الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:
يعتبر أبو حيان التوحيدي 400هـ، واسمه الأصلي علي بن محمد بن العباس، واحدًا من ألمع مفكري العربية، وأدبائها حتى إنه لقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ذلك أن كتبه تجمع إلى عمق الفكرة أناقة العبارة ورشاقة الأسلوب، ومن أجل ذلك أيضًا، فضلًا عن انتهاجه مذهب المعتزلة فإن بعض المؤرخين يلقبونه بالجاحظ الثاني.
وأبو حيان على نباهة شأنه كان سيء الحظ في حياته مضطهدًا محدود الرزق. عمل بالوراقة والنسخ حينًا، وفي خدمة الوزير ابن العميد ثم الوزير الصاحب بن عباد حينًا آخر، ولم يلق من أي منهما إلا كل إهمال واحتقار، الأمر الذي دفع به إلى أن يكتب فيهما كتابًا كبيرًا أسماه "أخلاق الوزيرين" أو "مثالب الوزيرين" نال من قدرهما بقسوة على ما فيهما من فضل وعلم ومروءة.
لقد كان أبو حيان خصيب الفكر ثر العطاء متبحرًا بعمق في عديد من ألوان المعرفة، وألف أكثر من عشرين كتابًا من عيون الفكر العربي وآدابه، ولكن حين ضاقت به أسباب الرزق -على عمله الوفير- بحيث اضطر إلى أن يأكل حشيش الأرض، حقد على الناس جميعًا، وتبلور حقده عليهم في إحراق كتبه حتى يحرم الجمهرة فضله، ولم يسلم منها إلا ما كان منها من نسخ في أيدي الناس.
ولقد حير أبو حيان المؤرخين من حيث أفكاره، وعقيدته فبينما يخلع عليه ياقوت الحموي لقب شيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء، يتهمه ابن الجوزي بالزندقة، ويجسم من خطره فيجعله أخطر الزنادقة جميعًا، يقول ابن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، والتوحيدي، والمعري، وشرهم التوحيدي؛ لأنهما صرحا ولم يصرح، أي لأن كلا من ابن الرواندي وأبي العلاء المعري أعلنا زندقتهما، وأما أبو حيان فلم يعلن زندقته أو يصرح بها.
ومهما كان الأمر فإن أبا حيان عاش نيفًا وثمانين عامًا في شظف من العيش ومرارة الحرمان، ربما كان هو نفسه مسئولًا بعض الشيء عن ذلك، وتوفي سنة 400هـ ووصل إلينا من كتبه حتى الآن:
1-
الإمتاع والمؤانسة.
2-
الصداقة والصديق.
3-
المقابسات.
4-
الإشارات الإلهية.
5-
البصائر والذخائر.
6-
الهوامل والشوامل.
7-
مثالب الوزيرين، أو أخلاق الوزيرين.
وكل هذه الكتب مطبوعة منشورة، وكلما ظهر له جديد من تلك الكنوز المخطوطة، التي لا تزال مدفونة في المكتبات الخاصة متفرقة من العالم سارع العلماء إلى تحقيقها ونشرها.
كتاب الإمتاع والمؤانسة:
إن لهذا الكتاب من عنوانه نصيبًا كبيرًا، فهو يمتع قارئه بما حوى من أدب وعلم" ويؤنسه بما ضم من طرف وحوار.
لقد صنفنا هذا الكتاب مع مجموعة الأمالي والمجالس؛ لأنه تسجيل لأحاديث وأمالٍ ومحاضرات، ومناقشات ألقيت في أربعين ليلة، ألقاها أبو حيان على مسامع أبي عبد الله الحسين العارض بن أحمد بن سعدان وزير صمصام الدولة بن بويه في بغداد.
لقد كان ذلك العصر عصر الندوات العلمية الدائمة التي تعقد في قصور الأمراء والوزراء، ومن أشهر هذه الندوات، ندوة عضد الدولة بن بويه في شيراز، وندوة ابن العميد في الري، وندوة الصاحب بن عباد في أصبهان، وندوة الوزير المهلبي في بغداد، وقد سبقتها في بغداد، ندوة ابن سعدان هذا الذي وزر لصمصام الدولة لمدة ثلاث سنوات على وجه التقريب بين 373، 375هـ.
لقد كانت ندوة ابن سعدان تضم عددًا من مشاهير الأدباء، والفلاسفة، والشعراء، والرياضيين منهم ابن زرعة الفيلسوف، ومحمد بن محمد بن يحيى اليوزجاني المعروف بأبي الوفاء المهندس نابغة الهندسة والرياضة، وأبو سعد بهرام بن أردشير، ومسكويه عالم الأخلاق، وابن شاهويه، وابن حجاج الشاعر الماجن، وأبو عبيد الخطيب الكاتب. وأخيرًا
انضم إلى هذه الندوة صاحبنا أبو حيان، الأمر الذي جعل ابن سعدان يفاخر بها الندوات الأخرى التي كان يلتئم شملها عند من ذكرنا من الأمراء والوزراء.
أما قصة هذا الكتاب فإن أبا الوفا المهندس الذي مر ذكره كان صديقًا لكل من أبي حيان، والوزير ابن سعدان، فقرب أبو الوفا أبا حيان إلى الوزير وجعله من سماره، فسامره أربعين ليلة عالج فيها أبو حيان الكثير من الموضوعات من أخبار أدبية، وشعر، ونثر، ولغة، وفلسفة، ومنطق، وأخلاق، وطبيعة، وإلهيات، وتفسير، وحديث، وبلاغة، وسياسة، وحيوان، وطعام، وشراب، ومجون، وغناء، وموسيقى، وتاريخ، وتحليل لشخصيات العصر من ساسة وعلماء وفلاسفة وأدباء، وتعرض للحياة الاجتماعية المعاصرة بالدراسة والعرض والتحليل، وكانت تجري في أثناء هذه الأحاديث مناقشات بين الوزير وأبي حيان تدل على ما كان لهذا الوزير من مشاركة في مختلف موضوعات الأدب واللغة والفلسفة والإلهيات، وكان أبو حيان يختتم كل ليلة من ليالي المسامرات هذه بملحة يطلبها منه الوزير ويسميها ملحة الوداع التي تكون تارة قصة فكهة قصيرة أو أبياتًا من الشعر طريفة.
المهم أنه بعد أن انتهى أبو حيان من لياليه الأربعين التي سامر فيها الوزير، فطن أبو الوفاء المهندس إلى ما فيها من موضوعات نفيسة جديرة بالحفظ، خاصة ما حوته من مناقشات الفكر وخطرات العقل، وعطاء البديهة، وما قد عرضه أبو حيان نتيجة الدراسة والتحصيل وإعداد السابق، كل ذلك جعل أبا الوفاء المهندس يطلب من أبي حيان -لاجئًا إلى نوع من الضغط الأدبي- أن يكتب هذه المسامرات كل ليلة بليلتها، فاستجاب له أبو حيان، وكتب أحاديث الأربعين بكل ما حوت من فنون المعرفة، وتفاصيل المناقشات.
هذا وكانت الليالي تختلف طولًا وقصرًا، كما أن موضوعًا واحدًا من موضوعات الحديث كان يستغرق أحيانًا أكثر من ليلة كما حدث في الليلتين الرابعة، والخامسة، فقد كان موضوع الحديث فيهما عن الكتاب وأعلامهم مع طرق موضوعات أدبية ونقدية، والليلتين التاسعة والعشرين والثلاثين حين كان الحديث في التفسير واللغة والنحو.
وإذا كان لنا أن نستعرض بعض الليالي وما عولج فيها من موضوعات، ففي الليلة الرابعة والعشرين على سبيل المثال، عالج أبو حيان موضوع الزهد والأخلاق وقصص الزهد وأخبارهم.
وفي الليلة الخامسة والعشرين طلب الوزير من أبي حيان أن يسمعه كلامًا في مراتب النظم والنثر، فقدم أبو حيان استعراضًا بديعًا عذبًا للنظم والنثر، مع حديث عن البلاغة والأدب.
وفي الليلة السادسة والعشرين كان الحديث عن الكلمات القصار من حكم وأمثال،
فقدم أبو حيان حشدًا من مختارات الحكم نظمًا ونثرًا.
وفي الليلة السابعة، والعشرين كان الحديث عن الصوفية، والتوكل على الله مع قصص لطيفة مأثورة، ثم عرج أبو حيان بناء على طلب الوزير إلى الحديث في المنطق، ثم في اللغة مع تطرق لموضوع الفأل والطيرة.
وكانت الليلة الثامنة والعشرون ليلة طويلة، وساعد على طولها طبيعة الموضوع المطروق، فقد كان الحديث عن الغناء والقيان ومحبي الطرب وشعر الغناء، وما يتصل بهذا الموضوع من قريب أو بعيد.
وبينما كانت الليلة الماضية حديثها القيان والقصف، والغناء فإن حديث الليلة التاسعة والعشرين كان في التفسير واللغة، ويستمر حديث اللغة والنحو فيستحوذ على الليلة الثلاثين.
وفي الليلة الخامسة والثلاثين يكون الحديث عميق التناول؛ لأنه حديث عن النفس والروح وصفتهما، والفرق بينهما، وما الإنسان؟ وما الطبيعة؟ وما العقل؟ وما المعاد؟ ويتطرق الحديث إلى علم النفس، والفلسفة.
وحديث الليلة الأربعين يتناول الشعر والشعراء والنقد، وعلم الكلام وأشتاتًا من الموضوعات مع مناقشات لطيفة وحوار عذب.
الواقع أن كتاب الإمتاع والمؤانسة يعتبر نسيج وحده بين كتب "المجالس" و "الأمالي" وإن كنا نصنفه في كتب المجالس فهو إليها أقرب. إن أبا حيان شخصية خطيرة عندما يعرض لتحليل الأشخاص وعرض الموضوعات، ولقد كشف اللثام عن كثير من الموضوعات الاجتماعية والسياسية وحلل شخصيات عصره اللامعة من أمثال ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي سليمان المنطقي.
ومن الموضوعات الفريدة التي جاءت في الإمتاع والمؤانسة -على سبيل المثال- المناظرة الفريدة الممتعة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي، وأبي بشر متى بن يونس في المفاضلة بين المنطق اليوناني والنحو العربي، كما أن الإمتاع والمؤانسة هو أول كتاب يميط اللثام عن رسائل إخوان الصفا وأشخاص مؤلفيها.
ولعل من أهم سمات الفكاهة في الكتاب تلك الملح التي كان ينهي بها أبو حيان حديثه بناء على رغبة الوزير، فمن تلك الملح النثرية قول أبي حيان:
حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناء ليبني له حائطًا فحضر، فلما أمسك اقتضى البناء الأجرة، فتماسكا، وذلك أن الرجل طلب عشرين درهمًا، فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهمًا؟ قال: أنت لا تدري، إني
قد بنيت لك حائطًا يبقى مائة سنة، فبينما هم كذلك اهتز الحائط وسقط، فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟!! قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفى أجرتك.
ومن الطرف الشعرية التي ختم بها أبو حيان إحدى لياليه روايته هذه الأبيات:
إذا استمتعت منك بلحظ طرفي
…
حيى نصفي ومات عليك نصفي
تلذذ مقلتي ويذوب جسمي
…
وعيشي منك مقرون بحتفي
فلو أبصرتني والليل داجٍ
…
وخدي قد توسط بطن كفي
ودمعي يستهل من المآقي
…
إذن لرأيت ما بي فوق وصفي
إن كتاب الإمتاع والمؤانسة -حسبما وصفه أستاذنا أحمد أمين- أشبه شيء بألف ليلة وليلة ولكنها ليست ليالي للهو والطرب وكيد النساء ولعب الغرام، إنما هي ليالٍ للفلاسفة والمفكرين والأدباء1.
1 الإمتاع والمؤانسة: المقدّمة.