الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآباء عن الأبناء، كتاب الرواة عن مالك بن أنس، كتاب الاحتجاج للشافعي فيما أسند إليه والرد على الجاهلين بطعنهم عليه.
منهج كتاب تاريخ بغداد:
إنه بيت القصيد في هذا الفصل وإنما -كعادتنا- وكنهج علمي سليم نجد من الضرورة بمكان التعريف بالمؤلف تعريفًا سريعًا حتى يسبر قارئ كتبه غوره، ويلم بأطراف علمه وطبيعة ثقافته، وإن المؤرخين وكتاب التراجم والطبقات حين يترجمون للخطيب البغدادي يقولون: لو لم يكن له إلا "التاريخ" -يعني تاريخ بغداد- لكفى، فلنعرض إذن لمنهج الكتاب وطبيعته على النسق الذي تعودنا السير عليه والنهج الذي اخترناه لأنفسنا مسلكًا أقرب إلى اليسر للإلمام بالكتاب والإبانة عن مزاياه والإشارة إلى ما فاته فيما إذا كان قد فاته شيء ذو بال.
أولًا: لخص المؤلف منهجه لكتابه الطويل -أول الأمر- في سطور قصيرة موجزة غير مطولة، مجملة غير مفصلة وذلك في قوله:
"هذا كتاب تاريخ مدينة السلام وخبر بنائها، وذكر كبراء نزالها، وذكر وارديها وتسمية علمائها. ذكرت من ذلك ما بلغني علمه وانتهت إلي معرفته، مستعينًا على ما يعرض من جميع الأمور بالله الكريم، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال: سمعت عمر بن أحمد بن عثمان يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا1.
كان ذلك هو منهج الخطيب في تأليفه كتابه الكبير: تاريخ المدينة لفضلها وخبر ساكنيها والوافدين عليها من العلماء في منهج من أدق المناهج، وهو منهج أهل الحديث في تحقيق الأخبار قبل روايتها، وقد مر بنا القول إن المؤلف كان كبير محدثي عصره، وإنه كان حجة في التمييز بين الصحيح، والمدلس من الأخبار.
ثانيًا: أفرد المؤلف فصلًا غير قصير تحدث فيه عن بغداد منذ أن كانت أرضًا من أراضي السواد، ثم فكرة المنصور العباسي في بنائها. ومن الحديث، عن السواد ينطلق إلى الحديث، عن فتح العراق، وفارس أيام الخليفة عمر بن الخطاب، ثم يورد مناقب أهل بغداد وظروفهم معرضًا بالأحاديث المدلسة التي رويت في الطعن على أهاليها.
ويدفع به حديث تاريخ بغداد إلى الكلام على أبي جعفر المنصور بانيها ومنشئها
1 تاريخ بغداد "1/ 3، 4".
وتخطيط المدينة وبناء الكرخ والرصافة وبعض القصور مثل قصر الخلد والقصر الحسني والتاج ودار الخلافة، وأنهار بغداد وجسورها في شيء غير كثير من التفصيل.
ثانيًا: يبدأ المؤلف في الترجمة للأعلام أو الأعيان الذين سلفت الإشارة إلى صفاتهم فيجعل ذكر المدائن وتسمية من وردها من الصحابة منطلقًا لترجماته، فيرتب الصحابة على حسب درجاتهم بادئًا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب جاعلًا له الترجمة الأولى، ثم يثني بالترجمة للحسن بن علي، ويثلث بأخيه الحسين، ثم يجعل القائد الفاتح سعد بن أبي وقاص صاحب الترجمة الرابعة، ومن بعده عبد الله بن مسعود ثم عمار بن ياسر ثم أبا أيوب الأنصاري، وهكذا يمضي في الترجمة للصحابة الذين وردوا المدائن -وهي في قلب العراق الذي أصبحت بغداد عاصمة له -الواحد بعد الآخر حتى يكملهم خمسين عدًّا بعبد الله بن الحارث بن ببة.
رابعًا: فإذا انتهى الخطيب البغدادي من ذكر الصحابة الذين وردوا المدائن، وقد قرن أخبارهم بالفصل التاريخي الخاص بمدينة السلام يقول: "لم تخل بلد المدائن فيما مضى من أهل الفضل، وقد كان به جماعة ممن يذكر بالعلم فبدأنا بذكر الصحابة مفردًا عمن سواهم، وأما التابعون ومن بعدهم، فإنا سنورد أسماءهم في جملة البغداديين عند وصولنا إلى ذكر كل واحد منهم إن شاء الله تعالى1.
ويمضي صاحب "التاريخ" في سرد من سوف يتناول ترجمتهم في كتابه الكبير البالغ أربعة عشر مجلدًا، فيذكر أنهم "الخلفاء والأشراف والكبراء والقضاة والفقهاء والمحدثون والقراء والزهاد والصلحاء والمتأدبون والشعراء من أهل مدينة السلام الذين ولدوا فيها أو في سواها من البلدان ونزلوها، وذكر من انتقل منهم عنها ومات ببلدة غيرها، ومن كان بالنواحي القريبة منها، ومن قدمها من غير أهلها، وما انتهى إلى معرفة كناهم وأنسابهم ومشهور مآثرهم وأحسابهم ومستحسن أخبارهم ومبلغ أعمارهم، وتاريخ وفاتهم، وبيان حالاتهم، وما حفظ فيهم من الألفاظ وعن أسلاف أئمتنا الحفاظ من ثناء ومدح، وذم وقدح، وقبول وطرح، وتعديل وجرح. جمعت ذلك كله وألفته أبوابًا مرتبة على نسق المعجم من أوائل أسمائهم، وبدأت منهم بذكر من اسمه محمد تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتبعته بذكر من ابتدأ اسمه حرف الألف وثنيت بحرف الباء ثم ما بعدها من الحروف على ترتيبها إلى آخرها ليسهل إدراك ذلك على طالبيه وتقرب معرفته من مبتغيه، فإني رأيت الكتاب الكثير الإفادة، المحكم الإجادة، ربما أريد منه الشيء فيعمد من يريده إلى إخراجه فيغمض عن موضعه، ويذهب
1 تاريخ بغداد "1/ 212".
بطلب زمانه، فيتركه وبه حاجة إليه وافتقار إلى وجوده"2.
وهكذا أبان العالم الجليل عن منهجه في إيراد تراجمه إبانة دقيقة، وكأنما قد كابد ما يكابده كل باحث -حتى نحن المحدثين- حين يريد الرجوع إلى موضوع بعينه في متاهات كتب التاريخ والطبقات والآداب والعلوم والتراجم، وقد أغنانا عن مزيد من التفصيل إلا في القليل.
وقد كان الخطيب صاحب فضل بين أصحاب التراجم حين استن سنة البداية بالترجمة للمحمدين من الأعلام تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعه في ذلك كثيرون من أصحاب التراجم الذين جاءوا من بعده وفي مقدمتهم صلاح الدين الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" الذي سنقف معه وقفة غير قصيرة.
خامسًا: احتوى تاريخ بغداد على "7831" سبعة آلاف وثمانمائة وإحدى وثلاثين ترجمة على مسرى المجلدات الأربعة عشر، عدد المحمدين فيه ألف وخمسمائة وتسع وسبعون ترجمة ابتداء بمحمد بن إسحاق صاحب السيرة وانتهاء بمحمد بن ياسر أبي عبد الله البزار، وقد استغرقت تراجم المحمدين هؤلاء مجلدين ونصف مجلد من الكتاب هي نصف الأول والمجلدان الثاني والثالث بأكملهما. يضاف إليها ثلاثمائة وست عشرة ترجمة لمحمدين آخرين عاد إلى ترجمتهم فغطى بهم النصف الثاني من المجلد الخامس لسبب غير واضح، إذ كان المنهج الأمثل أن يأتي بهم جميعًا متصلين متلاحقين.
إن عدد المحمدين المترجم لهم في الكتاب إجمالًا يبلغ والحال كذلك ألفًا وثمانمائة وخمسًا وتسعين ترجمة تستغرق -حسبما ذكرنا- مجلدات ثلاثة كاملة هي نصف الأول والمجلدات الثاني والثالث ونصف المجلد الخامس، وهو الفريق الأخير من المحمدين الذين وردت ترجمتهم في المجلد الخامس تبدأ أسماؤهم بمحمد بن حنيفة القصبي وتنتهي بمحمد بن عبد الله بن عبيد الله أبي الحسين المقرئ المؤدب.
سادسًا: بعد أن ينتهي الخطيب البغدادي من ذكر العدد الوفير من المحمدين أو بالأحرى الدفعة الكبرى من المحمدين في المجلدات الثلاثة الأولى يثني بالترجمة لأعلام "الأحمدين" بادئًا بأحمد بن أحمد بن محمد بن عبيد الله الطالقاني ورقم ترجمته "1580" ألف وخمسمائة وثمانون، وانتهاء بأحمد بن العباس المؤدب الصوفي ورقم ترجمته "2713" ألفان وسبعمائة وثلاثة عشر، فيكون عدد الأحمدين الذين أورد الخطيب ترجمتهم ألفًا ومائة وثلاثا وثلاثين ترجمة شملت المجلد الرابع جميعه ونصف المجلد الخامس.
1 تاريخ بغداد "1/ 212، 213".
سابعًا: ينتقل المؤلف رأسًا من الترجمة للأحمدين إلى الترجمة للأعلام من "الإبراهيميين" مسقطًا عددًا كبيرًا من الأعلام الذين تضعهم طبيعة التكوين الأبجدي لأسمائهم قبل إبراهيم مثل أبان وغيره، وهو بذلك قد فضل أن يترجم لمن تتفق أسماؤهم مع أسماء الأنبياء من الأعلام، ويتبع ترجمة الأعلام من مادة إبراهيم بالأعلام من مادة إسماعيل، ثم إسحاق.
فإذا كان المجلد السابع فإنه يبدأه بالترجمة لمن اسم الواحد منهم "أيوب" ويتبعه بالأدارسة، ويتبع الأدارسة بمن اسمه "أسد" وبذلك يكون قد شذ عن القاعدة التي اختطها لنفسه بالابتداء بذكر من طابقت أسماؤهم أسماء الأنبياء.
غير أنه لا يلبث أن يعود إلى أسماء الأنبياء في حرف الهمزة مترجمًا لمن كانت أسماؤهم "إسرائيل" ثم "آدم". وبعد ذلك يمضي في حرف الهمزة غير مرتبط بالترتيب الهجائي للحرف الذي يليها في بنية اسم العلم، فيترجم لمن اسمه "أصرم" ثم "أسود" ثم "أشعب" ثم "أبان" ثم "أشجع" ثم "أسباط" ثم "أسيد" ثم "أزاد" ثم "أنس" ثم "أنيس" ثم "أحيد" ثم "الأحوص" ثم "أسامة" ثم "أزهر"1.
وإذا ما انتقلنا إلى حرف الحاء مثلًا وجدناه يبدأ بمن اسمه "حسن" ثم لا يكاد ينتهي من الحسنين حتى يترجم لمن يحملون اسم الحسين، وكلا الاسمين من الوفرة بمكان، وأغلب ظننا أنه بدأ حرف الحاء بالحسنين تبركًا بهما تبركه باستفتاح الكتاب بالتراجم لمن يتشرفون بحمل اسم جدهما عليه الصلاة والسلام.
ولكننا لا نلبث أن نعود إلى نقطة عدم الالتزام بالترتيب الهجائي لبنية الاسم باستثناء الحرف الأول منه وهو الحاء، ذلك أنه بعد الحسين يذكر أسماء "حماد" ثم "حميد" ثم "حامد" ثم "حمدان" ثم "حمدون" ثم "حمزة" ثم "حفص" ثم "الحارث" ثم "الحكم" وهكذا يبدو أن الرجل لا يلتزم من الترتيب الهجائي غير الحرف الأول من الاسم الأول، الأمر الذي يعرض الباحث عن عين من الأعيان أو علم من الأعلام إلى مشقة كبيرة في البحث عنه من خلال الحرف الأول من اسمه.
ثامنًا: هناك ملاحظة قد تيسر للباحث أمر بحثه للوصول إلى الكشف عن العلم الذي يبحث عنه، إذا كان هذا العلم يحمل اسم نبي من الأنبياء، فحرف السين مثلًا يبدأ بمن اسمه "سليمان"2 وحرف الميم يبدأ بمن اسمه "موسى" وحرف الهاء يبدأ بـ"هارون" وحرف الياء
1 راجع تراجم المجلد السابع.
2 راجع تراجم المجلد التاسع.
يبدأ بـ"يحيى" ثم "يعقوب" ثم "يونس" ثم يشذ عن القاعدة، فيذكر "يزيد" ثم يعود مرة ثانية إليها فيذكر "يونس"، ثم ينطلق في ذكر بقية الأسماء التي تبدأ بحرف الياء على غير ترتيب.
ومما ييسر على الباحث أيضًا أمره في الأسماء المعبدة، أن المؤلف يبدأ بالعبادلة "من اسمه عبد الله" وهم كثيرون "402 من الأسماء" ثم يثني بعباد الرحمن، ثم بمن اسمهم "عبيد الله" ثم "عبد الملك" ثم "عبد العزيز" ثم "عبد الواحد" ثم "عبد الوهاب" ثم "عبد الصمد" ثم "عبد السلام" ثم "عبد الأعلى" ثم "عبد الكريم" ثم "عبد الرحيم" ثم "عبد الباقي" ثم "عبد الرازي" ثم من اسمه "عبيد" ثم "عبادة" ثم "عبد الجبار" ثم "عبدوس" ثم "عبد الغفار" ثم "عبيدة" ثم "عبد المؤمن" ويمضي بنا المؤلف في ذكر ترجمة بقية ما عبد من الأسماء في غير ما نهج واضح أو غرض ظاهر.
ولكنه لا يكاد ينتهي من ذكر المعبدة من الأسماء، حتى ينتقل إلى ذكر من اسمهم "عيسى" والأمر يبدو والحال كذلك أنه من باب التبرك بسيدنا عيسى عليه السلام على اعتبار أنه رسول كريم، وعبد عزيز من عباد الله الكرام.
وتكريم الأسماء يبقى ماثلًا في ذهن المؤلف إذ إنه يتبع ذكر تراجم من اسمهم "عيسى" بمن تماثل أسماؤهم أسماء الخلفاء الراشدين: عمر -وهو كثير جدًّا- ثم عثمان ثم علي وهو أوفر كثرة.
ويتبع ترجمة "العليين" بمن اسمه "عباس" ثم "عمرو" ثم "عامر" ثم "العلاء" ثم "عاصم" ثم "عمار" ثم "عكرمة" ثم "عقبة" ثم "عمران"، ويمضي المؤلف بعد ذلك في ذكر من بدأت أسماؤهم بالعين في غير ما التزم لطبيعة الترتيب الهجائي لحروف الاسم بعد أن استوفى غرضه من تقديم من رأى أنهم أهل للتقديم.
تاسعًا: يعقد الخطيب البغدادي في القسم الأخير من المجلد الرابع عشر من كتابه فصلين متميزين، أحدهما لمن عرف بكنيته دون اسمه، إذ إن كثيرًا من الأعلام عرفوا بكناهم دون أن تعرف أسماؤهم، أو أن تكوين اسم الواحد منهم كنية في حد ذاته، كأن يكون اسمه "أبو إبراهيم" أو "أبو اليزيد" أو "أبو العينين" وهذا شائع في كثير من البلدان العربية وبخاصة مصر. وأول من ترجم لهم الخطيب البغدادي في باب الكنى أبو المؤمن الوائلي "ترجمة رقم 7689" وآخرهم أبو بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد المازني "ترجمة رقم 7799" فيكون عدد الأسماء التي ترجم لها بالكنى مائة اسم وعشرة أسماء.
وأما الفصل الخاص الثاني الذي أشرنا إليه فقد جعله المؤلف للنساء من أهل بغداد اللائي ذكرن بالفضل، ورواية العلم وعددهن إحدى وثلاثون من فضليات النساء وشهيراتهن.
أولاهن: الخيزران زوجة المهدي "ترجمة رقم 7800" وآخرهن: خديجة بنت محمد بن علي
الواعظة المعروفة بالشاهجانية.
وكتاب تاريخ بغداد واحد من أنفس وأدق وأصدق كتب التراجم بصفة عامة وتراجم أبناء البلد الواحد بصفة خاصة. والمؤلف بحكم شهرته بالرواية، ومعرفته بالشعر وتبحره بالأدب يرصع تراجمه العديدة التي بلغت سبعة الآف وثمانمائة وإحدى وثلاثين ترجمة بالخبر الأدبي الطريف والنص الشعري الأنيق، والعبارة البارعة والصوغ الأنيق الذي جعل الكتاب لازمًا لكل متأدب ضروريًّا لكل مؤرخ، على الرغم مما في منهج ترتيب تراجمه من صعاب سبقت الإشارة إليها.