الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية
لم يعرف "التاريخ" عند العلماء القدامى بادئ ذي بدء كعلم محدد الوظيفة الثقافية كما هو الحال بعد ذلك بفترة طويلة من الزمان، وإنما كانت هناك حاجة إلى المعرفة العامة في نطاق التطور الجديد للمجتمع الإسلامي الواسع المترامي الأطراف الذي ضم أممًا عديدة وعناصر شتى.
لم يكن هناك تسمية واضحة لجميع المعارف عن هذه الأمم وعن تلك العناصر الجديدة، ولكن كان لا بد من جمع معارف عن المملكة الإسلامية وماضي شعوبها والممكن من أخبارها، وكانت هناك ضرورات لهذا الجمع لعلها تتمثل في النقاط الآتية:
- إن اتساع الدولة جعلها في حاجة شديدة إلى العلم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، والإدارة والتنظيم وطريقة الحكم، وسير رجال الأمم، والسياسات والحروب والمكايد، وكانت هذه هي الطريقة التي يثقف معاوية بها نفسه على سبيل المثال.
- هناك فئات كثيرة دخلت الإسلام بعاداتها وتقاليدها وعقائدها وتاريخها، فاليهود مثلًا نشروا أخبارهم بين المسلمين وهو ما يسمى بالإسرائيليات، والنصارى فعلوا الشيء نفسه، والفرس دخلوا بتاريخهم وأساطيرهم، وكانت كثير من الأخبار التي يحفظونها ويرددونها لا تخلو من عصبية لأصحابها.
- الاهتمام بجمع الحديث؛ لأن فيه كل ما كان يفعله الرسول من عبادات وتشريع ومعاملات، وفيه وعظ وإرشاد. وفيه كل ما يتعلق بحياة الرسول في مكة والمدينة وتحركاته وغزواته.
- ضرورة الاهتمام بأعمال الخليفة الأول أبي بكر وتسجيل فتوحات الخليفة الثاني عمر وما اتصل بحكم كل منهما من أحداث هامة وما أكثرها وأجلها.
لقد كانت الأقسام التاريخية هي الأساس الحقيقي لكتب السير والمغازي التي لم تلبث أن تمخض عنها علم التاريخ.
وهناك حقائق كبرى عن فجر تدوين كتب غير قليلة في المغازي، منها على سبيل المثال:
1-
عروة بن الزبير بن العوام 23 - 94هـ هو أقدم من ألف في سيرة الرسول.
2-
وهب بن منبه 34- 110هـ ألف كتابًا في المغازي.
3-
أبان بن عثمان بن عفان 22 - 105هـ جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة المتوفى 105هـ كتابًا في السير.
4-
ابن شهاب الزهري جمع كتابًا في المغازي.
5-
موسى بن عقبة ت 141هـ جمع كتابًا في المغازي.
وقد عثر على قطعة منه طبعت سنة 1904. 1
القضية إذن ليست بدوات أو أفكارًا تروح وتجيء وإنما هي عملية تأليف منظمة أو تصنيف معتنى بها، لنا أن نسميها ما شئنا ولكنها في حقيقتها عملية علمية تاريخية واضحة المعالم ملموسة الأسباب نشأت مبكرة، وكانت في بكورها أقدم مما يتصور الكثيرون من الدارسين.
على أن هذا النهج لا يلبث أن يربطنا بنهج آخر كل منهما يتمم صاحبه، ونعني به القصص.
والقصص بفتح القاف عرف قديمًا منذ الأيام الأولى لفجر الإسلام، وهو لا شك مصدر من مصادر المعرفة العامة، وليس القصص الذي نقصد إليه هو هذا المتعارف عليه في أيامنا المعاصرة، وإنما القصد منه عند نشأته كان الوعظ وتذكير الناس بالآخرة وصرفهم عن ضروب الملاذ التي إذا ما أغرقوا أنفسهم فيها أدى ذلك إلى فساد دينهم ودنياهم. ومن هنا كان القاص في حقيقته واعظًا، وإنما هو يستعمل أساليب القصص في وعظ الناس وهدايتهم عن طريق أخبار الأولين وقصص الأقدمين، فما من جبابرة إلا زالوا ولا أباطرة إلا ماتوا، الذكر الجميل أولى بصاحبه من الذكر القبيح وسوء ترديد السيرة. لقد كان القصص يتم في المسجد، وأول قاص في الإسلام هو تميم الداري، وقد أغرم بإرشاد الناس وهدايتهم واستأذن عمر في ذلك فرفض أول الأمر، ثم ما لبث أن وافق
1 فجر الإسلام "ص 158".
وأذن له، على أن تكون حلقته يوم الجمعة من كل أسبوع، وهناك قول بأن تميمًا بدأ وعظه كقاصٍّ على عهد عثمان، على أن هذا لا يعنينا إلا من ناحية واحدة هي أن القصص بدأ مبكرًا في الإسلام، وأنه كان وعظًا خالصًا يتتبع فيه القاص طريقة هداية الناس بذكر أحاديث الأقدمين، وأن ذلك كان يتم في مسجد رسول الله في المدينة مرة كل أسبوع أول الأمر، وأن أول قاصٍّ في الإسلام هو تميم الداري.
ومن الطريف أن نعرف أن تميمًا كان نصرانيًّا وأسلم سنة 9هـ، وكان ذا مكانة دينية عند نصارى نجران، وربما كانت نزعته إلى الترهب والوعظ من بقايا أثر المسيحية فيه، ولذلك فقد سمي: راهب أهل عصره.
ولم يكن القاص يؤلف الأخبار التي يستعين بها على وعظ الناس، وإنما كان يستعين بالقصص المتوارثة والأساطير القديمة معتمدًا في أقواله على الترغيب والترهيب.
وينشط القاصون ويتقنون فنهم وينجحون في إشاعة جو روحي بين الناس فتعمد الدولة إلى جعل القصاص موظفًا رسميًّا، فإذا انتهت صلاة الصبح جلس القاص -في المسجد على ما مر بنا- ودعا للخليفة وأنصاره، ودعا على أعدائه وذكر بعض المواعظ.
على أن الأمر بعد ذلك لم يلبث أن شابه بعض الشوائب حين كان القاص لا يتحرى الأخبار التي يحكيها ويقدمها للناس، فشاع الكذب بين بعض القصاص باستثناء الحسن البصري.
وتتسع مهام القاص فيجمع إلى عمله عملًا آخر على جانب آخر من الأهمية وهو القضاء، فقد كان القاضي بعد ذلك قاصًّا رسميًّا. وقد قيل في هذا السبيل إن أول قاص في مصر هو سليمان التجيبي سنة 38هـ جمع القصص إلى القضاء، ثم ما لبث أن تخلى عن القضاء وتفرغ للقصص1.
على أن هذا الطريق كان محفوفًا بالمكاره؛ لأن كثيرًا من الأساطير اليهودية والنصرانية أفسدته وشكلت بابًا خطيرًا على جوهر العقيدة الإسلامية حين فتحت الطريق لبعض الغلاة فأنشئوا أحاديث مزيفة ونسبوها إلى الرسول قاصدين منها الترغيب والترهيب. ثم ما لبث فساد القصص أن شكل عاملًا آخر في إفساد التاريخ.
والقصاصون من الكثرة بمكان، وقد كان منهم البارعون في سوق أحاديثهم وتنغيمها علوًّا وانخفاضًا، وترديدها إيجازًا وإطنابًا إلى الحد الذي كانوا يتمكنون من خلاله من استدرار دموع التوبة من السامعين، وإبكاء بعض من يعظونهم من الخلفاء حتى تبلل الدموع
1 راجع فجر الإسلام "ص 158" وما بعدها.
لحاهم. لقد كانوا -والحال كذلك- على قدر كبير من البراعة في تقديم ما لديهم من مواعظ ربما استعملوا معها شيئًا من الحركات التمثيلية.
وإذا كان تميم الداري هو أول قاص في الإسلام على ما مر بنا، فإن أشهر قاصين هما: وهب بن منبه وكعب الأحبار. ووهب وكعب يعتبران في الوقت نفسه أشهر منبعين للقصص الديني.
فأما وهب بن منبه فهو يمني من أبناء الفرس الذين زود بهم كسرى سيف بن ذي يزن حتى يسترد ملكه من نجاشي الحبشة الذي كان قد استولى على اليمن واحتلها. فاستنجد سيف بكسرى، الذي أمده ببضعة آلاف من الجنود استردوا له عرشه، وظل عدد كبير من هؤلاء الجنود يقيم في اليمن.. فكان وهب واحدًا من سلالة هؤلاء الفرس.
ويذكر ابن قتيبة أنه رأى لوهب كتابًا ترجم فيه للملوك المتوجين من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم.
وكان وهب قبل إسلامه من أهل الكتاب، وكان يقول: سمعت اثنين وتسعين كتابًا كلها أنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس وعشرون في أيدي الناس لا يعلمها إلا قليل، وقد نسب إليه صاحب كشف الظنون كتابين هما قصص الأنبياء وقصص الأخبار.
ولقد كان وهب واسع الثقافة الدينية من إسلامية وكتابية، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء الذي ولد ومات فيها سنة 114هـ وقيل سنة120 بعد أن عمر تسعين سنة1.
وأما كعب الأحبار واسمه الحقيقي كعب بن ماتع فأصله من اليمن أيضًا وكان يهوديًّا وأسلم في خلافة أبي بكر، وكان كعب الأحبار كثير التنقل، ويعتبر هذا الرجل المعين الأول للإسرائيليات التي تفشت في كثير من الكتب الإسلامية. ولقد تأثر به كل من ابن عباس وأبي هريرة، ويبدو أن كعب الأحبار هذا كان من اللباقة وسرعة البديهة وغزارة المعلومات بحيث استطاع أن يخلب لب غير قليل من أعلام المسلمين الأولين. هذا فضلًا عن جرأة غريبة كانت فيه، فابن سعد يقول إن كعب الأحبار كان يجلس في المسجد وأمامه أسفار التوراة يقرؤها غير متحرج من ذلك2.
وقد روي أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنك ميت بعد ثلاثة أيام، فيقول له عمر: وما أدراك؟ فيقول: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. فيقول عمر في شيء من
1 راجع المعارف "202" وطبقات ابن سعد "5/ 395" والذهبي "5/ 14-16".
2 الطبقات "7/ 97".
الاستنكار: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ فيقول كعب: اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك1.
هذا وقد أخذ كثير من علماء المسلمين روايات كعب الأحبار بكثير من الحيطة، بل إن من بينهم من امتنع عن الرواية له مثل ابن قتيبة والنووي، والبعض روى عنه بشيء من التحفظ مثل ابن جرير الطبري، وهناك من نقل عنه قصص الأنبياء مثل الكسائي.
ويكنى كعب الأحبار بأبي إسحاق، وهو على إسرائيلياته أخذ عن الصحابة بقدر كبير من الكتاب والسنة، وقد استقر في حمص وتوفي فيها سنة32 هـ عن مائة سنة وأربع سنين2.
هذا والجدير بالذكر أن مجالس القضاء لم تكن تشتمل على الحكاية الدينية وحدها، بل كان في مجالسهم التفسير والحديث والفقه واللغة والجدل الديني، ولعل مجالس الحسن البصري دليل على ذلك، والحسن واحد من أشهر قصاصي المسلمين، وكانت مجالسه في مسجد البصرة بجوار اسطوانته الخاصة به حافلة بكل أنواع المعرفة مليئة بألوان من الجدل العقلي الذي من خلاله انبثقت مدرسة المعتزلة في الإسلام.
ولذلك فإن الغزالي حينما أنحى على هؤلاء القصاص باللائمة واعتبر عملهم شيئًا منكرًا لا يليق بحرمة المساجد استثنى من بينهم الحسن البصري الذي كان الغزالي يكن له كل تقدير واحترام.
على أن الغزالي برأيه في القصاص لا يجعلنا نغفل قدر عدد من علماء المسلمين الذين كانوا يجعلون من القصص وسيلة لإفشاء علمهم على الناس وترغيبهم فيه وتقريبهم إليه. وكانت هناك حلقات كبرى لكثير من أئمة المسملين وعلمائهم، فهذا عبد الله بن عباس يجلس في الكعبة وحوله عدد كبير من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس يسألونه فيجيب عن أسئلتهم. وهذا ربيعة الرأي يجلس في مسجد الرسول في حلقة كبيرة من الناس وافرة العدد تجمع بين الصفوة والعامة والصغار والكبار، فالإمام الحسن بن علي يفد إليه مستمعًا فيمن يفد، والإمام مالك يتردد عليه وهو لا يزال صبيًّا يريد أن يغترف من بحر علمه.
وفي مسجد الرسول أيضًا يجلس الإمام جعفر الصادق بعد فترة من الزمن واسعة تفصل بين مجلسه ومجلس ربيعة الرأي يفيض على الناس من علمه وفقهه وفضله.
وفي مسجد البصرة يجلس الحسن البصري في مجلسه الذي مر ذكره قبل قليل، ذلك
1 فجر الإسلام "161".
2 حلبة الأولياء "5/ 364" وتذكرة الحفاظ "1/ 49".
المسجد الذي كانت تتعدد حلقات الدرس فيه.
ومهما قيل في حلقات الدرس هذه التي كانت تسمى أحيانا بحلقات القصاص أو مجالسهم، فإنها خرجت عددًا كبيرًا من علماء المسلمين وأئمتهم كما نشطت العقل الإسلامي ودربته على الجدل الذي نشط لمناقشة اليهود والنصارى في محافل عامة، أو مجادلة الفرق الإسلامية بعضها بعضًا.
صحيح أنه كان بالقصص على بداية عهد بني أمية مسحة من سياسة، ولكنه في الوقت نفسه ساعد في نطاق المجالس المشار إليها على تنمية العلوم الدينية والعقلية وإنعاشها من تفسير وحديث وفقه، ومن لغة وجدل وبداية لعلم التاريخ تمهيدًا لظهور التأليف عند المسلمين.
على أن القصص كان في واقع أمره مرتبطًا بالفكرة الدينية أكثر من استهدافه تسجيل الحقائق التاريخية، ولكن الحاجة إلى معرفة الأمم الماضية -وبخاصة تلك التي فتح الإسلام أراضيها- كانت من الأهمية بالنسبة للحكام ولعامة المسلمين بمكان. وآية ذلك ما روي عن معاوية بن أبي سفيان من أنه كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم ينام طرفًا من الليل ولا يلبث أن يستيقظ، فتبسط أمامه الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها والحروب ومكايدها، ويقوم بقراءة ذلك عليه غلمان مرتبون لهذا العمل1.
1 فجر الإسلام "156".