الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمدينة على عدد أصابع اليدين، وحتى هؤلاء لم تكن قدراتهم تزيد على الكتابة التدوينية، أما الكتابة الأصيلة التي يحتاج إليها المؤلف فهي الكتابة الإنشائية التي تحتضن الفكرة وتحسن التعبير عنها وتسطرها في أسلوب مبسط يمكن القارئ من التقاطها واستيعابها.
وإذن فهناك مرحلة أساسية ضرورية سابقة لمرحلة التأليف، وهي مرحلة الكتابة الإنشائية التي تلتقط الفكرة وتحسن التعبير عنها وتقدمها مهضومة سائغة للقارئين وطالبي المعرفة.
إن كتب الأدب والأخبار تذكر لنا سالمًا مولى هشام بن عبد الملك على أنه رائد الكتابة العربية، وقد يكون هذا الخبر من الصحة بمكان، غير أن أثرًا واحدًا لسالم هذا لم يصل إلينا حتى نحكم له أو عليه، ومن ثم كان علينا أن نعتمد على ما بين أيدينا من نصوص كتابية نعتبرها نصوصًا رائدة في فن الكتابة العربية نستطيع من خلالها أن نتتبع تطور الكتابة العربية التي هي أداة فن التأليف في المكتبة العربية الإسلامية.
ويحضرنا في هذا السبيل عدد من الكتاب الرواد بعضهم عرب خلص والبعض الآخر من الفرس المستعربين.
يحيى بن يعمر العدواني:
فأما الأول فهو يحيى بن يعمر العدواني من قيس عيلان، كانا كاتبًا ليزيد بن المهلب بن أبي صفرة، كما كان قاضيًا لخراسان على عهد قتيبة بن مسلم الباهلي، غير أننا لا نهتم في هذا المجال بيحيى القاضي وإنما الذي يهمنا هو يحيى الكاتب، لقد كتب يحيى على لسان يزيد بن المهلب إلى الحجاج هذه الرسالة يبلغه فيها بنصر يزيد على أعداء الدولة، فقال:
"إنا قابلنا العدو فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة بعراعر الأودية وأهضام الغيطان، وبتنا بعرعرة الجبل وبات العدو بحضيضه"1.
لقد كانت هناك كتابة بمعناها الحقيقي، وهي كتابة مبكرة؛ لأن يحيى بن يعمر واحد من التابعين، وشهد بعض الصحابة ودرس عليهم وروى عنهم. فقد لقي عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، وقد كان يتسلح بما يتسلح به الكتاب الذين تتلمذوا على عبد الحميد وإن كان يحيى بن يعمر أسبق كتابة وزمانًا من عبد الحميد، ولم يكن يحيى مجرد كاتب أو قاضٍ
1 البيان والتبيين "1/ 377".
عراعر الأودية أسافلها، وعراعر الجبال أعاليها، وأهضام الغيطان مداخلها، والغيطان جمع غائط، هو الحائط ذو الشجر.
ولكنه بالإضافة إلى ذلك كان عالمًا بالقراءة والحديث، والفقه، والعربية، ولغات العرب، بل إنه واحد من أساتذة أبي الأسود الدؤلي صاحب علم النحو1.
قد يبدو هذا الضرب من الكتابة وعر الأسلوب بمقياس زمماننا، ولكنه في حقيقته كان يعتبر مثلًا أعلى للفصاحة على زمانه، فإن هذه الصياغة قد استوقفت الحجاج وجعلته بيدي إعجابه وتعجبه في وقت واحد ظانًّا أن هذا الأسلوب من الإنشاء هو أسلوب يزيد بن المهلب، وقال: ما لابن المهلب وهذا الكلام فقيل له: إن يحيى بن يعمر عنده، فقال: ذاك إذن، يعني لقد زال العجب.
واستطرادًا للحديث عن يحيى بن يعمر، نذكر أن الحجاج لما أعجب به أو بالأحرى برسالته أمر بأن يحمل إليه، فلما أتاه، قال له: أين ولدت؟ قال بالأهواز، قال: فأنى لك هذه الفصاحة؟ قال: أخذتها عن أبي وجرى بينه وبين الحجاج أكثر من حوار، وكان الحجاج -فيما نعلم جميعًا- خطيبًا بليغًا فصيحًا ذا منطق وإبانة لا يشق له غبار، حتى إن أبا عمرو بن العلاء قال في شأنه: ما رأيت أحدًا أفصح من الحسن البصري والحجاج. سأل الحجاج يحيى ذات يوم قائلًا: أتجدني ألحن؟ فقال مجاملًا: الأمير أفصح من ذلك، فقال الحجاج مؤكدًا: عزمت عليك، أتجدني ألحن؟ فقال يحيى: نعم. فقال له في أي شيء فقال: في كتاب الله تعالى. فقال: ذلك أسوأ، ففي أي حرف من كتاب الله؟ قال: قرأت: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} فرفعت "أحب" وهو منصوب، فغضب الحجاج وكان من عنف الغضب ما نعلم، وقال: لا تساكنني في بلد أنا فيه، ونفاه إلى خراسان.
فإذا كان الحجاج قد ملك عشرين سنة ومات سنة 95هـ وإذا كان يزيد بن المهلب قد ولي إمرة خراسان ست سنوات 83-89هـ فإن يحيى بن يعمر يكون قد مارس الكتابة في العقد التاسع من القرن الأول الهجري، أي قبل أن يمارسها، أو بعبارة أخرى، قبل أن يستوي على عرشها عبد الحميد بن يحيى المعروف بعبد الحميد الكاتب بما يقارب ثلث قرن من الزمان أو أكثر قليلًا، ولا يقلل من هذه الحقيقة أن يحيى بن يعمر مات سنة 129 هـ وعبد الحميد قتل سنة 132هـ ذلك أن الأول كان شيخًا كبيرًا حين كان الثاني في فتوة الشباب.
1 معجم الأدباء "20/ 42".