الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية
1-
المشارقة والأدب الأندلسي:
سلف القول بأن المشارقة كانوا أصحاب فضل السبق في تدوين الأدب الأندلسي -شعرًا ونثرًا- والترجمة لأدباء الأندلس وأعيانه.
ونستطيع أن نقرر في غير ما إسراف أو غلو أن أبا منصور عبد الملك الثعالبي المتوفى سنة 429هـ، -والذي سبق أن تحدثنا عنه- كان واضع حجر الأساس في تدوين الأدب الأندلسي والترجمة لأدبائه، فخصص مساحة كبيرة من كتابه الثمين -يتيمة الدهر1- لأدباء الأندلس الذين عاصروه أو عاشوا قبله بفترة قصيرة من الزمن، فأفرد على سبيل المثال لا الحصر ترجمات وافية لكل من أحمد بن عبد ربه وجاء له بنماذج وافرة من شعره وخص أبا عامر بن شهيد بعناية كبيرة، وأورد له عددًا من نماذج أدبه شعرًا ونثرًا، وفعل الصنيع نفسه مع أحمد بن دراج القسطلي، وغيرهم من أمثال هذيل وابن شخصي وعبد الملك بن سعيد والمنصور بن أبي عامر، وهكذا.
ولم تكن ترجمات الثعالبي لبعض هؤلاء الأندلسيين ترجمات عارضة، بل كانت دراسات وافية الجوانب وافرة النماذج بحيث لا تقل قيمة عن ترجماته الأخرى للعديد من الأدباء المشارقة الذين عني بالتقديم لهم في "يتيمته". ولا شك أن طريقة الثعالبي في كتابه هذا قد لفتت نظر ابن بسام، فاقتفى أثرها ورسم على منوالها في كتابه "الذخيرة" الذي مر ذكره، بل لعل الفتح بن خاقان كان هو الآخر -في كتابيه "القلائد" و"المطمح"- صورة
1 الفصول الأخيرة من الجزء الأول، والأولى من الجزء الثاني.
أخرى من الثعالبي في اليتيمة، وإن تكن أقل تطابقًا من تلك التي التزمها ابن بسام.
وإذا كان أبو منصور، عبد الملك الثعالبي يعتبر من خلال "اليتيمة" الرائد الأول في الاهتمام بتدوين الأدب الأندلسي، فإن الباخرزي في "دمية القصر وزهرة أهل العصر" يعتبر الرائد الثاني في الموضوع نفسه، ذلك أن الباخرزي ألف "دميته" قبل سنة 467هـ، وهي السنة التي توفي فيها، ولم يكن أندلسي واحد حتى تلك السنة ولعشرات غير قليلة بعدها من السنين قد سجل شيئًا من آداب قومه في كتاب، وقد أتى الباخرزي بعدد غير قليل من النصوص الأندلسية في القسم الثاني من كتابه الذي ضم إلى جانب ذلك عددًا من شعراء الشام وديار بكر والجزيرة وآذربيجان.
ويهتم عماد الدين الأصفهاني في "فريدة القصر" بأدباء المغرب والأندلس اهتمامه بأدباء مصر والشام والعراق والجزيرة، وقد خصهم بقسم كبير من كتابه يقع في أكثر من مجلد"1.
فإذا عرفنا أن العماد عاش بين سنتي 519هـ - 579هـ أدركنا أن كتابه قد تأخر قليلًا من حيث زمن كتابته عن كتاب الذخيرة لابن بسام، ومن ثم فقد حوى أخبارًا وأشعارًا وتراجم لأدباء أندلسيين لم يترجم ابن بسام لهم، ولم يقدم دراسات عنهم فيما لو اعتبرنا أن ما قدمه ابن بسام دراسات، وليست مجرد أخبار وأشعار ونماذج نثرية.
ويجدر بنا أن نشير إلى أن كلا من الثعالبي والباخرزي، والعماد الأصفهاني كانوا من كتاب الطبقات، أي من أصحاب الدراسات وليسوا مجرد ناقلي نصوص أو مرددي أخبار، فقد كانت لهم أذواقهم الأدبية، وأحكامهم الفنية، يصدرونها في مقام النقد إعجابًا أو رفضًا في كثير من المواقع على مدى صفحات كتبهم العريضة.
2-
ننتقل من كتاب الطبقات إلى كتاب التراجم المشارقة، ونقصد إلى القول إن كتاب التراجم -شأهم في ذلك شأن إخوانهم مؤلفي الطبقات- لم يتوانوا عن الترجمة لأعلام الأندلس، وإنما منحوهم من الاهتمام وخلعوا عليهم من الاحتفال ما منحوه لأعلام المشارقة، وما خلعوه على أعيانهم، وليس في ذلك شيء من الغرابة، فإن هؤلاء المؤلفين جميعهم من كتاب طبقات أو جامعي تراجم كانوا يتعاملون مع وطن واحد هو الوطن الإسلامي من تخوم وبخارى وسمرقند وأذربيجان شرقًا حتى شواطئ الأطلنطي غربًا، وكانوا يترجمون لمواطنين، مهما بعدت عنهم الشقة أو نأى بهم المكان وكانت المواطنية هذه إن
1 تم تحقيق الجزء الأول وطبعه في تونس سنة 1966.
صح التعبير أو الجنسية حسب التعبير المعاصر هي الجنسية الإسلامية، يخرج المواطن من بخارى شرقًا ضاربًا بأقدامه أو سنابك جواده وجه الأرض مشرقًا حتى تبتل قدماه من مياه المحيط غربًا فلا يسأل من أين أتى، ولا إلى أين يذهب، بلد واحد وأهل واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة، ودين واحد باستثناء بعض أهل الكتاب الذين كانت لهم الامتيازات نفسها في المواطنية والحل والترحال.
طبيعي إذن أن يهتم كتاب التراجم بالأدباء الأندلسيين اهتمامهم بغيرهم من أدباء البلدان الإسلامية.
وفي مقدمة كتب التراجم التي إياها نقصد "معجم الأدباء" لياقوت الرومي وقد حوى الكثير من التراجم لأدباء الأندلس، يضع الواحد منهم في مكانه من "المعجم" حسب الترتيب الأبجدي لاسمه الأول، فابن عبد ربه مثلًا يذكره تحت اسم "أحمد" وابن بسام يذكره تحت اسم "علي" وهكذا.
ومن الطريف أن يقرر ياقوت في مقدمة كتابه أن واحد من أهم مصادره أندلسي، هو كتاب أبي بكر محمد بن حسن الإشبيلي الزبيدي، ولكنه لم يذكر اسم الكتاب، ونحن نرجح أن كتاب الإشبيلي هذا الذي ضاع كان عمدة مادته ومصدر أخباره حول من ترجم لهم من أدباء الأندلس.
وقبل أن ننتقل من معجم الأدباء إلى كتاب آخر من كتب التراجم، قد نرى من الضرورة بمكان أن نشير إلى كتاب آخر من كتب ياقوت هو "معجم البلدان" وهو كتاب جغرافية ظاهرًا، ولكنه كتاب جغرافية وأدب ظاهرًا وباطنًا، إنه يتحدث عن بلدان العالم الإسلامي حتى زمانه، ومن بينها بلدان الأندلس، وما يكاد يتحدث عن بلد إلا ويذكر ما قيل فيه من شعر وما عرض له من أحداث ويعدد الأدباء والأعيان الذين أنجبهم هذا البلد أو ذاك وشيئًا من أدبهم شعرًا كان أو نثرًا، ومن ثم فإن كتاب "معجم البلدان" يعتبر واحدًا من المصادر المشرقية للأدب الأندلسي من خلال التعريف ببلد أندلسي بعينه مثل قرطبة أو غرناطة أو إشبيلية أو بلنسية وهلم جرا.
ومن كتب التراجم المشهورة التي عنيت بالترجمة للعديد من الأعلام الأندلسيين كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان المتوفى سنة 681هـ وهو مليء بترجمات لمشاهير رجال الأندلس من علماء وفقهاء وقضاة ولغويين وكتاب وشعراء وأمراء وولاة وظرفاء ونساء مشهورات.
ويسلك المنهج نفسه ابن شاكر الكتبي المتوفى سنة 764هـ، وقد شمل ابن شاكر الأدباء والأديبات من بين أعيان الزمان بعناية خاصة.
والقول نفسه نطلقه على كتاب "الوافي بالوفيات" لخليل بن أيبك المعروف باسم صلاح الدين الصفدي المتوفى سنة 764هـ وهي السنة نفسها التي توفي فيها زميله الكتبي، غير أن الفرق كبير بين قيمة وحجم كل من الكتابين، ذلك أن الأول يقع في جزءين مطبوعين أما الثاني فيقع في العديد من المجلدات، طبع منها حتى تأليف كتابنا هذا ثمانية مجلدات كبيرة. ويضم الوافي بالوفيات ألفين وثلاثمائة وإحدى وخمسين ترجمة بينها عدد كبير من الترجمات لأدباء وأدبيات من الأندلس.
وإذا كان الصفدي قد وقف بتراجم أعيان كتابه عن منتصف القرن الثامن تقريبًا، فإن العالم الجليل ابن حجر العسقلاني 852هـ يفرد كتابًا من خمسة مجلدات خص به الترجمة لأعيان القرن الثامن الهجري وحده دون غيره من القرون أطلق عليه "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، وهذا الكتاب يقابل كتاب "الكتيبة الكامنة" للسان الدين بن الخطيب مع فارق منهج كل منهما.
وعن أعيان القرن التاسع يكتب شهاب الدين السخاوي كتابه الكبير "الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع" في اثني عشر مجلدًا، وكل من "الدرر الكامنة" و "الضوء اللامع" بضم العديد من الترجمات لأعيان الأندلس شأنهم في ذلك من العناية شأن بقية أعيان العالم الإسلامي.
ولم يقف الأمر فيما يتصل بعناية المشارقة بالأدب الأندلسي عند من ذكرنا، بل إن كتب الموسوعات التي كتبت في العصر المملوكي -وهي موضوع الباب القادم- مشحونة بالنصوص الأندلسية بين شعر ونثر مفعمة بأخبار الأندلس والأندلسيين من سياسية وأدبية واجتماعية، وفي مقدمة هذه الكتب مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، ونهاية الأرب للنويري، وصبح الأعشى للقلقشندي، وهذا الكتاب الأخير المكون من أربعة عشر مجلدًا متخم بالنصوص الأدبية الأندلسية والرسائل الديوانية الرسمية منها بوجه خاص.
بل إن بعض كبار أدباء المشرق قد توفروا على بعض الأعمال الأدبية الأندلسية تقديمًا وشرحًا وتعليقًا، فالأديب الكبير ابن نباتة المصري يتلقف رسالة ابن زيدون الهزلية التي كتبها إلى ابن عبدوس على لسان ولادة بنت المستكفي فيعكف على شرح مفرداتها وما حوت من عبارات مستغلقة أو أمثال سائرة، ثم يترجم لكل علم من الأعلام الذين وردت أسماؤهم في الرسالة من شعراء وكتاب وقادة وفرسان وفلاسفة وأطباء بحيث لا يترك علمًا واحدًا دون أن يخصه بدراسة مستفيضة، ويرسم صلاح الدين الصفدي على منوال أستاذه ابن نباتة، فيعكف على رسالة أخرى لابن زيدون -الرسالة الجدية- ويصنع بها صنيع ابن نباتة بأختها.
وهكذا يكون المشارقة أول من اهتموا بالأدب الأندلسي دراسة وتدوينًا، وآخر من