبعد الحماقة عن عظماء المعلمين الذين علموا أولاد الملوك المرشحين للخلافة مثل علي بن حمزة الكسائي أو محمد بن المستنير الذي يقال له قطرب.
ومن القصص الطريفة التي جاء بها الجاحظ عن النوكى بعد أن عدد أسماءهم ما ذكره عن ديسيموس اليوناني وجعيفران الموسوس الشاعر. يقول الجاحظ:
فأما ديسيموس فكان من موسوسي اليونانيين، قال له قائل: ما بال ديسيموس يعلم الناس الشعر ولا يستطيع قوله؟ قال: مثله مثل المسن الذي يشحذ ولا يقطع؟
ورآه رجل وهو يأكل في السوق فقال: ما بال ديسيموس يأكل في السوق؟ فقال: إذا
جاع في السوق أكل في السوق.
وألح عليه رجل بالشتيمة وهو ساكت؟ فقال: أرأيت إن نبحك كلب أتنبحه، وإن رمحك حمار أترمحه؟
وكان إذا خرج في الفجر يريد الفرات ألقى في دوارة بابه حجرًا، حتى لا يعاني دفع بابه إذا رجع. وكان كلما رجع إلى بابه وجد الحجر مرفوعًا والباب منصفقًا، فعلم أن أحدًا يأخذ الحجر من مكانه، فكمن لصاحبه يومًا، فلما رآه قد أخذ الحجر، قال: مالك تأخذ ما ليس لك؟ قال: لم أعلم أنه لك. قال: فقد علمت أنه ليس لك.
وأما جعيفران الموسوس الشاعر، فشهدت رجلًا أعطاه درهمًا، وقال له: قل شعرًا على الجيم فأنشأ، يقول:
عادني الهم فاعلتج
…
كل هم إلى فرج
سل عنك الهموم بالكاس
…
وبالراح تنفرج
وكان يتشيع، فقال له قائل: أتشتم فاطمة وتأخذ درهمًا؟ قال: لا بل أشتم عائشة وآخذ نصف درهم.
وهو الذي يقول:
ما جعفر لأبيه
…
ولا له بشبيه
أضحى لقوم كثير
…
فكهلم يدعيه
فذا يقول بنيي
…
وذا يخاصم فيه
والأم تضحك منهم
…
لعلمها بأبيه
ومن أخبارهم أيضًا ما ذكره الجاحظ عن بعض من اعتلى المنبر منهم ونوادر أخرى نجتزئ منها:
خطب قبيصة بن المهلب، وهو خليفة أبيه على خراسان وأتاه كتابه، فقال: هذا كتاب الأمير، وهو والله أهل؛ لأن أطيعه، وهو أبي وهو أكبر مني.
وكان -فما زعموا- ابن لسعيد الجوهري، يقول: صلى الله تبارك وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن أخبارهم أيضًا: صعد عدي بن أرطاة على المنبر، فلما رأى جموع الناس حصر، فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم.
ومن طرائفهم أيضًا ما قد ذكر عن روح بن حاتم حين صعد المنبر فلما رأى الناس رافعين رؤوسهم متجهين بأبصارهم إليه وأسماعهم نحوه، قال: نكسوا رؤوسكم، وغضوا
أبصاركم، فإن المنبر مركب صعب، وإذا يسر الله فتح قفل تيسر.
خطب مصعب بن حيان، أخو مقاتل بن حيان خطبة نكاح، فحصر فقال: لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله، فقالت أم الجارية: عجل الله موتك، ألهذا دعوناك؟
وخطب أمير المؤمنين الموالي خطبة نكاح، فحصر، فقال: اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونشرك بك.
وقال مولى خالد بن صفوان: زوجني أمتك فلانة. فقال: قد زوجتكم، قال: أفأدخل الحي حتى يحضروا الخطبة؟ قال: أدخلهم. فابتدأ خالد فقال: أما بعد فإن الله أجل وأعز من أن يذكر في نكاح هذين الكلبين، وقد زوجت هذه الفاعلة من هذا ابن الفاعلة.
وقال إبراهيم النخعي لمنصور بن المعتز: سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الكيسى.
ودخل كثير عزة -وكان محمقًا، ويكنى أبا صخر- على يزيد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين: ما يعني الشماخ بن ضرار بقوله:
إذا الأرطي توصد أبرديه
…
خدود جوازئ بالرمل عين1
قال يزيد: وما يضر أمير المؤمنين ألا يعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف؟ فاستحمقه وأخرجه.
وكان عامر بن كريز2 يحمق قال عوانة3: قال عامر لأمه: مسست اليوم برد العاص بن وائل السهمي. قالت ثكلتك أمك، رجل بين عبد المطلب بن هاشم وبين عبد شمس بن عبد مناف، يفرح أن تصيب يده برد رجل من بني سهم؟
ولما حصر عبد الله بن عامر على منبر البصرة، فشق ذلك عليه، قال له زياد: أيها الأمير إنك أقمت عامة من ترى أصابه أكثر ما أصابك.
وقيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر وتكلم. فلما صعد حصر، وقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء وبقي ساكتًا، فأنزلوه.
وصعد آخر فلما استوى قائمًا وقابل بوجهه وجوه الناس وقعت عينه على صلعة رجل4 فقال: اللهم العن هذه الصلعة
وقيل لوازع اليشكري: قم فاصعد المنبر وتكلم. فلما رأى جمع الناس، قال: لولا أن
1 ديوان الشماخ "94". الأبردان: الغداة والعشي. والجوازئ: بقر الوحش.
2 هو والد عبد الله بن عامر بن كريز.
3 عوانة بن الحكم الكلبي الأخباري.
4 الصلعة بالتحريك، والضم: موضع الصلع.
امرأتي حملتي على إتيان الجمعة اليوم ما جمعت1، وأنا أشهدكم أنها مني طالق ثلاثًا!
ولذلك قال الشاعر:
وما ضرني أن لا أقوم بخطبة
…
وما رغبتي في ذا الذي قال وازع
قال وازع: ودخلت على أنس بن أبي شيخ2، وإذا رأسه على مرفقه، والحجام يأخذ من شعره، فقلت له: ما يحملك على هذا؟ قال: الكسل. قلت: فإن لقمان قال لابنه: إياك والكسل، وإياك والضجر، فإنك إذا كسلت لم تؤد حقًّا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق. قال ذاك والله أنه لم يعرف لذة الفسرلة، يعني الرزالة والنذالة3.
فالجاحظ حينما يسخر يمعن في السخرية، ولكن في لطف، وهو قادر على الإمتاع والإضحاك والتسرية عن النفس حينما يعمد إلى ذلك، وقد يفعل ذلك عن عمد في أكثر كتبه، وخاصة في البيان والتبيين لعمق الكتاب ودقة أفكاره وسمو مستواه.
هذا ولما كان الجاحظ صاحب أسلوب ورائد كتابة فلم يفته أن يخص السجع بدراسة في كتابه، والسجع كما نعلم لازم الأسلوب العربي قولًا وإنشاء لعديد من القرون، ولذلك فقد أورد الجاحظ العديد من الأقوال المسجوعة لأعراب وحضر، ومن الرسائل والخطب التي لا تكاد تخلو واحدة منها من التزام السجع.
أما أسلوب الجاحظ نفسه في كتابه فهو أسلوبه في كل كتاب وفي كل رسالة، إشراق في غير ما تصنع، ومزاوجة يبدو الحرص على الإتيان بها واضحًا، وقبول للسجعة إذا جاءت عفو الخاطر دون ما سعى إليها أو محاولة لتوليدها.
كتاب الحيوان:
هذا الكتاب قد أهداه مؤلفه إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل على ما مر بنا ومعنى ذلك أنه كتبه قبل البيان والتبيين، وقد نال شيئًا من المكافأة عن كل من الكتابين.
هذا وإذا كان الكتاب يحمل عنوان "الحيوان" فليس معنى ذلك أن الكتاب مختص بالحيوان وحسب، ولكنه كتاب أدب عناصره أصناف الحيوان، وما حيك حولها من قصص وعلوم، وما ألف فيها من عادات وأمراض، وما قيل فيها من حكم وأشعار.
1 جمع الرجل، بتشديد الميم: صلى الجمعة. وفي الحديث: "أول جمعة جمعت بالمدينة".
2 كان أنس بن أبي شيخ من البلغاء الفضلاء، وكان كاتبًا للبرامكة، وقتله الرشيد على الزندقة سنة سبع وثمانين ومائة، وهي سنة نكبة البرامكة.
3 البيان والتبيين "2/ 249" وما بعدها.
لقد ألف الجاحظ هذا الكتاب -والبيان والتبيين بطبيعة الحال- وهو على جانب المرض وشدة وقع الفالج والنقرس عليه، وقد صادف الجاحظ من أمراضه متاعب ومصاعب تغلب عليها بالصبر، فهو يشكو مرضه، ويقول:"أنا من جانبي الأيسر مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت به، ومن جانبي الأيمن منقرس فلو مر به الذباب لألمت".
ويحكي الجاحظ متاعبه مع تأليف كتاب "الحيوان" وهو ما لم يذكر شيئًا منها بصدد كتابه "البيان والتبيين" فيقول: "وقد صادف هذا الكتاب مني حالات تمنع من بلوغ الإرداة فيه، أول ذلك العلة الشديدة، والثانية قلة الأعوان، والثالثة طول الكتاب، والرابعة أني لو تكلفت كتابًا في طوله وعد ألفاظه ومعانيه، ثم كان من كتب العرض والجوهر، والصفرة والتوليد والمداخلة والغرائز والنحاس لكان أسهل وأقصر أيامًا وأسرع فراغًا؛ لأني كنت لا أفزع فيه إلى تلقط الأشعار وتتبع الأمثال، واستخراج الآي من القرآن والحجج من الرواية، مع تفرق هذه الأمور في الكتب1.
والجاحظ في عباراته السابقة يوضح للقارئ أن كتابه اعتمد على القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي والأمثال الشائعة كمصدر من مصادره.
والواقع أن كتاب الحيوان هو أكبر كتب الجاحظ من حيث الحجم، فقد صدرت أفضل طبعاته وهي التي حققها الأستاذ عبد السلام هارون في سبعة مجلدات، ومعنى ذلك أن الكتاب يشكل ضعفين أو أكثر من حيث الحجم إذا ما قورن بالبيان والتبيين: ولكن ما زال للبيان والتبيين ميزة الفضل والشهرة والذيوع.
ولا يأخذ العجب قارئ كتاب الحيوان لوفرة ما فيه من علم وتجربة وأدب؛ ذلك لأن الجاحظ نفسه كان وفير العلم في مختلف نواحيه، ولما كان للحيوان من خيل وإبل وكلاب أهميتها عند العرب، فقد درسوها وفصلوا أجزاءها قولًا مرسلًا وشعرًا منظومًا. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الوحش في المنطقة العربية من ظباء وبقر وأسد وذئاب وثعالب وضباب وحيات، كل هذه الحيوانات قد أكثر العرب فيها القول وهو ما سطره الجاحظ في كتابه. هذا ويذكر الجاحظ في أمكنة مختلفة من كتابه أنه كان يأخذ علمه من أصحاب الخبرة حتى ولو كانوا من العامة، فكثيرًا ما جالس الحواة وحادثهم وناقشهم في شئون الحيات والثعابين.
وهذا إذا أراد أن يتحدث عن الطيور ذهب إلى صائد العصافير وساءله وناقشه، وهكذا نرى ثمار التجربة وحصاد الخبرة واضحًا في الكتاب.
وكتاب الحيوان مليء بأسباب الجدل الذي عرف به المعتزلة، ولكن الجدل في كتاب
1 الحيوان "4/ 69".
الحيوان جدل مريح غير مجهد ولا مكد لذهن القارئ، فهنا يقول صاحب الكلب، وهناك يقول صاحب الديك، وفي مكان ثالث صاحب الحمام، ومن الطريف فعلًا أن تجرى مساجلات كلامية بين أصحاب الكلب وعلى رأسهم النظام وأصحاب الديك وعلى رأسهم معبد.
هذا والكتاب يحوي فصولًا عديدة من المعرفة في غير موضع الحيوان، مثل وسائل البيان وكتابة المعاهدات، وضروب الخطوط، وأقوال الشعراء فيها، وفي الكتاب فصول عن البلدان، وعن الأجناس البشرية وأثرها في خلق الإنسان، وعن مسائل في الفقه والدين.
ولم يهمل الجاحظ الجانب الفكه في كتابه لكي يخفف عن نفس القارئ بين الفينة والفينة بملحة يقولها أو طرفة يطلقها.
فإذا دلف الجاحظ إلى صلب موضوعه، قال: ثم النامي على قسمين: حيوان ونبات. والحيوان على أربعة أقسام: شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يسبح، وشيء ينساح، إلا أن كل طائر يمشي، وليس الذي يمشي يسمى طائرًا. والنوع الذي يمشي على أربعة أقسام: ناس وبهائم وسباع وحشرات
…
وهكذا يكتب الجاحظ موضوعه ورائده المنطق ودليله المعرفة.
وإذ ذكر حيوانًا ما جاء الجاحظ بأكثر ما يمكن أن يجيء به حول هذا الحيوان من معلومات طريفة، ثم ذكر العديد من قصائد الشعر العربي التي قيلت فيه، أو بصدد تشبيه به أو غير ذلك. فإذا ذكر الخنزير مثلًا ذكر تفضيل الأكاسرة والقياصرة للحمها ثم انعطف أبياتًا لحماد عجرد في هجاء بشار بن برد منها هذا البيت:
ولريح الخنزير أطيب من ريـ
…
ـحك يا ابن الطيان ذي التبان
وإذا ما ذكر الكلب جاء بالأمثال التي تقال في الكلاب قدحًا أو مدحًا، مثل قول كعب الأحبار لرجل أراد سفرًا: إن لكل رفقة كلبًا، فلا تكن كلب أصحابك. أو قول العرب: أحب أهلي إلي كلبهم الظاعن، إلى غير ذلك من الأمثال.
وأحيانًا يحمل الجاحظ على الكلب فيتهمه بالرشوة وبأنه الحيوان الوحيد الذي يقبل الرشوة وبإمكان اللص أن يرشوه برغيف، ثم يسرق البيت الذي يحرسه. ويصفه بالحماقة؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي ينام في وسط الطريق ليلًا، فتدوسه حوافر السابلة فتؤلمه فيظل يئن ويعوي. ويصفه بعدم الأصالة، فهو يأكل اللحم وليس بوحشي، ويعيش في المنازل كما تعيش المستأنسات، ويجري الجاحظ على لسان صاحب الديك قوله: يقال للسفيه إنما هو
* الطيان الذي يضرب الطوب، والتبان سراويل يلبسها الملاحون والمصارعون.
كلب، وإنما أنت كلب نباح، وما زال ينبح علينا منذ اليوم، وكلب من هذا، ويا كلب ابن كلب، وأخسأ كلبها.
وقال في المثل: احتاج إلى الصوف من جز كلبه. وأجع كلبك يتبعك. وأحب شيء إلى الكلب خانقه، وسمن كلبك يأكلك، وأجوع من كلبة حومل، وكالكلب يربض في الأري* فلا هو يأكل ولا يدع الدابة تعتلف.
وما يقال حول الكلب من أمثال وأشعار وحكم وأمثال، وأحكام شرعية وأخبار وأنواع يمكن أن يتكرر في كتاب الحيوان عن أصناف أخرى من الحيوان.
ومجمل القول أن كتاب الحيوان زاد من الثقافة، ومعين من المعرفة، وينبوع من اللغة ونهر من الأدب، وفيض من الظرف، وهو ممتع في القراءة، سخي في العطاء الذهني والتنشيط الفكري.
* أري الدابة: مربطها ومعلفها.