الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:
إنه من الفائدة بمكان أن نعرض لذكر كتب الطبقات التي ترجمت للشعراء على أساس منهجي متخصص، سواء أكان ذلك على أساس الفترة الزمانية، أو البقعة المكانية، أو التجميع لشعراء يحملون اسمًا واحدًا كمحمد أو عمرو بعد أن قدمنا أصحاب الطبقات الذين حشدوا أكبر عدد من الشعراء في كتبهم- وإن يهملوا جانب التسلسل التاريخي -وهم ابن سلام المتوفى سنة 232هـ في كتابه "طبقات الشعراء" وابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ في كتابه "الشعر والشعراء" ونضيف إليهم مصنفًا ثالثًا، هو محمد بن عمران بن عبد الله المرزباني المتوفى 384هـ في كتابه "معجم الشعراء"، وبهذه المناسبة فإن المرزباني يقارب كلا من ابن قتيبة والجاحظ غزارة علم وسعة أفق وتعدد معرفة ووفرة تأليف. وقد قالوا عنه إنه جاحظ زمانه، غير أنه مختلف تمامًا عن الجاحظ وابن قتيبة في السلوك، فقد كان كل من الجاحظ وابن قتيبة متحفظين سلوكًا متمسكين دينًا، وأما المرزباني فكان يضع أمامه المحبرة وقنينة النبيذ يكتب ويشرب حسبما مر القول إبان الحديث عن شخصيته العلمية.
نعود إلى طبقة المتخصصين من أصحاب طبقات الشعراء ونحاول أن نرتبهم تاريخيًّا وأن نعرف بمن لم نعرف به منهم بعد.
1-
هارون بن يحيى المنجم 251-288هـ صاحب كتاب "البارع" وكتابه يعتبر أو لكتب الطبقات التي اختصت بفترة زمانية بعينها، فقد مر بنا أنه ابتدأه ببشار بن برد واختتمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، وجملة من ترجم له مائة وواحد وستون شاعرًا، وقد كان الكتاب معروفًا لكثير من أصحاب كتب التراجم، ورآه ابن خلكان ووصفه وصفًا مفصلًا، ومن نظرة إلى تاريخ ولادة هارون ووفاته نلحظ أنه مات شابًّا في السابعة والثلاثين، ومع ذلك فكتابه يعتبر أساس كتب التراجم ذات الطابع المتخصص.
2-
عبد الله بن المعتز 247-296هـ وقد مر الحديث عنه، وعن كتابه طبقات الشعراء بما فيه الكفاية.
3-
محمد بن داود الجراح 243-296هـ وكان صديقًا لابن المعتز ووزيره خلال اليوم الذي ولي فيه العرش على ما مر بنا قبل قليل، وله كتابان في الطبقات لكل منهما صبغة تخصص بعينه، فأما كتابه الأول، فهو في "من اسمه عمرو من الشعراء" والتخصص هنا يقع في نطاق الاسم دون الزمانية أو المكانية أو الموضوعية، والكتاب محقق ومعد للطباعة حسبما مر بنا قبل قليل، وأما الكتاب الثاني لابن الجراح، فهو كتاب "الورقة" وقد حققه أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام والأستاذ عبد الستار فراج، وهو بين أيدي القارئين، وقد ضم ترجمة لثلاثة وستين شاعرًا وشاعرة، كلهم ممن اتصلوا ببني العباس، بينهم عدد من مخضرمي الدولتين، غير أن الكتاب صغير الحجم مختصر الترجمات، وإن كان ذلك لا يحط من قدره، فكثير مما به من الأخبار والأشعار قد انفرد بها مثلما فعل ابن المعتز.
4-
عبد الملك بن محمد الثعالبي 350-429هـ صاحب يتيمة الدهر وواحد وعشرين كتابًا آخر من رفيع المعرفة لغة وأدبًا وتاريخًا وفنًّا كلها مطبوعة سبقت الإشارة إليها فضلًا عن عدد آخر من الكتب المخطوطة يناهز الثمانية. واليتيمة تعتبر أولى طبقات الشعراء ذات الصفة الموسوعية، وإن كان ابن خلكان جعلها هي وغيرها من الكتب الجليلة التالي ذكرها فروعًا من كتاب "البارع" الذي مر ذكره.
على أن كتاب اليتيمة قد قارب حد الشمول في ترجمته لشعراء القرن الرابع، جاعلًا لكل مصر من الأمصار الإسلامية قسمًا من كتابه، مبتدئًا من بلاد الجبل وما وراء النهر شرقًا، مارًّا بالعراق العجمي، والعراق العربي، والشام والجزيرة، ومصر وإفريقية، والأندلس مطيلًا مسهبًا عند من ينبغي الوقوف والإطالة عندهم مثل المتنبي وابن العميد، والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي، وأبي فراس وغيرهم من صفوة شعراء العربية في القرن الرابع غير أنه يختصر في بعض الأحيان ويغفل بعض الأعيان، كما فعل حين لم يشر إلى الصنوبري شاعر الطبيعة الأول وإمام مدرستها في الشعر العربي. هذا ولا تزال اليتيمة بأقسامها الأربعة الثمينة، العمدة لكل من يرغب في تثقيف نفسه في أدبنا في القرن الرابع الهجري وقد أعجب بها الأدباء والباحثون والشعراء قديمًا وحديثًا مما جعل أبا الفتوح بن قلاقس الإسكندري يقول فيها:
أبيات شعر اليتيمة
…
أبكار أفكار قديمة
ماتوا وعاشت بعدهم
…
فلذاك سميت اليتيمة
5-
علي بن الحسن الباخرزي المتوفى 467هـ صاحب "دمية القصر وزهرة أهل العصر" ونلاحظ أن التسمية من حيث الصياغة جاءت على وزن "يتيمة الدهر" وإن كانت مركبة من سجعتين مما يوحي بأن مؤلفها قد جعلها امتدادًا أو ذيلًا ليتيمة الدهر.
والباخرزي -شأنه في ذلك شأن الثعالبي النيسابوري- لم يكن مجرد مؤلف لكتاب طبقاته، ولكنه كان شاعرًا أديبًا كاتبًا محدثًا فقيهًا، فقد كان ملازمًا للشيخ أبي محمد الجويني، والد إمام الحرمين الجويني. وللباخرزي مشاركة وافرة في قول الشعر، ويذكر ابن خلكان أن شعره مجلد كبير تغلب عليه الجودة والمعاني الغريبة. وفي الحق أن شعره صورة دقيقة لشعراء عصره الذين أوغلوا في الصنعة إيغالًا شديدًا ولكنه مع ذلك لم يخل من طرافة مثال ذلك قوله في شدة البرد:
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا
…
فغدا لسكان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها
…
تختار حر النار والسفودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا
…
عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما
…
حرك لنا عودًا وحرق عودا
ونحن نلاحظ، فضلًا عن طرافة المعاني، التلاعب بالألفاظ من جناس بين "عقيق وعقود" و "حرك وحرق"، كما نلاحظ أيضًا اللف والنشر في البيت الأخير.
فإذا كان لنا أن ننعطف إلى الحديث ثانية عن "دمية القصر" فهي واحدة من حلقات سلسلة الطبقات بعد حلقة "يتيمة الدهر".
وقد ذكر ابن خلكان أن أبا الحسن علي بن زيد البيهقي، قد وضع كتابًا يعتبر ذيلًا للدمية أسماه "وشاح الدمية" وإن كان هذا الكتاب، الذي نعتقد أنه من الفائدة بمكان، لم يصل إلينا لسوء الحظ.
6-
سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الوراق الحظيري الملقب بأبي المعالي المعروف بدلال الكتب المتوفى سنة 568هـ صاحب "زينة الدهر وعصرة أهل العصر وذكر ألطاف شعر العصر" ولعلنا نلاحظ هنا أيضًا أن اسم الكتاب طويل نوعًا، ويتكون من ثلاث سجعات، ومن ثم كان اختصاره أمرًا مطلوبًا لدى جمهور الأدباء فأطلقوا عليه جزءًا منه فقال "زينة العصر".
وزينة الدهر تعتبر ذيلًا على دمية القصر للباخرزي، أو بالتعبير السوي هي حلقة ثمينة في السلسلة العظيمة لكتب طبقات الشعراء المخصصة في عصر بذاته.
ولعلنا نلاحظ أن قرنًا كاملًا من الزمان يشكل الفارق بين الباخرزي، والحظيري، ومن
هنا كانت مادة الحظيري في "زينة الدهر" تمثل التخصص الزمني في قرن بذاته بدأ من حيث انتهى الباخرزي وانتهى قبيل وفاة المؤلف.
والحظيري عاش ومات في أطراف بغداد في موضع يقال له الحظيرة، وكان أديبًا شاعرًا، وله ديوان شعر، ذكر ابن خلكان أطرافًا منه بدت سقيمة في نظري رغم إعجابه بها؛ ربما لأن اختيارها كان في فن من فنون الغزل الذي ترفضه الأذواق وتنكره الأخلاق.
غير أن الطريف في أمر الحظيري أنه كان وراقًا ودلال كتب، ومع ذلك قدم لأدبنا عدة مؤلفات غير "الزينة" منها "لمح الملح" و "الإعجاز في الأحاجي والإلغاز"، ومعنى ذلك أن الأدب والتأليف، والكتابة كانت متاحة لمن له القدرة على ذلك، ولم تكن مقصورة على طبقة بعينها تحتكر تسويد الصفحات اقتحامًا دون ما استعداد أو تأهل أو تخصص، فتؤذي أذواق الناس بما تفرضه على أذهانهم، متخفين وراء لقب أو محتمين بجاه سلطان.
7-
عماد الدين محمد بن محمد صفي الدين المشهور باسم العماد الأصفهاني 19هـ-197هـ وقد قدم العمل الأدبي الكبير الذي أسماه: خريدة القصر وجريدة العصر". وليست الخريدة هي العمل العلمي والفني الوحيد لعماد الدين الأصفهاني، بل إن له تآليف عديدة قيمة تأخذ شكل الموسوعات مثل كتاب "البرق الشامي في أخبار صلاح الدين وفتوحاته" وله ديوان رسائل، وديوان شعر، وله أيضًا كتاب "نصرة الفترة وعصرة القطرة" في أخبار الدولة السلجوقية.
وسوف نلحظ أن العماد متأثر كل التأثر بأسلوب زمانه من حيث الصناعة البديعية التي لم تكن تنسحب على أعماله الفنية وحدها من شعر وكتابة، وإنما انسحبت أيضًا على عناوين كتبه مثل كتابنا هذا الذي نقدم له "خريدة القصر وجريدة العصر" فالمجانسة واضحة بين خريدة وجريدة وبين القصر والعصر، وهي أكثر وضوحًا وتصنعًا في كتابه "نصرة الفترة وعصرة القطرة" الذي مر ذكره قبل قليل. وغلو العماد في صناعته الفنية لم يكن يخلو أحيانًا من طرافة، فهو صاحب الأبيات التي تعتبر مثالًا صارخًا للصنعة البديعية في قوله موجهًا أبياته إلى القاضي عبد الرحيم البيساني:
أما الغبار فإنه
…
مما أثارته السنابك
والجو منه مظلم
…
لكن أنارته السنا بك
يا دهر لي عبد الرحيم
…
فلست أخشى مس نابك
بل إنه كثيرًا مما عمد إلى الأحاجي في اصطناعه الإطراف الأدبي كإنشاء جمل تقرأ طردًا وعكسًا، فقد رأى القاضي الفاضل، وهو يمتطي صهوة جواده، فقال له، فيما يظن البعض أنها بديهية: سر فلا كبا بك الفرس. وإذا نظرنا إلى هذه الجملة وقرأناها من اليسار إلى اليمين
وجدناها هي نفسها التي نكتبها من اليمين إلى اليسار، وتمضي الرواية، فتقول: إن القاضي الفاضل كان من الذكاء بحيث التقط التحية فرد عليها على الفور بمثلها، قائلًا: دام علا العماد، وهذه الجملة شبيهة بجملة العماد من حيث قراءتها طردًا وعكسًا.
فإذا ما عدنا إلى الخريدة وجدناها تشمل الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى السنة 572هـ وهي السنة التي انتهى فيها العماد من تأليفها. ولا ترجع قيمة الخريدة إلى تغطية هذه الفترة من الزمان التي تناهز ثلاثة أرباع القرن وحسب، وإنما تكمن قيمتها في كونها قد غطت المساحة المكانية المترامية الأطراف من الأرض الإسلامية فضمت كل شعراء العراق والعجم والشام، والجزيرة، ومصر، والمغرب، فجعل العماد قسمًا لكل قطر من هذه الأقطار بحيث ضم الكتاب أربعة أقسام، وكل قسم يشتمل على عدة أجزاء، فهناك القسم الخاص ببلاد الشام، والقسم الخاص بمصر وصقلية والمغرب والأندلس، والقسم الخاص بشعراء العراق، والقسم الخاص ببلاد العجم وفارس وخراسان.
ويذكر العماد كل بلدة أو مدينة ويتبعها بشعرائها فيتحدث في قسم الشام عن شعراء حمص وحماة وشيزر، فالمعرة، وحلب، ومنبج، وحران، ويتعدى ذلك فينشئ بابًا يخص به شعراء جزيرة بني ربيعة وديار بكر وما يجاورها. ومن الطريف أنه يلحق شعراء الحجاز وتهامة واليمن بالقسم الثالث الخاص ببلاد الشام.
ولم يقف جهد العماد الأصفهاني عند مجرد الشعر الذي يصل إليه إنما كان يتنقل من مكان إلى مكان، ومن قطر إلى قطر يقابل الشعراء والرواة، ويسمع منهم ويناقشهم، ثم يقوم بعملية تدوينه البارعة.
وإذا كان البيهقي قد ألف ذيلًا على دمية الباخرزي أسماه وشاح الدمية، فإن العماد الأصفهاني قد أنشأ بنفسه ذيلًا لخريدته أسماه "السيل على الذيل"، ولعله في ذلك قد آثر أن يستدرك ما فاته بنفسه بدلًا من أن يستدرك عليه غيره كما فعل البيهقي مع الباخرزي.
وتمر فترة طويلة من الزمان تناهز الأربعة قرون أو أكثر قليلًا قبل أن تستأنف حلقات هذه الموسوعات الرائعة من كتب طبقات شعراء العربية، ولكن قبل أن ننتقل هذه النقلة الواسعة فإن أمرًا على جانب كبير من الخطورة يلفت نظرنا بحيث لا يستطيع أن نهمل ذكره، أو نتفادى خطره، ذلك أننا إذا أمعنا النظر في أسماء ونسبة كبار هؤلاء المؤلفين فإننا سوف نجد الثعالبي منتسبًا إلى "نيسابور"، والباخرزي منتسبًا إلى "باخرز" وهي بلدة من نواحي نيسابور أيضًا، والعماد الأصفهاني منتسبًا إلى "أصفهان" بل هو مولود فيها، تمامًا كما أن الباخرزي مولود في باخرز والثعالبي مولود في نيسابور، وهي قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على سحر في أدبنا تغلغل في نفوس كل من اشتغل به من عرب أو عجم، فملك عليهم
كل أسباب اهتمامهم، وملأ عليهم كل نواحي حياتهم، ففنوا فيه وأصبحوا نساكًا في محرابه، وتوفروا عليه بمجامع خواطرهم وفيض عواطفهم وذوب قلوبهم، بحيث قدموا لنا هذه الموسوعات الرائعة الخالدة، ذلك أن الوطن وأن اللغة وأن الأدب كانت كلها للمسلمين جميعًا، وليست لطائفة دون الأخرى من عرب أو عجم أو سود أو بيض، وأن الثقافة العربية كانت من السماحة بحيث استقطبت كل هذه الأجناس، وأن الأدب العربي كان من رحابة الصدر وسعة الأفق بحيث بسط جناحيه على هؤلاء جميعًا، فاستظلوا بظله ونعمه بفيئه فكانت ظلاله، وأفياؤه من الحنان، والرفق، والإيحاء، والخصوبة بحيث جعلت العطاء وفيرًا والحصاد مباركًا.
8-
أبو العباس أحمد بن محمد، شهاب الدين الخفاجي المتوفى سنة 1069هـ، وهو أحد القضاة المصريين الذين جابوا الأقطار الإسلامية وانتقلوا بين ديارها، فأتاحت له ثقافته كما ساعدته همته على أن ينشئ العديد من الكتب النافعة، وفي مقدمتها كتابه "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" و "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل" و "شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري" و "نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض" و "عناية القاضي وكفاية الراضي" وهي حاشية على تفسير البيضاوي. وهذه الكتب جميعًا مطبوعة برد حياضها المتأدبون وينهل من فيضها الباحثون. هذا وله كتب مخطوطة لم تخرج إلى النور بعد، مثل "خبايا الزوايا بما في الرجال من البقايا" و "ريحانة الندمان" و "ديوان الأدب في ذكر شعراء العرب" و "السوائح"، كما أن له ديوان لا يزال مخطوطًا.
فالخفاجي، وهذه مؤلفاته ومخلفاته، علم من أعلام اللغة والأدب، وهو قاض جليل في مدن الخلافة العثمانية عاش متقلدًا القضاء متنقلًا بين الولايات في مصر ودمشق وحلب وسلانيك والبلقان، على أن أهم ما يعنينا من تلك المؤلفات في هذا المقام هو كتابه "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" الذي قدم فيه نماذج مختارة من التعريف بشعراء الشام ومصر والمغرب وجزيرة العرب، ولكن عمله هذا الجليل لم يكن من الاتساع بمكان، فجاء من بعده عالمان جليلان رسمًا على منواله وأتما عمله، هما المحبي وابن معصوم.
9-
محمد أمين بن فضل الله محب الله المحبي المتوفى سنة 1111هـ، ولعل شهرة المحبي ترتبط بعمله العلمي الكبير الجليل "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر" وهو أكبر المراجع التي نستشيرها حينما نحاول الإلمام بشخصية من شخصيات ذلك القرن، كما أن له، وهذا هو الذي يعنينا، كتاب "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة". وهو الحلقة من حلقات كتب طبقات الشعراء المتممة لكتاب الخفاجي الذي مر ذكره:"ريحانة الألبا". وقد اتسع المحبي في "نفحته" اتساعًا فيه عمق وشمول. والكتاب ضخم كبير، ظهرت منه حتى
الآن عدة مجلدات أثبتت قيمتها للباحث في ميدان الدراسات الأدبية في القرن الحادي عشر،
والمحبي بنص في مقدمته على أنه قد وجد بعض النقص في كتاب الخفاجي وربما بعض الإغفال، فكان ذلك هو السبب في تأليفه كتابه الكبير الذي أسماه، كما مر بنا، "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة" وكأنما هو يعترف بفضل الخفاجي ويحمد له عمله:"الريحانة" ومن ثم فقد اعتبر كتابه الكبير نفحة من نفحات الخفاجي فسماه "نفحة الريحانة" وزاد "ورشحة طلا الحانة".
على أن "نفحة الريحانة" مرتب على ثمانية أبواب: الباب الأول يشتمل على "محاسن شعراء دمشق ونواحيها" ويختص الثاني "بنوادر أدباء حلب" ويتناول الثالث "نوابغ بلغاء الروم"، ويتضمن الباب الرابع "ظرائف ظرفاء العراق والبحرين" والباب الخامس في "لطائف لطفاء اليمن" والسادس من "عجائب نبغاء الحجاز" والسابع في "غرائب فقهاء مصر" والثامن في "نجائب أذكياء المغرب".
ولا يفوتنا أن نذكر أن مؤلفنا الكبير كان هو الآخر صورة لزمانه الذي ولع أدباؤه بالصنعة ولعًا لافتًا للأنظار حتى في عناوين كتبهم. فنلاحظ أن مؤلفنا يقول: محاسن شعراء، ونوادر أدباء، ونوابغ بلغاء، وظرائف ظرفاء، ولطائف لطفاء وعجائب نبغاء
…
إلخ مما مر بنا من عناوين أبوابه وقد التزم صيغتين للسجع بعينهما، هما:"فعائل فعلاء".
على أنه مما لا ينبغي غض الطرف عنه أن للمحبي فضلًا عن كتابيه الكبيرين: "خلاصة الأثر" و"نفحة الريحانة" كتبًا أخرى ذات وزن وقيمة في الأدب، واللغة منها:"قصد السبيل بما في اللغة من دخيل"، وهو لا شك بذلك متمم ومذيل لكتاب الخفاجي "شفاء العليل في ما في كلام العرب من الدخيل"، ومشى فيه على حروف المعجم حتى بلغ حرف الميم. كما أن للمحبي أيضًا كتاب "ما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه" و"جني الجنتين في تمييز نوعي المثنيين" و"الأمثال"، وكل من "الأمثال" و"المضاف والمضاف إليه" لا يزالان مخطوطين.
هذا وإن له ديوان شعر مخطوطًا، وهو في ثقافته ومؤلفاته، كأنما يحذو حذو سلفه الخفاجي. وإذن فهناك وجوه شبه كبيرة بين كل من العالمين الأديبين بل إنهما متشابهان في الوظيفة التي وليها كل منهما، والأماكن التي تنقلا فيها على اختلاف زمانهما، فالأول ينتسب إلى النصف الأول من القرن العاشر، والثاني ينتسب إلى النصف الثاني منه، وإلى طرف من القرن الثاني عشر.
10-
ابن معصوم وهو علي بن أحمد بن محمد معصوم الذي يعرف أيضًا بعلي خان بن مرزا، المتوفى سنة 1119هـ. وهو كما نرى في تاريخ وفاته معاصر للمحبي، غير أنهما،
وإن تعاصرا زمانًا، فقد اختلفا إقامة ومكانة، فالمحبي دمشقي، وأما ابن معصوم فهو شيرازي الأصل مكي المولد، هندي الإقامة شيرازي الوفاة، وكما أخذ المحبي على الخفاجي بعض النقص في كتاب "ريحانة الألبا" فإن ابن معصوم قد أدرك الإدراك نفسه وأخذ على الخفاجي إهماله جماعة من مجيدي الشعراء ومفيدي البلغاء على حد تعبيره، ولكنه في الوقت نفسه يلتمس له العذر في ذلك لبعد دياره عن ديارهم وأن الليالي لم تأته بأسمائهم.
ومن ثم فقد قام باستدراك النقص الذي رآه وضمنه كتابه "سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر" وهو في سلافته قد نهج تقسيمًا مشابهًا لتقسيم المحبي. وإن كان المحبي أغزر وأوفر وأوسع مادة وشعرًا ورأيًا. المهم أن صاحب "السلافة" اختار من ترجم لهم من أهل المائة الحادية عشرة، وجعلهم في خمسة أقسام: القسم الأول جعله في محاسن أهل "الحرمين الشريفين" وجعل الثاني في "الشام ومصر ونواحيهما" والثالث في "اليمن" والرابع في "العجم والبحرين والعراق" والخامس في "أهل المغرب". ولم يقتصر نشاط ابن معصوم، على رغم كونه أعجميًّا، على "سلاسة العصر" وحدها، ولكنه مؤلف لمجموعة أخرى من الكتب الأدبية مثل "أنوار الربيع" وهو مطبوع و "سلوة الغريب" الذي وصف فيه رحلته إلى حيدر أباد كما أن له ديوان شعر.
ولما كان ابن معصوم من أعلام الشيعة على زمانه، وله في مذهبه مشاركة ودراسة، فقد ألف كتابًا لا يزال مخطوطًا تحت عنوان "الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة".
وإذا كان لنا أن نلخص سلسلة طبقات الشعراء في "طبقات الشعراء" لابن المعتز، ثم "من اسمه عمرو من الشعراء" و "الورقة" لا بن داود الجراح، ثم "يتيمة الدهر" للثعالبي، ثم "دمية القصر وزهرة أهل العصر" للباخرزي، ثم "زينة الدهر" لسعد بن علي المعروف بالحظيري الوراق، ثم "خريدة القصر وجريدة العصر" للعماد الأصفهاني، ومعها كتابه "السيل على الذيل" ثم "ريحانة الألبا وزهرة أهل الدنيا" للشهاب الخفاجي، ثم "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة" للمحبي، ثم "سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر" لابن معصوم.
إن هذه السلسلة من الكتب النفيسة القيمة هي لنوع واحد من الطبقات، ولكن هناك أيضًا كتب أخرى للاختيار من شعر الشعراء نفيسة القيمة، وفيرة المادة شهيرة الفائدة بدأت بالقصائد التي اختارها المفضل الضبي للمهدي العباسي وسماها "المفضليات" ثم تتابعت السلسلة في مختارات الأصمعي التي سماها "الأصمعيات" وغيرها، ثم المختارات التي سميت بكتب الحماسة بادئة من القرن الثالث الهجري بحماستي أبي تمام والبحتري، منتهية بحماسة البارودي في القرن الماضي، ولنا في هذا الشأن حديث قريب.