الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:
…
- 272هـ
إن اسمه الحقيقي أحمد بن داود بن ونند، وهو منسوب إلى دينور في فارس وكنيته أبو حنيفة، وهو من معاصري ابن قتيبة، والجاحظ، ويعتبر واحدًا من أعلام رواد الفكر الإسلامي والتأليف في المكتبة العربية. وإذا كانت كتبه من حيث الكم لم تصل إلى مثل كتب الجاحظ أو ابن قتيبة، فإنها من ناحية الكيف قد نالت شهرة واسعة ومكانة رفيعة لما اتسمت به من العمق والإفاضة والثراء وحسن التناول، فضلًا عن التنوع الذي يدل على عقلية خصبة جعلت صاحبها في مكانة تزاحم مكانة الجاحظ عند صفوة العلماء، لقد كان أبو حنيفة نحويًّا لغويًّا مهندسًا منجمًا رياضيًّا راوية مؤرخًا، وله كتب عديدة سوف نذكرها بعد قليل، ولكن يبدو أن أهمها وأكثرها قيمة هو كتاب النبات، فما يكاد مؤرخ يذكر اسم أبي حنيفة إلا ويردف أنه صاحب كتاب النبات.
وأبو حنيفة من العلماء المسلمين الذين افتتن بهم أبو حيان التوحيدي وزكاهم على بخل فيه بتزكية الرجال. إنه يسأل الزبيدي اللغوي الأندلسي، وهو في مجلس أبي سعيد السيرافي الرأي في بلاغة كل من الجاحظ وأبي حنيفة صاحب النبات ويطلب حكمه من ذلك فيعتذر اللغوي الكبير عن إبداء الرأي بحجة أنه ليس أهلًا للموازنة بينهما، وأنه أحقر من أن يحكم لهما أو عليهما، فيلح عليه أبو حيان طالبا حكمه فيقول الزبيدي، أبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس سهلة في السمع ولفظ أبي حنيفة أعذب وأغرب وأدخل في أساليب العرب1.
1 معجم الأدباء "1/ 27".
أما أبو حيان الضنين بأحكامه في تقريظ الرجال فإنه يقول في هذا المجال: والذي أقول وأعتقد وآخذ به وأستهم عليه1 أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر غير ثلاثة أو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، أحدهم أبو عثمان الجاحظ والثاني أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورواء وحكم وهذا كلامه في الأنواء يدل على حظ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك. فأما كتابه في النبات فكلامه فيه في عروض كلام آبدي بدوي، وعلى طباع أفصح عربي. وأما العالم الثالث الذي قصد إليه أبو حيان، فهو أبو زيد البلخي. والذي نستشفه أن كتاب النبات ليس كتابًا في علم النبات كما فهم بعض الدارسين الذين ترجموا لأبي حنيفة، وإنما هو كتاب في اللغة عرض فيه للنبات كموضوع من موضوعات اللغة والأدب وليس كعلم تجربة واستقصاء.
لقد كان أبو حنيفة ذا ذاكرة حافظة واعية مطواعة ترفده في التو والساعة. وإن له مع محمد بن يزيد المبرد عالم زمانه في اللغة والأدب نادرة طريفة تدل على قدر الرجل علمًا وحفظًا واستيعابًا، فقد ورد المبرد الدينوري زائرًا لعيسى بن ماها، فأول ما دخل عليه سأله عيسى عن الشاة المجثمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها، فأجاب المبرد: هي الشاة القليلة اللبن مثل اللجبة، فقال عيسى: هل من شاهد؟ فقال: نعم، قول الراجز.
لم يبق من آل الحميد نسمة
…
إلا عنيز لجبة مجثمه
ولم يكد المبرد ينتهي من إجابته حتى كان الحاجب يستأذن لأبي حنيفة، فلما دخل قال له عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المجثمة التي نهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثت على ركبها وذبحت من خلف قفاها. فقال: كيف تقول وهذا شيخ العراق -يعني المبرد- يقول: هي مثل اللجبة وهي القليلة اللبن وأنشده البيتين، فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة إن كان هذا التفسير سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان هذان البيتان إلا لساعتهما. فقال المبرد: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإني أنفت أن أرد عليك من العراق وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه.
تلك مقارعة بديهة مع شيخ عظيم هو المبرد صاحب التآليف الباهرة في الأدب واللغة والنحو، وصاحب واحد من أعظم كتب الأدب قيمة ووزنًا هو "الكامل" الذي يعتبره ابن خلدون واحدًا من أعظم أربعة كتب تعلم الأدب.
1 أستهم عليه يعني أراهن عليه.
فأما مؤلفات أبي حنيفة فقد ذكر له ياقوت الحموي تسعة عشر مؤلفًا في موضوعات متفرقة تدل على سعة محصول الرجل ونباهة شأنه واتساع أفق تخصصه، بحيث ألف في اللغة والأدب والتاريخ والحساب والجبر والبلدان والمنطق والفلك والتفسير. فمن كتب أبي حنيفة: الشعر والشعراء، الفصاحة، ما تلحن فيه العامة، النبات -الذي يقول عنه ياقوت إنه لم يصنف في معناه مثله- الأنواء، حساب الدور، البحث في حساب الهند، الجبر والمقابلة، نوادر الجبر، الجمع والتفريق، القبلة والزوال، الكسوف، البلدان، إصلاح المنطق، الأخبار الطوال، تفسير القرآن.
ولقد طبع له كتاب الأخبار الطوال الذي اهتم فيه بأخبار الأقدمين من عرب وعجم حتى عهد المعتصم، وبين يدينا مخطوطة للمجلد الخامس من كتابه: النبات.