الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: وفيات الأعيان
وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:
لعل هذا الكتاب هو أشهر كتب التراجم عامة منها ما تخصص في تراجم أبناء بلد بعينه أو ما اشتمل على تراجم عامة بغض النظر عن الزمان والمكان، ولا يكاد يدانيه شهرة من كتب التراجم إلا كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.
وهذا الكتاب وأقرانه لا يستطيع التوفر على تصنيفها إلا العلماء من أولي العزم للصبر الذي يحتاج إليه مؤلفه، فضلًا عن سعة في العلم وتبحر في الأدب وتمكن من اللغة، ومعرفة بالتاريخ وثقة في الرواية وحسن سمعة بين الناس.
إن شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلكان مؤلف "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" كان جامعًا لكل هذه الصفات، لقد عاش بين سنتي 608-681هـ، وكان مولده بإربل وحصل فيها ما استطاع من ألوان العلم والمعرفة، وتتلمذ لمشهوري علمائها، ثم أصبح أستاذًا لكثير من العلماء والفضلاء وعلامة في الأدب والشعر وأيام الناس، ووصف بأنه كان كثير الاطلاع جليل المذاكرة وافر الحجة ذا هيبة ومكانة عند الناس.
وإذا كانت الرحلة تفيد في تحصيل المعرفة، وتزيد المرء من تجارب الحياة، فقد رحل ابن خلكان، وسكن فترة من الزمان في كل من الموصل وحلب ومصر حيث تولى فيها نيابة القضاء، ثم رحل إلى الشام حيث تولى القضاء فيها للشافعية. ومن الطريف أن قضاة المذاهب الأربعة الشافعية والأحناف والمالكية والحنابلة كان كل واحد منهم -وابن خلكان منهم- يلقب بشمس الدين فقال في ذلك بعض شعراء دمشق الظرفاء:
أهل دمشق استرابوا
…
من كثرة الحكام
إذ هم جميعًا شموس
…
وحالهم في ظلام1
غير أن ابن خلكان كان يتمتع من بين هؤلاء جميعًا بمكانة خاصة من الاحترام في قلوب الناس، فقد عزل من قضاء دمشق، ثم أعيد بعد سبع سنوات، فكانت عودته مصدر راحة لنفوس الدمشقيين وصارت هذه المناسبة من الأهمية بحيث قال الأدباء فيها شعرًا طريفًا، فإن سعد الدين الفارقي يقول في ذلك:
أذقت الشام سبع سنين جدبًا
…
غداة هجرته هجرًا جميلًا
فلما زرته من أرض مصر
…
مددت عليه من كفيك نيلًا
هذا ولابن خلكان نفسه شعر جيد طريف المعاني متعدد الأوزان أورد له كل من صاحب "الوافي بالوفيات" و "فوات الوفيات" شيئًا كثيرًا يصلح للدراسة. وتمنينا لو سمح المقام هنا بذكر شيء منه، غير أن أكثره لسوء الحظ في موضوع ينبو عن الذوق، ويخرج عن المألوف إذ إنه في شعر الغلمان، وهو أمر كان يجمل بعالم كبير مثل ابن خلكان أن يترفع عنه، ويسمو بنفسه عن التدني إليه.
فإذا ما انتقل الحديث بنا إلى كتاب ابن خلكان الذي سماه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان مما ثبت بالنقل والسماع، أو أثبته العيان" نجده عنوانًا مفرط الطول الأمر الذي جعل المتأدبين والدارسين يعرفونه بالمقطع الأول من عنوانه "وفيات الأعيان".
والكتاب يترجم للنابهين من الناس في المحيط الإسلامي والعربي، أيا كانت صفاتهم أو أمكنتهم أو عصورهم، وليس لطائفة واحدة أو بلدة بعينها كما هو الحال في نسق آخر من كتب التراجم، إنه يترجم للجميع من ملوك ووزارء وأئمة ومحدثين، وفقهاء، وعلماء، وفلاسفة ومتصوفة وأطباء وقضاة وولاة وقواد وكتاب وشعراء، وندماء وظرفاء وشهيرات النساء وكل من يقع السؤال عنه.
هذا ويضع المؤلف مقدمة لكتابه يبين فيها منهجه في تأليفه كأحسن وأدق وأحدث ما يكون المنهج العلمي بمراحله المتكاملة. إنه يبدأ بالقراءة سنوات عديدة وفي أثناء ذلك يجمع المادة التي يستمد منها موضوعات كتابه، وهو يتثبت من صحتها وأمانة رواتها، ويوردها مرتبة على حروف المعجم ويبين لماذا اختار هذا السبيل دون غيره. ويتوقع أن قارئًا سوف يلاحظ أنه لم يترجم للصحابة والتابعين فيذكر في منهجه السبب الذي من أجله استثناهم فلم
1 الوافي بالوفيات "7/ 308، 309".
يضمن كتابه أخبارهم، وفي تواضع العلماء الأصلاء يذكر ابن خلكان أنه غير معصوم من الخطأ، ويرجو ممن يجيئون بعده من أهل -مثابين- أن يصلحوا ما يكون قد وقع فيه من خطأ. بل إنه لا يغفل عن أن يذكر أنه ألف الكتاب في القاهرة في شهور سنة 654 الهجرية.
فلنستمع إلى ابن خلكان، وهو يقدم لنا بنفسه في مقدمة كتابه المنهج الذي اتبعه، والطريق الذي سلكه في تأليف الكتاب1:
"هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى جمعه أني كنت مولعًا بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهة وتواريخ وفياتهم وموالدهم، ومن جمع منهم كل عصر، فوقع لي منه شيء حملني على الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المتقنين له ما لم أجده من كتاب، ولم أزل على ذلك حتى حصل عندي منه مسودات كثيرة في سنين عديدة، وغلق على خاطري بعضه فصرت إذا احتجت إلى معاودة شيء منه لا أصل إليه إلا بعد التعب في استخراجه، لكونه غير مرتب، فاضطررت إلى ترتيبه، فرأيته على حروف المعجم أيسر منه على السنين، فعدلت إليه، والتزمت فيه تقديم من كان أول اسمه الهمزة، ثم من كان ثاني حرف من اسمه الهمزة أو ما هو أقرب إليها، على غيره، فقدمت إبراهيم على أحمد؛ لأن الباء أقرب إلى الهمزة من الحاء، وكذلك فعلت إلى آخره، ليكون أسهل للتناول، وإن كان هذا يفضي إلى تأخير المتقدم وتقديم المتأخر في العصر، وإدخال من ليس من الجنس بين المتجانسين، لكن هذه المصلحة أحوجت إليه.
ولم أذكر في هذا المختصر أحدًا من الصحابة رضوان الله عليهم، ولا من التابعين رضي الله عنهم، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثيرة من الناس إلى معرفة أحوالهم، وكذلك الخلفاء: لم أذكر أحدًا منهم اكتفاء بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب، لكن ذكرت جماعة من الأفاضل الذين شاهدتهم ونقلت عنهم، أو كانوا في زمني ولم أرهم ليطلع على حالهم من يأتي بعدي.
ولم أقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة، مثل العلماء أو الملوك أو الأمراء، أو الوزراء أو الشعر، بل كل من له شهرة بين الناس ويقع السؤال عنه ذكرته وأتيت من أحواله بما وقفت عليه، مع الإيجاز كيلا يطول الكتاب، وأثبت وفاته ومولده إن قدرت عليه، ورفعت نسبه على ما ظفرت به، وقيدت من الألفاظ ما لا يؤمن تصحيفه، وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمة، أو نادرة، أو شعر، أو رسالة ليتفكه به متأمله ولا يراه
1 وفيات الأعيان: المقدمة "1/ 19-21".
مقصورًا على أسلوب واحد فيمله، والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إذا كان مفننًا.
وبعد أن صار كذلك لم يكن بد من استفتاحه بخطبة وجيزة للتبرك بها، فنشأ من مجموع ذلك هذا الكتاب، وجعلته تذكرة لنفسي، وسميته كتاب "وفيات الأعيان"، وأنباء أبناء الزمان، مما ثبت بالنقل أو السماع، أو أثبته العيان" ليستدل على مضمون الكتاب بمجرد العنوان.
فمن وقف عليه من أهل الدراية بهذا الشأن ورأى فيه خللًا فهو المثاب في إصلاحه بعد التثبت فيه، فإني بذلت الجهد في التقاطه، من مظان الصحة، ولم أتساهل في نقله ممن لا يوثق به، بل تحريت فيه حسبما وصلت القدرة إليه.
وكان ترتيبي له في شهور سنة أربع وخمسين وستمائة بالقاهرة المحروسة مع شواغل عاتقة، وأحوال عن مثل هذا متضايقة، فليعذر الواقف عليه، وليعلم أن الحاجة المذكورة ألجأت إليه؛ لأن النفس تحدثها الأماني من الانتظام في سلك المؤلفين بالمحال، ففي أمثالهم السائرة "لكل عمل رجال" ومن أين لي ذلك والبضاعة من هذا العلم قدر منذور، والمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوبي زور، حرسنا الله تعالى من التردي في مهاوي الغواية، وجعل لنا من العرفان بأقدارنا أمنع وقاية بمنه وكرمه، آمين".
إننا من خلال هذه المقدمة، أو هذا المنهج نستطيع أن نوضح أهم ميزات الكتاب وفوائده على النحو التالي:
أولًا: يضم الكتاب ثمانمائة وخمسًا وخمسين ترجمة لأعلام المسلمين والعرب وكل من يمكن السؤال عنهم من رجال ونساء على مساحة العالم الإسلامي كله من بخارى سمرقند وحدود الصين شرقًا إلى المغرب والأندلس غربًا. هذا من حيث المكان، وأما من حيث الزمان، فإنه يغطي الحقب الزمنية منذ القرن الأول الهجري حتى قرابة نهاية القرن السابع الهجري، وهي الفترة التي توفي فيها المؤلف.
ثانيًا: يذكر الكتاب سنة الميلاد ومكانه لكل عين يترجم له، كما يذكر سنة الوفاة ومكانها، وإذا كان هناك اختلاف بين المؤرخين في سني الوفاة أو الميلاد، فإنه يذكر هذا الخلاف، ثم يرجح ما يرى أنه الصواب، مثال ذلك قوله عن إبراهيم النخعي، وهو أول من ترجم له:"توفي سنة ست وقيل خمس وتسعين للهجرة وله تسع وأربعون سنة وقيل ثمان وخمسون سنة، والأول أصح"1.
ثالثًا: التزم المؤلف ذكر من يترجم لهم بحسب ترتيب الحروف الهجائية في الاسم
1 وفيات الأعيان "1/ 25".
الأول فقط دون الاسم الثاني -أي اسم الأب- فإن أول من ترجم له هو إبراهيم بن حارثة ابن سعد بن
…
النخع الفقيه الكوفي النخعي، والمترجم له الثاني هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، والثالث إبراهيم بن أحمد إسحاق المروزي الشافعي، ولو كان ابن خلكان سار على مطلق الترتيب الهجائي المعجمي سيرًا سليمًا لكان اتبع ذلك في كل من اسم الشخص المترجم له ثم اسم أبيه وبالتالي يكون المترجم له الثالث إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي مكان إبراهيم بن حارثة النخعي. وأما آخر من ترجم لهم، فهو يونس بن يوسف المخارقي.
وإذا كان المؤلف قد فاته هذا الترتيب الحديث فإنه يعوضنا بتدقيقه في ضبط الأسماء والكنى والألقاب، والنسب، وأسماء البلدان التي ترد متصلة بالمترجم له، أو بمكان مولده أو وفاته ضبطًا صحيحًا سليمًا وبذلك يسهم إسهامًا ذا أهمية وخطر في أن يحسن الدارس نطق الأعلام.
رابعًا: يذكر المؤلف الأحداث الكبرى والأمور ذات الخطر المتصلة بحياة المترجم، مكارمه إن كان حاكمًا ونماذج من شعره إن كان شاعرًا، وأخرى من كتابته إن كان كاتبًا، ومؤلفاته إن كان عالمًا وهكذا.
لقد كان لياقوت فضل كبير على العلم والعلماء حين نقل كثيرًا من صفحات مؤلفات ثمينة ضاعت مع الزمان، فحفظ لنا نماذج تعلن عن طبيعتها، وأسلوبها ومحتواها فيساعد بذلك المهتمين والمحققين.
وعلى سبيل المثال يذكر ابن خلكان في ترجمته لابن عبد البر أبي عمر يوسف بن عبد الله كتبه التي ألفها، ويذكر من بين كتبه كتاب "بهجة المجالس وأنس المجالس" وينقل منه ثلاث صفحات تفصح عن قيمة الكتاب1. لقد ظل قراء العربية يشتاقون إلى قراءة هذا الكتاب منذ عهد ابن خلكان حتى سنة 1962م أي قبل نحو عشر سنوات حتى عثر عليه مخطوطًا ونشر الجزء الأول من أجزائه الثلاثة2.
وهكذا نجد ابن خلكان حين يترجم لعين من الأعيان يورد أهم ما يتصل بشخصه من أحداث أو أخبار أو طرائف أو نصوص شعرية أو نثرية أو مؤلفات، وهو من الكتب العمد في التراجم العامة في المكتبة العربية.
1 وفيات الأعيان ترجمة "رقم 837 جـ7/ 67" وما بعدها.
2 قام الأستاذ محمد مرسي الخولي بتحقيق الجزء الأول ونشره في القاهرة 1962.