الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:
213 - 276هـ
إن الذي يذكر الجاحظ وعلمه وفضله وكتبه لا يستطيع أن يقف عنده، بل لا بد له أن ينطلق مباشرة إلى عالم آخر من علماء العربية ومفكر من مفكري الإسلام ومؤلف واسع الباع عميق الإدراك متشعب الثقافة متنوع أسباب المعرفة، هو أبو محمد عبد الله بن مسلم المعروف بابن قتيبة الدينوري. وإنما يذكر ابن قتيبة إذا ذكر الجاحظ لأن الجاحظ كان مفكر المعتزلة وخطيبهم، وابن قتيبة خطيب أهل السنة ومفكرهم. ومن هنا قيل إن ابن قتيبة لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة.
وابن قتيبة لم يعمر طويلًا كما عمر الجاحظ وإنما كانت حياته ثلاثًا وستين سنة مليئة بالعلم والمعرفة والإنتاج، فقد ولد ببغداد سنة 213هـ إلا أنه سكن الكوفة بعض الوقت وتوفي ببغداد على أرجح الروايات سنة 276هـ. وإذا كان الجاحظ قد ألف خلال القرن الذي عاشه ثلاثمائة وستين كتابًا، فإن ابن قتيبة قد ألف ثلاثمائة كتاب1 أكثرها من المستوى الرفيع الذي تزدان به المكتبة العربية ويتشرف به الفكر الإسلامي.
لقد كان ابن قتيبة واسع العلم رحب الفكر ثقة دينًا فاضلًا، ولذلك فإن أهل المغرب قد تعصبوا للإمام مالك فقالوا: من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة يتهم بالزندقة؛ ذلك لأن كثرة من أعدائه وحاسديه قد نسبوا إليه أمورًا تنال من إيمانه ولم يكن الرجل من هذه التهم في شيء، الأمر الذي جعل المغاربة لا يتعصبون له وحسب بل يتبركون به ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيف ابن قتيبة لا خير فيه. ولعل السبب الأكبر في ذلك هو أن ابن قتيبة
1 مقدمة كتاب الشعر والشعراء "ص51".
قد ألف أكثر من كتاب عن القرآن والحديث يرد فيه على بعض انحرافات الفلاسفة وعلماء الكلام.
ومن الأمور التي تدعو إلى الإعجاب أن ابن قتيبة -على كثرة ما ألف ونفاسة ما كتب- لم يكن متفرغًا للكتابة والتأليف كل الوقت، بل إنه اشتغل بالقضاء فترة من حياته في مدينة دينور وهو من أجل ذلك قد لصق به لقب الدينوري.
لقد كان ابن قتيبة دائرة معارف بشخصه تمامًا كما كان الجاحظ الذي لا نستبعد أن يكون رآه، إذ إنه في السنة التي توفي فيها الجاحظ كان ابن قتيبة يناهز الأربعين عامًا. ومعنى ذلك أنه كان يقرأ للجاحظ وإن اختلف معه في جوهر التفكير الديني، ولكنهما من حيث طرق أبواب المعرفة والتأليف فيها نجد لكل منهما أثرًا علميًّا في الموضوع الواحد، فكلاهما كتب عن القرآن والقراءات وعن الحديث، وإن اختلف مفهوم كل منهما عن الآخر. وكلاهما ألف في الأدب والنقد والحيوان، وإن كان ابن قتيبة مال إلى التخصص فألف في الخيل وحدها دون بقية أنواع الحيوان. وكلاهما كتب أيضًا عن النبوة. وكلاهما أيضًا كتب عن النبات فلابن قتيبة كتاب بهذا الاسم، وللجاحظ كتاب باسم: النخل والزرع.
هذا وربما وجدنا لابن قتيبة كتبًا لم يطرق الجاحظ أبوابها مثل كتاب الأشربة أو كتاب الأنواء والجراثيم وحكم الأمثال والتقفية وغير ذلك.
على أننا لا نطلب من كل من العالمين الجليلين أن يكون كل واحد منهما في عناوين كتبه وموضوعاتها صورة من صاحبه، فإن واحدًا منهما والحال كذلك سوف يكون مقلدًا وسوف يكون الآخر أصيلًا. إلا أن واقع الحال هو أنه كان لكل من الجاحظ وابن قتيبة فكره المستقل الأصلي وموضوعاته التي تخصص فيها وقدم فيها الجديد من أسباب العلم والبكر من موضوعات المعرفة مع اختلاف شديد بين الطبيعتين والمذهبين.
وإذا كان ابن قتيبة يحاول في بعض كتبه أن يعمد إلى الإطراف والإضحاك فإنه لا يستطيع أن يصل في ذلك إلى ما وصل إليه الجاحظ؛ لأن الجاحظ فكه ساخر بطبعه أو بتعبير أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد أمين في ضحى الإسلام: الجاحظ مزاح خفيف الروح مهذار واسع العقل متصرف، وابن قتيبة صاحب جد، قاضٍ، عليه وقار القضاء، يمزح أحيانًا ولكن ليس له خفة روح الجاحظ1.
هذا وإذا كنا قد ذكرنا للجاحظ كتابًا أو أكثر للتسوية بين العرب والعجم فإن ابن قتيبة مع كونه غير عربي يكتب كتابين في التحمس للعرب والدفاع عنهم وإثبات فضلهم، الأول
1 ضحى الإسلام "1/ 402".
هو: الرد على الشعوبية، وهو مطبوع والثاني هو: فضل العرب على العجم وهو لا يزال مخطوطًا.
إن ابن قتيبة إذا كان قد ألف زهاء ثلاثمائة كتاب فإن له بين أيدينا أربعة عشر كتابًا مطبوعًا وثلاثين كتابًا مخطوطًا منتشرة في مختلف مكتبات العالم أورد أكثرها بروكلمان ومحقق كتاب الشعر والشعراء ومحقق أدب الكاتب.
على أننا قد نجد من الضروري أن نشير إلى كتب ابن قتيبة المطبوعة البالغ عددها أربعة عشر كما ذكرنا، وهي:
1-
عيون الأخبار.
2-
الشعر والشعراء.
3-
أدب الكاتب.
4-
المعارف.
5-
المعاني.
6-
تأويل مختلف الحديث.
7-
الإمامة والسياسة.
8-
الأشربة.
9-
الرد على الشعوبية.
10-
مشكل القرآن.
11-
الميسر والقداح.
12-
المسائل والأجوبة "في الحديث".
13-
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية.
14-
تفسير سورة النور.
عيون الأخبار:
هذا وأشهر كتب ابن قتيبة ذيوعًا وجريًا على ألسنة العلماء والمتأدبين هي الكتب السبعة الأولى، وقد تكون شهرتها وأهميتها تقع في نطاق الترتيب الذي أوردناها من خلاله.
فإذا ما استغرقنا بعض كتب ابن قتيبة من حيث موضوعاتها وإذا ما نظرنا في عيون الأخبار نجده قسمه إلى عشرة كتب أي عشرة موضوعات هي: كتاب السلطان وكتاب الحرب وكتاب السؤدد وكتاب الطبائع وكتاب العلم وكتاب الزهد وكتاب الإخوان وكتاب الحوائج وكتاب الطعام وكتاب النساء.
والحق أن كتاب عيون الأخبار من حيث منهجه ومحتواه يعتبر مثلًا أعلى لفن التأليف حتى عهد صاحبه، وهو بذلك يبز الجاحظ ويعلو عليه من حيث المنهج، فقد كان الجاحظ من قبله كثير الاستطراد، يبعد عن موضوعه بحيث ينقل القارئ نقلة واسعة ينسى معها الموضوع الذي كان يقرأه، وليس كذلك ابن قتيبة، بل إن ابن قتيبة يحس بهذا الامتياز في فنه ومنهجه فيقدم روح كتابه في مقدمة كتبها بنفسه يقول فيها:"قرنت الباب بشكله والخبر بمثله والكلمة بأختها ليسهل على المتعلم علمها وعلى الدارس حفظها". وهكذا يضع ابن قتيبة نفسه موضع العلم من قارئه والأستاذ من بين المؤلفين والمنشئين. وهو حين يقدم كتابه للقارئ يقول في موضع آخر من مقدمته: ولم أخله من نادرة طريفة وكلمة معجبة وأخرى مضحكة"1.
ومحتوى الكتاب يدل على سعة معرفة ابن قتيبة وسمو فكره وبراعة صوغه ووضوح أسلوبه ومنطق تسلسله، والكتاب متعة من متع الفكر العربي وحشد من المعرفة التي تخلق من قارئها إنسانًا متفتحًا مثقفًا؛ لأن ابن قتيبة متفتح العقل صافي الذهن مرتب الفكر متعدد الثقافات.
هذا ويرى بروكلمان استنتاجًا من مقدمة عيون الأخبار أن كتاب المعارف وكتاب الأشربة -لابن قتيبة- يعتبران بمثابة تكملة لعيون الأخبار، ونحن لا نذهب مذهبه، فلكل من الكتابين الأخيرين شخصيته ومنهجه وبراعة استهلاله وتمام اختتامه.
أدب الكاتب:
وإذا كان لنا أن نقدم كتابًا آخر لابن قتيبة فإن كتاب أدب الكاتب خليق بأن يكون ذلك الكتاب، فهو واحد من أربعة كتب ذكر ابن خلدون أن مشايخه وأساتذته جعلوها أصول فن التأديب، وما سواها تبع لها وفروع منها. وهذه الكتب الأربعة هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، والنوادر لأبي علي القالي.
وأدب الكاتب يختلف اختلافًا بينًا عن عيون الأخبار، فعيون الأخبار كتاب ثقافة رفيعة وإحاطة بأسباب المعرفة على تعدد موضوعاتها مستقاة من مختلف مظانها، وأما كتاب أدب الكاتب فهو تأديب للكتاب الذين ظنوا بأنفسهم العلم وهم جهلاء، وتعليم للخاملين المتطاولين الذين غفلوا عن حقيقة حالهم فنشروا على الناس جهلهم وحاولوا أن يتسلقوا إلى المراتب العليا من مراتب الفكر اغتصابًا ودون استعداد أو تحصيل أو تعلم.
1 مقدمة عيون الأخبار.
وقد أهدى ابن قتيبة كتابه إلى الوزير أبي الحسن عبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل، وكان ذلك سببًا في تقديم ابن قتيبة إلى المتوكل والاستعانة به في بعض الأعمال.
والواقع أن هدف ابن قتيبة من كتابه -على نحو ما بينا قبل قليل- هدف رفيع، فقد استهدف تعليم الجهال ممن يدعون العلم، وكشف المتطاولين على القيم الدينية، وهم أجهل الناس بمكانتها.
وعلى عادة ابن قتيبة يقدم في أكثر كتبه منهجه وهدفه، فلنقرأ له بعضًا ما وضح به هدفه هذا الرفيع1:
"..... فإني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين2: أما الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ3، ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين4 فالعلماء مغمورون وبكرة الجهل مقموعون5 حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البر6 وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارًا على صاحبه، والفضل نقصًا، وأموال الملوك وقفًا على شهوات النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع الخلق7 وآضت المروءات في زخارف النجد وتشييد البنيان8، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر
1 أدب الكاتب "ص1" وما بعدها.
2 "ناكبين" عادلين عنه، جمع ناكب، وهو العادل عن الشيء، وقيل للذي يعدل عن الشيء ناكب؛ لأنه يوليه منكبه، و "متطيرين" متشائمين لنفور طباعهم عنه، والطائر والتطير، الشؤم، وقوله "ولأهله كارهين" وقع في نسخة الجواليقي:"ولأهله هاجرين" والهاجر: القاطع.
3 الناشئ الحدث الشاب حين نشأ، أي: ابتدأ في الارتفاع عن حد الصبا إلى الإدراك والشادي: الذي قد شدا من العلم شيئًا، أي أخذ منه طرفًا وتعلمه، وعنفوان الشباب ريعانه وميعته، أي: أوله.
4 "المجدودين" -بالجيم- المحظوظين، من الجد -بفتح الجيم- وهو هنا الحظ والبخت، والمحدودين -بالحاء المهملة- المحرومين، وأصل الحد المنع ومنه قول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الإله له:
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وكأنهم لما منعوا الرزق والبسطة فيه قيل لهم: محدودون.
5 مغمورون: خاملون لا نباهة لذكرهم، وأصل الغمر التغطية، وكرة الجهل دولته، وفي نسخة "وبكثرة الجهل- إلخ""مقموعون" مقهورون مغلوبون، وأصل القمع الضرب بالمقمعة.
6 "خوى نجم الخير" أصل معنى "خوى النجم" خلا من المطر، أي: أخلف مطره الذي كان يرجى منه، ثم استعمل خوى النجم بمعنى سقط وأقل، ثم استعمل في معنى قلة الخير وسقوط الدولة و "كسدت سوق البر" أي: فسدت وبارت ولم ترج سلعها.
7-
الخلق: بفتحتين -البالي، سمى خلقًا لملاسته، ومن ذلك قولهم للصخرة الملساء خلقاء.
8 "آضت": صارت ورجعت، والزخارف: جمع زخرف، وأصله الذهب ثم قيل للحسن والزينة، والنجد، ما نضد من متاع البيت، وجمعه نجود، وتشييد البنيان: رفعه وإطالته.
ومعاطاة الندمان1 ونبذت الصنائع2، وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس، وزهد في لسان الصدق وعقد الملكوت3، فأبعد غايات كاتبنا في كتابه أن يكون حسن الخط قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتًا في مدح قينة4 أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئًا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء وحد المناطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وهو لا يدري من نقله، قد رضي عوضًا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف وفلان دقيق النظر يذهب إلى أن لطف النظر قد أخرجه عن جملة الناس وبلغ به علم ما جهلوه فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر5، وهو لعمر الله بهذه الصفات أولى، وهي به أليق؛ لأنه جهل وظن أنه قد علم
…
"فإني رأيت كثيرًا من كتاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة أو استوطئوا مركب العجز، وأعفوا أنفسم من كد النظر وقلوبهم من تعب التفكير، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة. ولعمري إن كان ذاك فأين النفس؟ وأين الأنفة من مجانسة البهائم؟ وأي موقف أخزى لصاحبه من موقف رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء لنفسه6 وارتضاه لسره، فقرأ عليه يومًا كتابًا وفي الكتاب "ومطرنا مطرًا كثر عن الكلأ" فقال
1 المزاهر: جمع مزهر، وهو العود، وسمي مزهرًا لحسن صوته، فإن الزهرة والغضارة -وهي النعمة والخير وسعة العيش- واصطفاق المزاهر: الضرب بها واجتلاب أصواتها، والندمان -بفتح النون- هو النديم مثل رحمن ورحيم وسلمان وسليم، وأصله يصاحبك على الشراب، ثم أطلق على كل مصاحب.
2 الصنائع: جمع صنيعة وهي الإحسان ونبذها: تركها والإعراض عنها.
3 لسان الصدق: الثناء الحسن قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [84 من سورة الشعراء] وقوله عقد الملكوت: العقد: مصدر عقدت الحبل عقدًا، أي شددته والملكوت: أصله الملك، والمعنى إن الرغبة قد قلت في طلب الثناء الحسن، وفي بلوغ مراتب الكمال لضعف همم الناس.
4 أبيات -بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء المثناة- تصغير أبيات التي هي جمع بيت، والقينة -بفتح فسكون- الأمة، مغنية كانت أو غير مغنية.
5 الرعاع: رذال الناس وضعفاؤهم، وهم الذين إذا فزعوا أطاروا، ويقال للنعامة رعاعة -بفتح الراء؛ لأنها دائمًا منخوبة فزعة، والغثاء -بضم الغين- ما يحمله السبيل من يابس الثبات، وأراد به السفلة، والغثر -بضم فسكون- جمع أغثر، وهو الأحمق، وقالوا للضبع غثراء؛ لأنها أحمق الدواب.
6 قال الجواليقي "والخليفة السائل عن الكلأ المعتصم، وكان أميًّا، وذلك؛ لأن الرشيد سمعه يقول وقد مات بعض الخدم: استراح من المكتب، فقال الرشيد: أو قد بلغت منك كراهة المكتب هذا؟!!! وأمر بإخراجه منه، والرجل الذي اصطفاه هو أحمد بن شاذي، ويكنى أبا العباس، وكان قد ولي العرض للمعتصم بعد الفضل بن مروان ولم يكن وزيرًا، إنما كان الفضل قد اصطنعه لنفسه، لثقته وصدقه، فلما نكب الفضل رد المعتصم الأمر إلى أحمد بن عمار، وكان محمد بن عبد الملك الزيات إذ ذاك يتولى قهرمة الدار، فورد كتاب على المعتصم من صاحب البريد بالجبل يصف فيه خصب السنة وفيه كثر الكلأ فقال المعتصم لأحمد بن عمار: ما الكلأ؟ فقال: لا أدري فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، خليفة أمي، وكاتب أمي؟!!! ثم قال: من يقرب منا من كتاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات فدعا به، فقال: ما الكلأ؟ قال: النبات كله رطبه ويابسه، ثم اندفع في صفات النبت من حين ابتدأته إلى اكتهاله إلى هيجه، فاستحسن المعتصم قوله، فقال: ليتقلد هذا العرض علي، ثم توثق مكانته منه حتى استوزره" أهـ.
له الخليفة ممتحنًا له: وما الكلأ؟ فترد في الجواب وتعثر لسانه، ثم قال: لا أدري، فقال: سل عنه.
ويمضي ابن قتيبة مستطردًا في شرح الغرض من كتابه قائلًا:
ونحن نستحب لمن قل عنا وائتم بكتبنا أن يؤدب نفسه قبل أن يؤدب لسانه ويهذب أخلاقه قبل أن يهذب ألفاظه، ويصون مروءته عن دناءة الغيبة، وصناعته عن شين الكذب، ويجانب -قبل مجانبته للنص وخطل القول- شنيع الكلام ورفث1 المزح: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولنا فيه أسوة- يمزح ولا يقول إلا حقًّا، ومازح عجوزًا فقال:" إن الجنة لا يدخلها عجوز 2 "، وكانت في علي عليه السلام دعابة، وكان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وسئل عن رجل، فقال: توفي البارحة، فلما رأى السائل قرأ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [42 من سورة الزمر] ومازح معاوية الأحنف بن قيس فما رئي مازحان أوقر منهما.
ويستطرد ابن قتيبة في موضع آخر من مقدمة كتابه قائلًا:
"ونستحب له أن يدع في كلامه التقعير والتقعيب3، كقول يحيى بن يعمر لرجل خاصمته امرأته عنده: "أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك، أنشأت تطلها وتضهلها" وكقول عيسى بن عمر ويوسف بن عمر بن هبيرة يضربه بالسياط:"والله إن كانت إلا أثيابًا في أسيفاط قبضها عشَّاروك"4.
1 "شنيع الكلام ورفث القول" هذا مفعول يجانب، أما قوله اللحن وخطل القول" فمفعول به للمصدر الذي هو مجانبة، والمعنى أنه يترك شنيع الكلام ورفث القول قبل أن يترك اللحن وخطل القول.
2 بكت هذه العجوز حين سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها إنك لست بعجوز يومئذ "وقرأ قول الله تعالى:{إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [35 و36 من سورة الواقعة] .
3 التقعير: الانتهاء إلى قعر الشيء، هذا أصله، وتقول "قعر الرجل" إذا روي فنظر فيما يغمض من الرأي حتى يستخرجه، كأنه إذا تكلم بكلام غريب عويص احتيج إلى إخراج معانيه كما يحتاج إلى إخراج ما في القعر، والتقعيب مثل التقعير ومعناه التعميق.
4 "عيسى بن عمر" ثقفي من أهل البصرة، من متقدمي النحاة، عنه أخذ الخليل بن أحمد، وهو صاحب كتابي: الإكمال والجامع، وكان صاحب تقعير في كلامه واستعمال للغريب فيه ويوسف بن عمر، هو أبو عبد الله يوسف بن عمر بن هبيرة الثقفي ابن أخي الحجاج بن يوسف، ولي اليمن لهشام بن عبد الملك، ثم ولاه العراق ومحاسبة خالد بن عبد الله القسري، وأثياب تصغير أثواب الذي هو جمع ثوب و "أسيفاط" تصغير أسفاط وهو جمع سفط، وهو -بفتحتين- يشبه القفة والعشارون: جمع عشار وهو الذي يأخذ من القوم عشر أموالهم، وهو عامل الزكاة.
"فهذا وأشباهه" كان يستثقل والأدب غض والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم، ويرونه تلو المقدار في درك ما يطلبون وبلوغ ما يؤملون فكيف به اليوم مع انقلاب الحال، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون"؟؟
ونستحب له -إن استطاع- أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب، ليسلم من اللحن وقباحة التقعير، فقد كان واصل بن عطاء سام نفسه للثغة كانت به إخراج الراء من كلامه، وكانت لثغته على الراء، فلم يزل يروضها حتى انقادت له طباعه وأطاعه لسانه، فكان لا يتكلم في مجلس التناظر بكلمة فيها راء هذا أشد وأعسر مطلبًا مما أردناه".
تلك كانت نماذج من مقدمة كتاب أدب الكاتب: والمقدمة طويلة نفيسة شيقة.
وأما محتوى الكتاب فقد قسمه ابن قتيبة حسبما عودنا إلى أربعة كتب أي أربعة أقسام هي: كتاب المعرفة، وكتاب تقويم اليد، وكتاب تقويم اللسان، وكتاب الأبنية.
وهو في كتاب المعرفة يحاول أن يفقه القارئ الذي ينشد أن يكون كاتبًا ثقافة عامة، ويجعل من هذا الكتاب أبوابًا مثل باب ما يضعه الناس في غير موضعه، أو باب أصول أسماء الناس ويفرغ من ذلك إلى "المسمون بأسماء النبات" أو "المسمون بأسماء الطير" أو "المسمون بأسماء السباع" وهكذا، ويذكر في كتاب المعرفة أيضًا، أي القسم الأول من كتاب أدب الكاتب، بابًا للنخل ويذكر بابًا لعيوب الخيل وآخر لشيات الخيل وغيره لألوان الخيل، ويذكر أبوابًا للتعريف بألوان الطعام والشراب وغير ذلك شيئًا كثيرًا وفيرًا.
فمثلًا في باب ما يضعه الناس في غير موضعه يقول: ومن ذلك الطرب يذهب الناس إلى أنه في الفرح دون الجزع وليس كذلك، إنما الطرب خفة تصيب الرجل لشدة السرور، أو لشدة الجزع، ثم يوثق ابن قتيبة رأيه بشاهد من قول الأقدمين فيجيء بقول النابغة الجعدي:
وأراني طرِبًا في إثرهم
…
طرب الواله كالمختبل
وقال آخر:
يقلن لقد بكيت فقلت كلا
…
وهل يبكي من الطرب الجليد
ويأتي ابن قتيبة بمثال آخر في الباب نفسه -باب ما يضعه الناس في غير موضعه- فمن ذلك "القافلة" يذهب الناس إلى أنها الرفقة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة، وليس كذلك إنما القافلة الراجعة من السفر، يقال قفلت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم أي رجعوا ولا يقال لمن خرج إلى مكة من العراق -مثلًا- قافلة حتى يصدروا أي يعودوا.
1 أدب الكاتب "ص20".
ومن ذلك "المأثم" يذهب الناس إلى أنه المصيبة، ويقولون كنا في مأتم وليس كذلك إنما المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر والجمع مآتم، والصواب أن يقولوا كنا في مناحة، وإنما قيل لها مناحة من النوائح لتقابلهن عند البكاء، يقال الجبلان يتناوحان، إذا تقابلا، وكذلك الشجر. ويأتي ابن قتيبة بالشاهد من شعر العرب فيأتي بذكر أبي عطاء السندي:
عشية قام النائحات وشققت
…
جيوب بأيدي مأتم وخدود
أي بأيد نساء، أو قول الآخر وهو أبو حية النميري:
رمته أناة من ربيعة عامر
…
نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم1
ومن ذلك "الظل والفيء" يذهب الناس إلى أنهما شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن الظل يكون غدوة وعشية ومن أول النهار إلى آخره. والفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ولا يقال لما قبل الزوال فيء. وإنما سمي بالعشي فيئًا؛ لأنه ظل فاء من جانب إلى جانب أي رجع عن جانب المغرب إلى جانب المشرق. ويستشهد ابن قتيبة بالآية الكريمة: حتى تفيء إلى أمر الله، أي ترجع إلى أمر الله، ويردف بمجموعة من أبيات الشعراء الجاهليين والإسلاميين كشواهد موثقة لقوله.
وفي باب آخر من أبواب الكتاب تقع العين على أصول أسماء الناس، فالذين يسمون بأسماء النبات منهم:
ثمامة: واحدة الثمام وهي شجر ضعيف له حوض أو شبيه بالحوض.
طلحة: واحدة الطلح وهي شجر عظام من العضاه.
علقمة: واحدة العلقم، وهو الحنظل.
وفي باب "المسمون بأسماء السباع" نجده يذكر:
حيدرة: الأسد، ومنه قول علي كرم الله وجهه:"أنا الذي سمتني أمي حيدرة".
أسامة: الأسد.
نهشل: الذئب.
ذؤالة: الذئب.
كلثوم: الفيل.
1 أدب الكاتب "ص13".
ومن الأبواب الطريفة في هذا القسم نفسه الذي أسماه ابن قتيبة كتاب المعرفة تقع العين على "باب ذكور ما شهر من الإناث" فنجده يأتي بالأسماء الآتية:
الخرب: "بفتح الخاء والراء" هو ذكر الحبارى.
الفياد: ذكر البوم.
اليعسوب: ذكر النحل.
الحرباء: ذكر أم حبين.
الضبعان: "بتشديد الضاد وكسرها" ذكر الضباع.
الغيلم: ذكر السلاحف.
العلجوم: "بضم العين" ذكر الضفادع.
وإذا انتقلنا إلى "كتاب تقويم البدء" وهو القسم الثاني من أدب الكاتب، وجدناه دروسًا دقيقة في علم النحو مثل باب ألف الوصل في الأسماء، أو باب دخول ألف الاستفهام على ألف الوصل، أو باب دخول ألف الاستفهام على ألف القطع، وأكثر الأبواب هنا في الفصل والوصل والاستفهام والتذكير والتأنيث.
والكتاب الثالث -أي القسم الثالث- هو "كتاب تقويم اللسان" ويتصل بتقارب الحروف ومخارجها وحركاتها مثل ما جاء ساكنًا والعامة تحركه، أو ما جاء محركًا والعامة تسكنه، أو ما جاء بالصاد وهم يقولونه بالسين، أو ما جاء مكسورًا والعامة تضمه.
وأما الباب الرابع والأخير وهو ما أسماه ابن قتيبة باب الأبنية فهو خاص بالصرف وفقه اللغة وتطبيق واسع ثري عميق على أبنية الأفعال وأبنية الأسماء من صيغ واشتقاقات.
ومجمل القول في كتاب أدب الكاتب أنه كما قال ابن خلدون: واحد من الأصول الأربعة في تعليم الخاصة وما عداها فتبع لها وروفع منها.
هذا ولنا حديث مع كتاب الشعر والشعراء يأتي في مكانه عند الحديث عن كتب طبقات الشعراء.