المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منهج الكتيبة الكامنة: - مناهج التأليف عند العلماء العرب

[مصطفى الشكعة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي

- ‌الفصل الأول: فجر الحركة العلمية

- ‌الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية

- ‌الفصل الثالث: حركة التدوين

- ‌مدخل

- ‌تدوين القرآن الكريم وتفسيره:

- ‌تدوين الحديث:

- ‌تدوين العلوم والمعارف:

- ‌الباب الثاني: الكتابة والإنشاء

- ‌الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي

- ‌مدخل

- ‌يحيى بن يعمر العدواني:

- ‌عبد الله الطالبي:

- ‌الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي

- ‌عبد الحميد بن يحيى:

- ‌عبد الله بن المقفع وتصانيفه

- ‌الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:

- ‌الفصل الرابع: مصادر النثر العربي

- ‌الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص

- ‌الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة

- ‌الفصل الثاني: المفضل الضبي:

- ‌الفصل الثالث: النضر بن شميل

- ‌الفلصل الرابع: ابن الكلبي

- ‌الفصل الخامس: أبو عبيدة:

- ‌الفصل السادس: الأصمعي

- ‌الفصل السابع: الهيثم بن عدي:

- ‌الفصل الثامن: المدائني:

- ‌الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي

- ‌الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ

- ‌الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:

- ‌الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد

- ‌الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب:

- ‌الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور

- ‌الفصل السابع: أبو بكر الصولي

- ‌الفصل الثامن: المرزباني

- ‌الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي

- ‌الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني

- ‌الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد

- ‌مدخل

- ‌ العقد الفريد:

- ‌الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني

- ‌كتاب الأغاني

- ‌مؤلفات أبي الفرج:

- ‌قيمة كتاب الأغاني ومنهجه:

- ‌مختصرات الأغاني:

- ‌الباب السادس: كتب الأمالي:

- ‌الفصل الأول: نشأة الأمالي

- ‌الفصل الثاني: مجالس ثعلب

- ‌الفصل الثالث: أمالي اليزيدي

- ‌الفصل الرابع: أمالي القالي

- ‌مدخل

- ‌ذيل الأمالي والنوادر:

- ‌الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:

- ‌الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى:

- ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

- ‌الباب السابع: طبقات الشعراء

- ‌الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي

- ‌مدخل

- ‌طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي:

- ‌الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

- ‌الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني:

- ‌الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:

- ‌الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات

- ‌الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات

- ‌السموط أو المعلقات:

- ‌المفضليات:

- ‌الأصمعيات:

- ‌جمهرة أشعار العرب

- ‌ شعر القبائل:

- ‌شعر الهذليين:

- ‌الفصل الثاني: كتب الحماسة

- ‌مدخل

- ‌حماسة أبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري

- ‌ حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر

- ‌ الحماسة الشجرية

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌الباب التاسع: كتب التراجم

- ‌الفصل الأول: الفهرست لابن النديم

- ‌مدخل

- ‌الفهرست لابن النديم

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ تاريخ بغدادللخطيب البغدادي:

- ‌ تاريخ بغداد

- ‌منهج كتاب تاريخ بغداد:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ معجم الأدباءلياقوت الرومي:

- ‌ معجم الأدباء

- ‌منهج ياقوت في معجم الأدباء:

- ‌الفصل الرابع: وفيات الأعيان

- ‌وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:

- ‌فوات الوفيات:

- ‌الوافي بالوفيات

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر

- ‌مدخل

- ‌منهج "خلاصة الأثر

- ‌الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي:

- ‌الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس:

- ‌الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌قلائد العقيان، ومطمح الأنفس

- ‌قلائد العقيان:

- ‌مطمح الأنفس ومسرح التأنس

- ‌الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:

- ‌ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه:

- ‌التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:

- ‌منهج "المغرب" وخصائصه:

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد:

- ‌رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة:

- ‌الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس:

- ‌كتب التراجم لأدباء الأندلس

- ‌سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة

- ‌المطرب في أشعار أهل المغرب:

- ‌الفصل السادس:‌‌ لسان الدينبن الخطيب والكتيبة الكامنة

- ‌ لسان الدين

- ‌منهج الكتيبة الكامنة:

- ‌الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس:

- ‌ المقتبس في أخبار الأندلس:

- ‌ تاريخ المن بالإمامة:

- ‌ المعجب في تلخيص أخبار المغرب:

- ‌ الحلّة السِّيراء:

- ‌ البيان المُغرب في أخبار المَغرب:

- ‌ الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة:

- ‌الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية

- ‌ المشارقة والأدب الأندلسي:

- ‌ المقري ونفح الطيب:

- ‌ منهج نفح الطيب وموضوعاته:

- ‌الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية

- ‌الفصل الأول:‌‌ ظهور الموسوعة العربيةوالعصر المملوكي

- ‌ ظهور الموسوعة العربية

- ‌الموسوعات والعصر المملوكي:

- ‌الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها:

- ‌ابن منظور ولسان العرب:

- ‌النويري ونهاية الأرب:

- ‌صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي:

- ‌ابن فضل العمري ومسالك الأبصار

- ‌القلقشندي وصبح الأعشى:

- ‌المقريزي ومؤلفاته:

- ‌ابن حجر ومؤلفاته:

- ‌ابن تغري بردي ومؤلفاته:

- ‌السخاوي وكتبه:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكيبواكير الموسوعات:

- ‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكي

- ‌بواكير الموسوعات:

- ‌المراجع

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: ‌منهج الكتيبة الكامنة:

فيه مدن مملكة غرناطة وترجم لبعض أعيانها، وكتاب خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف" هو تعريف جغرافي أدبي اجتماعي ببعض بلدان الأندلس، وقد سبقت الإشارة إلى أن "نفاضة الجراب" هو بدوره من قبيل كتب الرحلات.

وفي السياسة ألف ابن الخطيب كتاب "الإشارة إلى أدب الوزارة" وترك رسالة في السياسة في شكل مقامة، كما ألف كتاب "بستان الدول" الذي يتحدث ابن الخطيب فيه عن السياسة، والقضاء، والحرب، وأنواع المهن، وأشتات الحرف، ومختلف الطوائف.

وألف ابن الخطيب في الطب كتابًا كبيرًا هو "عمل من طب لمن حب" يتحدث فيه عن الأمراض، وأسباب كل مرض وأعراضه وعلاجه والغذاء الذي يناسب المريض، كما يتحدث فيه عن أعضاء الجسم جميعًا حديثًا طبيًا، هذا فضلًا عن رسائل طبية كثيرة منها "المسائل الطبية" و"اليوسفي في الطب" و"رسالة تكوين الجنين" و"الرجز في عمل الترياق" و"الوصول لحفظ الصحة في الفصول" و"رجز الأغذية" و"البيطرة والبيزرة".

ولما اتهم القاضي النباهي ابن الخطيب، وهو في منفاه بالإلحاد رد عليه لسان الدين برسالة سماها "خلع الرسن في أمر القاضي أبي الحسن".

قد يتساءل المرء: كيف تأتي للسان الدين أن يكتب كل ذلك الصرح العظيم من المؤلفات النفيسة مع انشغاله بالوزارة والإدارة وتدبير شئون الملك والأسفار التي كان يتابع فيها أحوال الدولة؟ والإجابة أن لسان الدين كان يعمل نهارًا للدولة وتدبير المملكة وشئونها ويعمل ليلًا بالتصنيف والتأليف، ومعنى ذلك أنه لم يكن يضيع ليله في النوم، فقد كان مصابًا بأرق متصل فعاش حياته مرتين، ومن ثم فكما أنه كان يلقب بذي الوزارتين كان يقال له ذو العمرين".

ص: 558

‌منهج الكتيبة الكامنة:

اسم الكتاب كاملًا "الكتيبة الكامنة في من لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة ويرد في بعض المصادر وبخاصة في "الإحاطة" تحت عنوان "الكتيبة الكامنة في أدباء المائة الثامنة" وليس ثمة خطر في ذلك فإن كثيرًا من الكتب قد ذكرت بأسماء مختلفة تكوين كلمات العنوان وإن كانت في واقعها هي الكتب المقصودة نفسها، ولا يعني اختلاف كلمة في عنوان الكتاب أن الكتاب كتابان وليس كتابًا واحدًا، ولقد سبق القول بأن كتاب "الكتيبة الكامنة" للسان الدين في الأندلس والمغرب هو المقابل لكتاب "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني

ص: 558

في المشرق مع الفارق -طبعًا- بين حجم وقدر هذا وذاك. "فالكتيبة الكامنة" تترجم لمائة شاعر وثلاثة في مجلد واحد، بينما "الدرر الكامنة" تترجم لخمسة آلاف ومائتين وأربعة أعلام بينهم العديد من الشعراء في خمسة مجلدات كبيرة حسبما سبق الحديث في باب كتب التراجم.

هذا ويمكننا أن نلخص منهج الكتاب وملامحه في النقاط الآتية:

أولًا: إن ابن الخطيب ألف كتابه سنة 774هـ أي بعد أن ترك الوزارة وأقام في المغرب وفي مدينة فاس بالذات حين تخفف من أعباء الرياسة وتبعاتها والدنيا ومتاعبها "فجعلت الهدية من جنس ما تتشوف إليه النفوس الغنية وتتجر في أسواقه الهمم السنية، من وضع يستظرف، أو اختراع إليه يستشرف، وأثر يدل على طور المتوسل، وطريقة المتعرف المسترسل، يظهر منه مصرف عنايته، وشرح كتابته

فجمعت في هذا الكتاب جملة وافرة، وكتيبة ظاهرة، ممن لقيناه في بلدنا الذي طوينا جديد العمر في ظله، وطاردنا قنائص الآمال في حرمه وحله، ما بين من تلقينا إفادته، أو أكرمنا وفادته، وبين من علمناه وخرجناه، ورشحناه وودجناه ومن اصطفيناه ورعيناه، فما أضعناه

والمقصود إنما هو إلمام بتعريف، وجلب أدب ظريف، وخبر طريف وسميت هذا الوضع بالكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة".

لعل هذه الكلمات التي عمدنا إلى اقتطاعها من مقدمة ابن الخطيب لكتابه بأسلوبه، وقلمه توضح لنا جانبًا من فكرة المؤلف إزاء كتابه، وأنه عمد إلى الإطراف وإلى التعريف بمعاصريه من الشعراء أو الأدباء الأندلسيين وحدهم دون غيرهم، مثلما فعل ابن بسام في الذخيرة مثلًا، حين ترجم لبعض أدباء المشرق.

وبمناسبة ذكر ابن بسام فلعلنا ما زلنا نذكر استعلاءه ومحاولته النيل من المشارقة على حساب أدباء الأندلس وشعرائه، أما الأمر عند ابن الخطيب، فليس كذلك بل لعل العكس هو الصحيح تمامًا، فلسان الدين بن الخطيب يتحدث عن وقع كتابه لدى المشارقة، ولعله كان قد أهداه إليهم حسبما ذهب صديقنا الدكتور إحسان عباس في مقدمته وهو يحقق الكتاب. إن ابن الخطيب يقول في أدب جم في خطبة كتابه ومقدمته "وإن كان جالب هذا الكتاب إلى البلاد المشرقية أعز الله أهلها، وأمن حزنها وسهلها، جالب نغبة* إلى غدير، وحبابة إلى كأس مدير

ولو كانت الهدايا التي تجلب إلى أبوابهم، لالتزام ثوابهم، يشترط فيها المماثلة لمحالهم العالية، والمناسبة لأقدارهم الغالية، لسد الباب وعجزت

* النغبة هي الجرعة وهي ملء الفم ماء.

ص: 559

الألباب، وتقطعت -ونعوذ بالله تعالى- الأسباب"1.

إن الفرق يبدو واضحًا كل الوضوح بين رجل مثل ابن بسام لم يقدم للأدب غير كتاب واحد، وبين عالم كبير مثل لسان الدين بن الخطيب، وما كان الاستعلاء ليرفع قدر وضيع وما كان التواضع ليحط من قدر عظيم، فابن الخطيب بتواضعه هذا جعل قارئي العربية يحيطونه بمزيد من الاحترام، هذا وقد سبق القول إن العالم لا يقارن بعالم آخر بمعيار كتاب بعينه لكل منهما، ولكن ميزان المفاضلة ينبني على أساس جميع ما قدم هذا وذاك من كتب وآثار.

ثانيًا: قسم ابن الخطيب كتابه هذا الذي يضم مائة شاعر وثلاثة -حسبما سبق القول- إلى أربعة أقسام، جعل القسم الأول منه لشعر "الخطباء الفصحاء والصوفية الصلحاء" وفيه يترجم ويتمثل لتسعة عشر منهم.

ومن الطريف أن المؤلف يعطي القارئ عنهم فكرة مجملة قبل أن يقدمها عن كل واحد منهم مفصلة، فيقول: وهذه طائفة أهلها أعلام سرادة ومجادة، وفرسان مرقى وسجادة وليسوا بحجة في إحادة إلا من جرى منهم مجرى إفادة في وفادة"2.

وخصص صاحب "الكتيبة" القسم الثاني من الكتاب لـ"طبقة المقرئين والمدرسين والممهدين لقواعد المعارف والمؤسسين" أي للمعلمين بطبقاتهم المختلفة، والمقصود طبعًا من احتراف التعليم وحده وابتعد عن ممارسة الشعر ومعاناته ولم يقل إلا في مناسبة أو استجابة لخطرة طارئة أو فكرة وافدة، فإن أكثر الشعراء الكبار في العصور الوسيطة والحديثة كانوا معلمين.

إن ابن الخطيب يجعل هذه الطبقة دون مستوى غيرها في حلبة الشعر ويقول "وهذه الطبقة أولى ممن قبلها بدرجة الانحطاط وغض عنان الاشتطاط، إذ لا خفاء عند المتمرس، بفضل الخطيب في باب الفصاحة على المدرس، إلا ما وقع بالعرض، وخرج عن هذا القياس المفترض"3 وهكذا يتحرز ابن الخطيب في حكمه، وهو الرأي الذي أشرنا إليه قبل سطور، وهؤلاء المعلمون الشعراء الذين أورد ترجمات ونصوصًا لهم عددهم أحد عشر.

وخصص ابن الخطيب القسم الثالث من الكتيبة لـ "طبقة القضاة أولي الخلال المرتضاة" وعلى قدر هذا التكريم الذي خلعه ابن الخطيب على القضاة في هذا العنوان، كان التحقير في شأنهم كأدباء شعراء، فيقول في تقديمه لهذه الفئة: "وهذه الطبقة منحطة في البيان،

1 مقدمة ابن الخطيب للكتيبة الكامنة "ص28-30".

2 الكتيبة الكامنة "ص31".

3 المصدر السابق "ص70".

ص: 560

لاقتصار مداركها على علوم الأديان، وما يصدر عنها فعلى جهة الافتنان وسخاء الأفنان، وربما ندر في هذه الطبقة ما يعيي يد الحالب، ويحسب طلب الطالب، لكن الحكم للغالب"1.

وهكذا يتحرز ابن الخطيب ويحسب حساب النابهين من القضاة الذين خرجوا على هذه القاعدة وجاءوا بشعر معجب وبيان مطرب، ولقد تمثل هو نفسه لبعضهم وترجم لبعض المبدعين من الشعراء القضاة مثل القاضي أبي البركات محمد بن أبي بكر البلفيقي، وأورد لهم نماذج شعرية وصفها بالغرابة ووسمها بالعراقة والأصالة2.

وابن الخطيب حين يصف طائفة القضاة بأنهم أولو الخلال المرتضاة، يترجم لهم من هذا المنطلق، ولكنه يستثني واحدًا منهم هو القاضي النباهي عدوه اللدود الذي وصفه -أي وصف لسان الدين- بالملحد وأفتى بحرق كتبه، وكان تصرف النباهي غير صادر من حقيقة كونه قاضيًا بقدر ما كان صادرًا من موقع خصومة شخصية وعداوة سياسية، ولعل ابن الخطيب ذكره مع طائفة القضاة بحكم الوظيفة وليس بحكم الحقيقة، فلقد كان النباهي يشغل وظيفة "قاضي الجماعة" وهي نفسها وظيفة "قاضي القضاة" في المشرق، وهي تعادل اليوم منصب "وزير العدل" ولنا مع ابن الخطيب وابن النباهي في هذا المجال حديث قادم، وليس من شك في أن النباهي كان شاعرًا كبيرًا.

هذا وإن عدد القضاة الذين ترجم لهم صاحب "الكتيبة" بلغ عددهم أربعة وعشرين قاضيًا.

وأما الطبقة الرابعة والأخيرة من شعراء الكتيبة فهي "طبقة من خدم أبواب الأمراء من الكتاب والشعراء" وقد جرت العادة آنذاك أنه ما من كاتب أو شاعر إلا وكانت له صلة رسمية بسلطان أو أمير أو وزير أو نطاق العمل أو الاختصاص به مادحًا أو نديمًا، ويقدم لسان الدين لهذه الطبقة بقوله: وربما كانت هذه الطبقة متميزة الاستحسان، تمييز البركة بمطر النيسان ومظنة لدرر بحر اللسان، الممنون بها على عالم الإنسان، والله يتغمد الكل بالعفو والامتنان، ويبوئهم غرف الجنان بفضله وكرمه".

ونظن أن ابن الخطيب قد استثنى في دعائه الله لهم بالرحمة والعفو، الوزير ابن زمرك الذي كان تلميذ ابن الخطيب وعلى يديه تربى وبمساعيه ارتقى، ثم انقلب على أستاذه ودس عليه وخانه وشارك في إصدار الحكم عليه بالقتل، ولنا في ذلك حديث موجز بعد قليل

1 الكتيبة الكامنة "ص101".

2 انظر ترجمته للبلفيقي "ص127-134".

ص: 561

وإن عدد الشعراء الذين خصهم لسان الدين في هذا القسم من الكتيبة تسعة وأربعون أي ما يقل قليلًا عن نصف عدد شعراء الكتاب كله، وهم أصحاب النصيب الأوفر من العناية، فأولي القسط الأكبر من الاحتفال بأخبارهم والاهتمام بشعرهم.

المهم أن هذه الفئة الأخيرة دون غيرها من الطبقات الأربع التي صنفها ابن الخطيب في الكتيبة، هي الصفوة الشاعرة التي يستمع الأديب بقراءة أشعارها، وهي الوجه الصادق أو جزء من الوجه الحقيقي للشعر والشعراء في القرن الثامن في الأندلس؛ لأن كتاب الكتيبة لا يشمل كل شعراء القرن الثامن وإنما من لقيهم المؤلف من الشعراء.

لقد كان لسان الدين بن الخطيب واضحًا الوضوح كله في خطبة كتابه أو بالأحرى في مقدمة كتابه حين حدد المنهج الذي سار عليه والمقصد الذي ذهب إليه.

ثالثًا: إن محتوى كتاب الكتيبة من شعر الشعراء، وأخبارهم أو بالأحرى من شعر كل شاعر وأخباره لا ينهض لكي يمثل وجبة كاملة مشبعة، وإنما هي شطائر تدفع الشعور بالجوع لبعض الوقت، ولكنها لا تشبع، ولعل ابن الخطيب -ولست جازمًا في ذلك ولكن مستنتجًا- قد كتبها من ذاكرته، فالرجل معروف بالإفاضة والعمق والإطالة والاستيفاء، وكتبه الأخرى الكثيرة الوفيرة التي يتكون بعضها من العديد من المجلدات شاهدنا على ذلك.

إن متوسط الترجمة لكل شاعر إلا في حالات قليلة زيادة ونقصًا -تشغل ما بين ثلاث صفحات إلى خمس. ولقد سبق أن رأينا شيئًا من ذلك في بعض كتب التراجم والطبقات، ككتاب المطرب مثلًا، ولكن شتان الفرق بين ابن دحية ولسان الدين، بل لقد رأينا شيئًا من ذلك في "المغرب" ولكن ابن سعيد عاد فقام بعملية تعويض أخرى للشعراء الذين لم يهتم بهم كثيرًا في المغرب فأضفى عليهم اهتمامًا كبيرًا في كتبه الأخرى حسبما أشرنا إلى ذلك في حينه.

رابعًا: يتبع ابن الخطيب في "الكتيبة الكامنة" طريقة سابقيه من كتاب التراجم والطبقات في الأندلس، وغيرهم من خلع صفحات المديح وألقاب الثناء على من ترجم لهم، ولكنه حين يعرض لأعدائه ينال منهم بشدة ويحمل عليهم ويقبح سيرتهم، وربما عمد إلى السخرية منهم والهزء بهم في نهج يجمع بين الهجاء والفكاهة، مثال ذلك قوله حين ترجم للقاضي النباهي. إنه التعريض به ابتداء من ذكر اسمه فيورد اسمه هكذا: القاضي علي بن عبد الله بن الحسين النباهي البني المدعو بجعسوس، والجعسوس -بضم الجيم- القصير الدميم اللئيم الخلق والخلق. ثم يبدأ لسان الدين ترجمته للرجل قائلًا: "أطروقة الزمن، التي تجل غرائبها عن الثمن، وقرد شارد من قرود اليمن، ذنبًا وأحداقًا، وفروة وأشداقًا، وإشارة واصطلاحًا، وخبثًا وسلاحًا، تشغل به الصبيان إذا بكت، وتتملح به الزهاد بعدما نسكت، وعن كل شيء

ص: 562

أمسكت، إلا أن خلبه بالنسبة إلى هذا الخلق، والوجه الطلق، حسنة جميلة، وأوصافه بالنسبة إلى معارفه وعلومه أوصاف ابن قاضي ميلة، لا يجلب لأدب يرسم، ولا حظ من حسن الذكر يرسم، ولا لعرف يتنسم، ولا لبركة تتوسم" ويمضي لسان الدين في وصف القاضي النباهي، وكأنما اختار وصفه له من المقامة الدينارية لبديع الزمان الهمذاني التي جعل موضوعها جائزة قدرها دينار لسفيهين شتامين، ينالها من كان أشتم من صاحبه، إن لسان الدين يمضي في وصف القاضي النباهي هكذا: "ومما يعاب به الزين، كي لا تصيبه العين، ويعلق على البيوت تميمة، وإن كانت الأوضاع ذميمة، من حوله ورصاصة منحوتة ومرار ثور، وذنب سنَّور" 1.

ويمضي لسان الدين على هذا النحو من الوصف أو الهجاء شوطًا طويلًا، فإذا ما انتقل من الوصف إلى الأخبار جاء بالساخر منها والفكه، يروي لسان الدين هذه الطرفة عمن حضر مجلس النباهي:"سمعته يقول: تنكرون علي ما يكثر من كلامي من لفظ جعسوس كأنه ليس من كلام العرب، وبل ولا من ألفاظ القرآن العظيم، فقلنا له: أما في كلام العرب فربما، وأما في القرآن فلا نعرفه، فضحك وقال: سبحان الله! أعيدوا النظر فيه، فقلنا: والله ما نعرفه، فقال: ألم يقل الله تعالى في القرآن: "ولا تجعسوا ولا يغتب بعضكم بعضا" فقلنا: والله ما قال ذلك قط، وإنما قال: ولا تجسسوا، قال: فاسترجع وقال: يا فقيه، حفظ الصغر".

ويبدو أن النباهي قد عرف بشيء من ذلك التخليط؛ لأن لسان الدين يذكر اسم كتاب بعنوان تنبيه الساهي على طرف النباهي".

فإذا انتقل لسان الدين إلى إيراد أمثلة من شعر النباهي كان الشعر جيدًا، ولكنه يشكك في إسناده إليه، أو يأتي بقصائد قالها النباهي في مدح لسان الدين حين كان صاحب الإماة والوزارة.

على أن لسان الدين في ترجماته الأخرى للنباهي في غير الكتيبة الكامنة" مثل الإحاطة أثنى عليه كثيرًا، بل إنه خلع عليه صفات الفضل والمجد في المرسوم الذي كتبه لسان الدين بنفسه حين ولاه القضاء.

والنباهي بعد ذلك صاحب علم وتاريخ، وهو مؤلف كتاب "المرقبة العليا في تاريخ قضاة الأندلس". ولكن لسان الدين بشر، والنباهي وهو أحد صنائعه مشى في الدس لصاحب الفصل عليه شوطًا طويلًا انتهى إلى المدى الذي ذكرنا من موت لسان الدين قتيلًا، ثم إحراق جثته.

1 الكتيبة الكامنة "ص146" وما بعدها.

ص: 563

ويعمد لسان الدين إلى السبيل نفسه من خلع صفات اللؤم والتآمر والخسة والتسلق على الوزير الشاعر أبي عبد الله محمد بن يوسف بن زمرك، فيقول في ترجمته:"مخلوق من مكيدة وحذر، ومفطور اللسان على هذيان وهذر، خبيث إن شكر، خدع ومكر، ودس في الصفو العكر".

فإذا انتقل لسان الدين إلى وصف شعر ابن زمرك مدح فنه فأثنى عليه، ولكنه لا يلبث أن ينال منه بذكر بعض أخبار عنه تنال من خلقه وسلوكه.

وأما النماذج الشعرية نفسها فأكثرها مما قاله ابن زمرك في مدح لسان الدين.

خامسًا: إن الشعراء الذين ترجم لهم لسان الدين في "الكتيبة" ليسوا وحدهم شعراء المائة الثامنة، بل هم الشعراء الذين لقيهم لسان الدين وذلك واضح من عنوان الكتاب، مات بعضهم في حياته، ومات هو وترك بعضهم على قيد الحياة، غير أننا نستطبع أن نقرر أن لسان الدين استطاع أن يعطي صورة واضحة المعالم عن الشعر الأندلسي في القرن الثامن الهجري في كتابه هذا مضافًا إليه محتويات كتبه الأخرى ما كان منها في الأدب وما كان منها في فنون أخرى من فنون المعرفة، فالرجل بطبيعته الأدبية لم يكن يغفل عن ترديد الشعر في كل كتبه.

إن الكتيبة الكامنة، والتاج المحلى، والدرر الفاخرة واللجج الزاخرة، وعائد الصلة، وجيش التوشيح، وهي كلها من مؤلفاته الأدبية، مضافًا إليها الشعر الذي ينتشر على صفحات بعض كتبه الأخرى مثل الإحاطة في تاريخ غرناطة، ونفاضة الجراب، وأعمال الأعلام، وخلع الرسن في أمر القاضي أبي الحسن، كل ذلك يمكن أن يشكل ديوانًا للشعر الأندلسي في قرن كامل هو القرن الثامن، بمعنى أن ابن الخطيب وحده وبمؤلفاته وحدها يمكن أن نرسم صورة أقرب إلى الاكتمال عن الأدب الأندلسي شعرًا ونثرًا في المائة الثامنة من الهجرة.

أما من أراد أن يغطي القرن الثامن تغطية كاملة من الناحية الأدبية، فلا مفر له من أن يطلع على كتب أخرى لمؤلفين آخرين مثل فهرسة أبي علي الحضرمي، وفهرسة أبي زكريا السراج، ونثير فرائد الجمان فيمن جمعني وإياه الزمان لابن الأحمر، وتنبيه الساهي على طرف النباهي، والبقية والمدرك من شعر ابن زمرك لابن الأحمر، والمرقبة العليا للنباهي، والمؤتمن في أنباء من لقيناه من أبناء الزمن لأبي البركات بن الحاج، ومزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية لأحمد بن علي بن خاتمة، وكتب الرحلات التي قام بها أصحابها في القرن الثامن، فضلًا على متابعة أدباء القرن أخبارًا وأدبًا وأشعارًا في نفح الطيب للمقري التلمساني والدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لشيخ الإسلام أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني، القاهري.

ص: 564