الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني
الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد
"
مدخل
…
الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني
إن كثيرًا من كتب الأدب والأخبار لقيت من الشهرة والذيوع ما هي جديرة به لنفاسة محتواها، وسمو مكانتها العلمية والأدبية مثل البيان والتبيين للجاحظ، ومثل كتاب الحيوان للمؤلف نفسه، ومثل كتابي عيون الأخبار وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، وكتاب الفصيح والمجالس لثعلب، والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، والأمالي لأبي علي القالي وغيرها من تلك الروائع التي كتبها رواد الأدب العربي وأساتذة الفكر الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ولكن واحد من هذه الكتب على نفاسة أكثرها لم ينل من الشهرة والذيوع والتعليق والذكر على أفواه المتأدبين والدارسين والإقبال عليه والاحتفال به كما نال كل من "العقد الفريد" لأحمد بن عبد ربه، و "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني.
إن كلا من الكتابين يشكل بمفرده موسوعة ضخمة من الثقافة العربية ودائرة معارف تكاد تكون مستكملة الحلقات من الأخبار والنصوص الأدبية. ومن الغريب أن مؤلف العقد أندلسي المولد والإقامة والوفاة، ومؤلف الأغاني عراقي المولد والإقامة والوفاة، فكان الأول السفير الأندلسي للثقافة العربية في الأندلس والمغرب والمشرق جميعًا. فكما عاش كتابه في الأندلس رفيع القدر ثابت الجذور، جيء به إلى المشرق فاختلف أول الأمر في شأنه ثم ما لبث أن نال حظه من الاحتفال به والتقدير لشأنه. وكان الثاني السفر المشرقي للثقافة والأدب العربي في المشرق جميعًا وفي الأندلس كذلك حينما بعث مؤلفه بالنسخة الخطية الأولى منه هدية إلى المستنصر الملك المثقف الأندلسي.
ومجمل القول إن كتابي العقد الفريد، والأغاني قد طغيا بلمعانهما -إن حقًّا وإن باطلًا- على أقرانهما من الكتب النفيسة الأخرى التي إن لم تعدلهما فإنها لا تقصر عنهما كثيرًا.
ونحن من أجل ذلك أفردنا لهذين الكتابين الكبيرين بابًا منفردًا، استقل كل منهما بفصل من فصليه، ندرس شخصية مؤلف كل منهما ووزنه العلمي وقدره الأدبي ومنهج كتابه ومحتواه، وما حفلت به دفتاه من علم ثمين وكنز دفين، أو ما ضمناه من غث الأخبار ورخيص الاختيار.
الفصل الأول: احمد بن عبد ربه و"العقد الفريد"
إن أحمد بن محمد بن عبد ربه عاش نيفًا وثمانين عامًا في الأندلس بمدينة قرطبة مولدًا ووفاة بين عامي 246، 328هـ، أي أنه عاش النصف الأخير من القرن الثالث وأكثر قليلًا من الربع الأول من القرن الرابع، فقد عاش إذن في الفترة التي كانت الأندلس تبني فيها شخصيتها العربية الإسلامية، وذلك بالإقبال على العلم والدرس والتحصيل اعتمادًا على العلوم والمؤلفات الوافدة بكثرة ووفرة من المشرق العربي والإسلامي.
ولقد عاش أحمد بن عبد ربه ناسكًا في محراب العلم، عاكفًا على أسباب الثقافة متحليًا بالخلق والدين والورع، بحيث أجمع كل من أرخ له أنه كان أهل علم وأدب ورياسة وشهرة مع ديانة وصيانة، وكان موضعًا لاحترام الملوك الأندلسيين الكبار ابتداء من أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأوسط، حتى عبد الرحمن الناصر. وقد كان ملوك الأندلس جميعًا وبغير استثناء يحترمون العلماء ويضعونهم موضعهم من الإجلال والتقدير والاحترام؛ ذلك لأنهم كانوا ملوكًا مثقفين على علم وأدب، ولم يكونوا سوقة أو مغامرين. وفي الوقت نفسه كان العلماء متحلين بأخلاق العلم لابسين ثوب الحشمة والوقار، غير متهافتين على المناصب ولا مترخصين في سلوكهم، ولا متهاونين في كراماتهم، الأمر الذي جعل الملوك يحترمونهم ويخشون نقدهم ويتحاشون جانب الاعتداء عليهم. بل إنهم كانوا يستمعون منهم إلى النقد العنيف إذا ما ندت ندوة من ملك أو سقطة من سلطان، فلا يملك هذا الملك أو ذاك على جليل ملكه ورفعة شأنه إلا الطاعة للعالم والامتثال لنصائحه.
إن أحمد بن عبد ربه عاش في هذا المحيط، ونال التكريم من ثلاثة ملوك كبار عاصرهم
وعايشهم ومدح مواطن المدح فيهم، وهم: المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي قال عنه المؤرخون إنه لم يكن أحد من الخلفاء قبله في شجاعته وصرامته وحزمه وعزمه، وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الشجاع الأديب الباطش الشديد التواضع، وعبد الرحمن الناصر أشهر ملوك الدنيا وأسعدهم حظًّا وأطولهم فترة حكم1.
لقد مدح ابن عبد ربه هؤلاء الملوك الثلاثة، بل لقد ضمن كتابه "العقد الفريد" شعرًا طويلًا في التأريخ لانتصارات الناصر لدين الله، ومن ثم فقد كان الرجل على ولاء شديد وإعجاب أشد بهؤلاء الملوك الذين تحلوا بالأدب -فليس بينهم إلا شاعر- واتصفوا بالشجاعة، وتجملوا باحترام العلم وإجلال العلماء.
وابن عبد ربه يبدو شخصية واضحة المعالم من ناحية علمه، وأدبه، وخلقه، وسلوكه في آثاره الأدبية والعلمية التي تركها بين يدي الدارسين والمؤرخين والمتأدبين، وهذه الآثار تتمثل في شعره، وفي كتابه "العقد الفريد".
فأما ابن عبد ربه الشاعر فإن مكانته بين شعراء الأندلس تأتي في الصدارة، رغم أن الدارسين المحدثين لم يعنوا بذلك، وربما كان السبب في ذلك هو ضياع شعر الأديب الكبير الذي كان مجموعه فيما يذكر الحميدي نيفًا وعشرين جزءًا هي جملة ما جمعه الأدباء من شعره للحكم المستنصر الذي فتن بالكتب فأنشأ مكتبة كبيرة فريدة في ترتيبها وتنسيقها بين مكتبات ذلك الزمان، إن لم يكن هذا الزمان، مع إسقاط الوسائل الحديثة في سرعة الطباعة من الحساب. أما مكتبة المستنصر فكانت محتوياتها مزينة بجيد التجليد وأنيق التذهيب، وفنون الخط، وترتيب الفهارس وتنظيم الإعارة وتشجيع القراءة.
على أن المهم في شعر ابن عبد ربه ليس الكم والعدد ولكنه الكيف والفن والتجديد، فقد تواترت الأخبار الأدبية وبخاصة عند ابن بسام صاحب "الذخيرة" أن أحمد بن عبد ربه هو أول من أنشأ "الموشحات" وإن لم يأت لنا بأنموذج واحد من موشحاته، ولنا رأي مخالف لذلك بصدد نشأة الموشحات وأنها مشرقية محضة2.
إن أحمد بن عبد ربه يعتبر على كل حال -في نطاق الخير الذي أورده عنه ابن بسام واحد من رواد الإبداع والتجديد في الشعر الأندلسي، بل إن ابن سعيد، وهو من هو في تأريخ أدب الأندلس يقول عنه إنه إمام أهل المائة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله.
وإن ما قد وصل إلينا من شعر ابن عبد ربه يترجم عن نفس شاعرة رقيقة شفافة متملكة
1 راجع أعمال الأعلام للسان الدين بن الخطيب ص23-29.
2 راجع باب الموشحات في كتابنا "الأدب الأندلسي: موضوعاته وفنونه".
نواصي الشعر مكتملة وشائجة وأسبابه، قديرة واعية متقنة صناع، إنها كذلك في مختلف ميادين الشعر وأغراضه حتى ما كان منها متناقض الأهداف كالمديح والهجاء، أو كالغزل والزهد.
إنه يمدح المنذر بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط -وقد مر ذكر صلته به- فيقول هذا الشعر التقي ابتكارًا وإيقاعًا من جملة قصيدة طويلة1:
بالمنذر بن محمد
…
شرفت بلاد الأندلسْ
فالطير فيها ساكن
…
والوحش فيها قد أنسْ
وقد ظلت هذه القصيدة تسير في أعطاف السنين حتى قرعت أسماع أبي تميم، المعز لدين الله الفاطمي العبيدي ملك إفريقية، ثم مصر فشق عليه انتشارها بين الناس حفظًا وترديدًا، فما كان من شاعره أبي الحسن علي بن محمد الإيادي التونسي إلا أن أنشأ قصيدة يعارض بها سينية ابن عبد ربه إرضاء للمعز مطلعها:
ربع لزينب قد درس
…
واعتاض من نطق خرس
ولكن الفارق بين القصيدتين جودة ورقة ومعنى كالفرق بين الثرى والثريا.
وعندما يكتب ابن عبد ربه شعرًا في لوعة الحب وانصراف الغواني عن العاشق مع انصراف شبابه فإنه يأتي بالطريف من المعاني في ثوب من جيد الشعر ورقة الإيقاع. وهذا قوله في الموضوع نفسه.
إن الغواني إن رأينك طاويًا
…
برد الشباب طوين عنك وصالًا
وإذا دعوتك عمهن فإنه
…
نسب يزيدك عندهن خبالا
ومن روائع أبياته التي يقول ياقوت إنها من شعره السائر2 هذان البيتان الساحران اللذان تأثر بهما ابن زيدون دون شك حين كان يبكي حبه ولادة بنت المستكفي مغتربًا في البلاد سائحًا في الربوع ضاربًا في مشارق الأندلس ومغاربها. يقول ابن عبد ربه في بيتيه القائلين:
الجسم في بلد والروح في بلد
…
يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
1 وفيات الأعيان "1/ 111، 112".
2 مطمح الأنفس "ص52" ومعجم الأدباء "4/ 216".
إن تبك عيناك لي يا من كلفت به
…
من رحمة فهما سهمان في كبدي
هذا وللمتنبي في شعر ابن عبد ربه رأي جميل وإعجاب بادٍ، وكان يطلق على أحمد بن عبد ربه "مليح الأندلس" وهو بهذا اللقب جدير.
إن الفتح بن خاقان مؤرخ شعراء الأندلس وصاحب "المطمح" و "القلائد" يذكر أن الخطيب أبا الوليد بن عباد مر على مصر في طريق عودته بعد أداء فريضة الحج وتطلع إلى لقاء المتنبي -وكان إذ ذاك في مصر- فصار إليه حيث كان جالسًا في مسجد عمرو بن العاص. وبعد أن جرى بينهما بعض الحديث قال له المتنبي: أنشدني لمليح الأندلس -يعني ابن عبد ربه- فأنشده:
يا لؤلؤًا يسبي العقول أنيقا
…
ورشا بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
…
وردًا يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه
…
أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطع خصره من رقة
…
ما بال قلبك لا يكون رقيقا
فلما أكمل أبو الوليد إنشاده استعاده المتنبي ثم قال: يا ابن عبد ربه، لقد تأتيك العراق حبوًا1.
وقارئ شعر ابن عبد ربه لا يجد كبير غرابة في إعجاب المتنبي به، ذلك أن المتنبي وكثيرًا من معانيه عيال على معاني ابن عبد ربه وبخاصة في الحربيات.
ولابن عبد ربه شعر رائق في الزهد قاله حين تقدمت به العمر، وهو لم يفعل ذلك ندمًا على ذنوب تورط في اقترافها في غمرة شبابه، فقد كان الرجل طوال عمره صاحب عفة وتصون، وإنما قال في الزهد نسكًا وطبيعة. فمن قوله في الزهد في الدنيا الأبيات الحكيمة2:
1 مطمح الأنفس "ص52".
2 معجم الأدباء "4/ 218".
ألا إنما الدنيا غضارة أيكةٍ
…
إذا اخضر منها جانب جف جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع
…
عليها ولا اللذات إلا مصائب
وكم أسخنت بالأمس عينًا قريرة
…
وقرت عيون دمعها الآن ساكب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة
…
على ذاهب منها فإنك ذاهب
ولقد عمر ابن عبد ربه حتى الثانية والثمانين. وهو حين يصل إلى هذه السن الكبيرة يهتم ويشكو هموم الكبر وشكوى الشيخوخة، فيقول هذين البيتين الذين هما آخر ما قال من شعر:
بليت وأبلتني الليالي بكرِّها
…
وصرفان للأيام معتوران
وما لي لا أبكي لسبعين حجة
…
وعشر أتت من بعدها سنتان
والزهد في شعر أبي عمر، أحمد بن عبد ربه على صدقه، وعمقه ليس مجرد أبيات أو مقطعات قالها معبرًا عن هموم شيخوخته واسترخاص دنياه، وإنما كان للرجل مذهب فريد في هذا الضرب من الشعر. فقد أنشأ عديدًا من القصائد أطلق عليها الممحصات، وذلك أنه محص شعر شبابه بأن نقض كل قطعة قالها هناك في صباه في الصبابة والغزل بقطعة أخرى من بحرها وقافيتها في المواعظ، وهو مذهب لم يسبق إليه على قدر علمنا في مثل تلك الصورة.
وإذا كان لنا أن نتمثل لهذا النوع من شعر ابن عبد ربه، فهذه مقطوعة قالها في بعض من أحب وكان أزمع على الرحيل في غداة بعينها فأتت السماء في تلك الغداة بمطر غزير حالت دون رحيل ذلك الذي أحب فكتب أبو عمر ابن عبد ربه يقول1:
هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟
…
هيهات! يأبى عليك الله والقدر
1 معجم الأدباء "4/ 216".
ما زلت أبكي حذار البين ملتهفًا
…
حتى رثى لي فيك الريح والمطر
يا بردة من حيا مزنٍ على كبر
…
نيرانها بغليل الشوق تستعرُ
آليت ألا أرى شمسًا ولا قمرًا
…
حتى أراك فأنت الشمس والقمرُ
ويكتب شاعرنا أبو عمر ممحصة لقصيدته هذه ملؤها المواعظ وفيضها الزهد فيقول1:
يا قادرًا ليس يعفو حين يقتدر
…
ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلة
…
عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت
…
للظالمين فما تبقى وما تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة
…
لكان فيك عن اللذات مزدجر
أنت المقول له ما قلت مبتدئا
…
هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟
ولعلنا لاحظنا أن المصراع الثاني من البيت الأخير في الممحصة، هو نفسه المصراع الأول من البيت الأول في قصيدة الغزل التي محصها بهذه المواعظ الشعرية الزهدية النفيسة.
هذا هو أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر الكبير الرقيق المبدع ذو العبارة الأنيقة واللفظة المنتقاة والمعنى المختار والقوافي الموقعة، والقصائد الكثيرة الوفيرة الرائقة الشائقة في مختلف موضوعات الشعر وأغراضه.
لقد وصف ابن عبد ربه الحرب قبل وصف المتنبي لها، فقال من جملة قصيدة هذه الأبيات في تصوير الموقعة2:
ومعترك ضنك تساقت كماته
…
كؤوس المنايا من كلى ومفاصل
1 المصدر "4/ 223، 224".
2 يتيمة الدهر "2/ 76".
يديرونها راحًا من الراح بينهم
…
ببيضٍ رقاقٍ أو بسمرٍ ذوابل
وتسمعهم أم المنية وسطها
…
غناء صهيل البيض تحت المناصل
إن الرجل قد جعل من وصف الحرب على فظاعتها معزوفة موسيقية ولكنها موسيقى دامية، وهي مقدرة لم تتوفر لغيره.
إنه يستعمل الصيغ النحوية في شعره ولكن لا يفسد بها شعره، كما فعل المتنبي بعد ذلك تقليدًا له فلم يحسن التقليد، يقول ابن عبد ربه1:
يا من يجرد من بصيرته
…
تحت الحوادث صارم العزم
رعت العدو فما مثلت له
…
إلا تفزع منك في الحلم
أضحى لك التدبير مطردًا
…
مثل اطراد الفعل للاسم
رفع العدو إليك ناظره
…
فرآك مطلعًا مع النحم
إن البيت الثاني مأخوذ من قول أشجع السلمي في الرشيد:
وعلى عدوك يا ابن عم محمد
…
رصدان: ضوء الشمس والإظلام
فإذا تنبه رعته، وإذا غفا
…
سلت عليه سيوفك الأحلام
وأما البيت الثالث فإن المتنبي قد اقتبس ما فيه من تعريفات نحوية في كثير من مدائحه لسيف الدولة في مثل قوله:
إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا
…
مضى قبل أن تُلقى عليه الجوازمُ
وإذا كان الحديث، عن ابن عبد ربه الشاعر ليس هذا مجاله بل مجرد إثبات شاعريته والتمثل لها فلننتقل إذن إلى ابن عبد ربه العالم المؤلف.
1 المصدر "2/ 75".