الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اهتموا به كذلك؛ لأن الأندلس قد غربت شمسها منذ زمن بعيد، وأما المشارقة فقد كتب عليهم العيش يشهدون النكبة ويتخذون منها عبرة، إن كان فيهم بقية تعتبر.
1-
المقري ونفح الطيب:
إن العنوان الكامل للكتاب هو "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين الخطيب"، أما مؤلف الكتاب فهو أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني المتوفى في القاهرة سنة 1041هـ ولو أردنا أن نضيف مزيدًا من النسب إلى التلمساني لقلنا الفاسي القاهري بسبب إقامته في كل من فاس، ثم القاهرة لسنين عديدة، بل إن سني حياته الأخيرة كانت في القاهرة حين وصل إليها سنة 1028هـ وتزوج فيها إحدى بنات السادة الوفائية.
غير أن طبيعة العلماء الكبار في الوطن الإسلامي كانت مرتبطة بالسفر الكثير والارتحال شبه الموصول، ذلك أن طلب العلم أو منحه كان يقتضي الانتقال من بلد إلى بلد ومن قطر إلى آخر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن العالم يحس بالغربة إذا ما ارتحل؛ فلقد كانت تلك المساحة الشاسعة من الأرض الإسلامية العربية وطنًا واحدًا مهما تعددت أسماء الأقاليم ومهما اختلف حكام الأقطار، وكان العلم موضع تقدير الناس، ومن ثم كان العلماء موضعًا للإجلال والاحترام والترحيب.
وشيخنا أبو العباس المقري منسوب إلى مقر بلد أجداده، وهي قرية من قرى تلمسان في شمال إفريقية وفيها ولد ونشأ وحفظ القرآن، وتتلمذ على عمه الشيخ أبي عثمان سعيد المقري مفتي تلسمان لمدة سنة، وعلى عمه قرأ صحيح البخاري سبع مرات، وعنه روى كتب الحديث الستة، ومن ثم فإن الصفة الأولى للمقري أنه محدث كبير، درس الحديث في كل بلد حل فيه، وكان لرجال الحديث شأنهم بالصدق والأمانة العلمية والاستقامة، هذا فضلًا عن فنون أخرى من المعرفة امتلك المقري ناصيتها.
قلنا إن المقري كان كثير الارتحال، وهو في هذا السبيل رحل إلى فاس مرتين: مرة سنة 1009 ومرة سنة 1013هـ، وفي كل مرة كان يقيم مدة زمنية غير قصيرة، وبحكم علمه وفضله كان وثيق الصلة بالأمراء والعلماء والعامة على حد سواء، وكان -شأن طبيعة العلماء- مجاملًا مهذبًا، فما كاد ينوي فراق فاس متجهًا إلى المشرق عازمًا على أداء فريضة الحج
ثم الإقامة في مصر، حتى رأى أنه من اللائق أن يستأذن صاحب مراكش وأميرها في كتاب رقيق تمثل فيه قول الشاعر الحضرمي علي بن عبد العزيز:
محبتي تقتضي مقامي
…
وحالتي تقتضي الرحيلا
هذان خصمان لست أقضي
…
بينهما خوف أن أميلا
فلا يزالان في خصام
…
حتى أرى رأيك الجميلا
فأجابه صاحب مراكش إجابة تنم عن تقديره للرجل من الناحية الشخصية ومن الناحية العلمية على حد سواء قائلًا:
لا أوحش الله منك قومًا
…
تعودوا صنعك الجميلا
وصل المقري إلى مصر سنة 1028، وكان التكريم والإجلال حسبما سبق القول، ويتزوج من أشراف مصر، ويصبح صهرًا للسادة الوفائية، وكانوا أصحاب المكانة العليا في القاهرة آنذاك ولفترات طويلة من الزمان قبل ذاك وبعده.
ولسبب غير معروف على وجه الدقة يشكو المقري مصر وأهل مصر بشعره حينًا وتمثلًا بشعر شعراء آخرين حينًا آخر، سأله بعض الناس عن حاله بمصر فأجاب: دخلها قبلنا ابن الحاجب وأنشد فيها:
يا أهل مصر وجدت أيديكم
…
في بذلها بالسخاء منقبضه
لما عدمت القرى بأرضكم
…
أكلت كتبي كأنني أرضه
بل إنه لا يلبث أن ينشئ أبياتًا يشكو فيها حاله وعيشه في مصر شكوى مريرة وذلك في قوله:
تركت رسوم عزي في بلادي
…
وصرت بمصر منسي الرسوم
ورضت النفس بالتجريد زهدًا
…
وقلت لها عن العلياء صومي
ولي عزم كحد السيف ماضٍ
…
ولكن الليالي من خصومي
ولما لم يكن البخل من صفات أهل مصر ولا الإساءة إلى الغريب من شيمهم إلا في حالة واحدة، هي حالة الاعتداء عليهم أو الاستعلاء على أقدارهم، ولا نظن أن المقري قد فعل ذلك، فإننا نستنتج أن المقري كان غير سعيد في بيته، ضائق الذرع بزوجته التي ربما لم تقدره حق قدره ولم تهيئ له أسباب الحياة السعيدة، وإذا لم يكن المرء سعيدًا في بيته
امتنعت عليه كل أسباب السعادة خارجه، ومن هنا كان برمه بالحياة في مصر، ولعل قرينة بعينها ترجح وجهة نظرنا هذه، وهي طلاقه زوجته الوفائية سالفة الذكر قبيل وفاته بقليل.
وربما كانت الزوجة البائسة صاحبة عذر في ذلك؛ لأن الرجل كان كثير الأسفار دائم البعد عن بيته الأمر الذي جعلها تضيق ذرعًا بأسفاره وأحواله.
كانت القاهرة على كل حال مقرًّا للمقري، استقر فيها، ومنها ينطلق سنة 1029 إلى القدس، ثم يعود لينطلق إلى اليمن سنة 1037 فيؤدي الفريضة ويملي حديث رسول الله فيها ومنها يذهب إلى المدينة المنورة حيث يملي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وعلى مسمع منه، ويقول إنه قام بهذه الزيارات في تلك السنة سبع مرات. ويمضي بعض زمانه يدرس بالأزهر في القاهرة، ثم يعود فينطلق إلى القدس مرة ثانية سنة 1039 فيجلس لإملاء صحيح البخاري في صحن جامعها ويستمع إلى درسه خلق كثير في مقدمتهم العلماء قبل الطلاب، ولم يتفق لعالم من الواردين على دمشق ما اتفق للمقري من الحظوة، وإقبال الناس على دروسه، وكانت دروس الحديث في مطلع النهار عادة، وأما في الأمسيات فكانت مساجلات أدبية ومطارحات شعرية رائعة تجري بينه وبين علماء دمشق وأدبائها، وفي أمسيات أخرى كان يلقي محاضرات في الأدب، ويكثر من تردد أخبار الوزير لسان الدين بن الخطيب وأشعاره حتى افتتن العلماء بالوزير وخبره وشعره، وطلبوا من العالم الأديب المحدث الراوية المؤرخ أبي العباس أن يكتب كتابًا عن ابن الخطيب، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا حسبما سوف نفصل بعد قليل.
لم تزد إقامة المقري في دمشق في زيارتها الأولى لها عام 1039 عن الأربعين يومًا، رحل منها في أوائل شوال، والقوم يبكون لفراقه عائدًا إلى مصر ثم عاد فزارها مرة ثانية في شعبان سنة 1040هـ، وكأن الرجل كان يتحرى أن يقضي شهر الصيام في دمشق. واستقبل في المرة الثانية بمثل ما استقبل به في المرة الأولى، ولما تركها قال شعرًا لطيفًا في وداعها.
وفي القاهرة قر قراره على العودة إلى دمشق ليقيم فيها إقامة دائمة وطلق زوجه الوفائية ولكن المنية عاجلته في جمادى الآخرة سنة 1041هـ، فدفن في مقبرة المجاورين في القاهرة.
ذلك ما كان من أمر حياة المقري ومستقره وارتحاله، وهو كما رأينا يمثل حلقة التقاء بين المشرق والمغرب، فهو تلمساني المولد والنشأة، وتلمسان تقع في غرب القطر الجزائري على مقربة من حدود القطر المراكشي الحالي، ونحن لا نعلم السنة التي ولد فيها أبو العباس على وجه التحديد، ولكن من الثابت أنه رحل إلى فاس مرتين، ثانيتهما كانت سنة 1013 وكان آنذاك موضعًا لتقدير أميرها حسبما بينا في سالف الحديث، ومعنى ذلك أنه كان مكتملًا أساب النضوج، ونعلم أيضًا أنه دخل مصر عام 1028، وتوفي فيها عام
1041هـ، فتكون حياته العلمية والفكرية قد انقسمت قسمين أو بالأحرى نصفين: نصفًا قضاه في المغرب "تلمسان وفاس" ونصفًا قضاه في المشرق مدته ثلاث عشرة سنة، وبذلك ننتهي إلى النتيجة التي بدأناها، وهي أن عمره العلمي مقسم بين المشرق والمغرب ويكون المقري والحال كذلك همزة وصل متينة بين علم المشرق وعلم المغرب، وبين أدباء المغرب وأدباء المشرق.
ولما كان المقري على هذا القدر الكبير من العلم والفضل والأدب فإننا نتوقع منه أن يقدم إلى المعرفة الإنسانية بعامة والثقافية بخاصة العديد من الكتب والمؤلفات التي أهمها:
1-
"نفح الطيب" الذي نحن بصدد الحديث عنه بعد قليل.
2-
"أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" وهو شبه من حيث مقصده بكتاب "نفح الطيب"، فكما أن "نفح الطيب" كان الهدف منه حديثًا وتأريخًا للسان الدين بن الخطيب فإن الهدف من أزهار الرياض الترجمة للقاضي المغربي عياض بن موسى اليحصبي السبتي، وهو كتاب ثمين مليء بأسباب الأدب وطرائف الأخبار، وإن كان محوره القاضي المذكور، وهو مطبوع في أجزاء أربعة.
3-
"إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة" ومن المعروف أن المغاربة والمصريين والشوام غالبيتهم العظمى إن لم تكن جملتهم من أهل السنة والجماعة، والكتاب مطبوع.
4-
الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين.
5-
قطف المهتصر في أخبار البشر.
6-
عرف النشق في أخبار دمشق.
7-
الغث والسمين والرث والثمين.
8-
روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيه من أعلام مراكش وفاس.
9-
أزهار الكمامة.
10-
حاشية على شرح أم البراهين "في علم التوحيد".
11-
إتحاف المُغري في تكميل شرح الصغري "متصل بالكتاب السابق في شرح السنوسية في علم التوحيد".
12-
كتاب البدأة والنشأة "كله أدب من شعر ونثر".
13-
فتح المتعال، وهي رسالة كتبها في وصف نعال النبي صلى الله عليه وسلم.
تلك أشهر الكتب التي كتبها أبو العباس المقري وهي تمثل ذخيرة ثمينة من كتب