الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله الطالبي:
هذا ما كان من أمر كتابة يحيى بن يعمر، وهي في تقديرنا -إن كنا على جانب السلامة من الاستنتاج- أول كتابة فنية مستكملة أسباب البلاغة والبيان بمقياس عصرها، فقد كان الإيجاز آنذاك آية البيان وعنوان البلاغة، على أن قضية زمام الكتابة العربية التي هي أداة التعبير السليم عما يخالج العقل العربي في مرحلة تطوره الثقافي لم تنتقل فجأة وبغير تدرج حتى وصلت إلى سالم ثم عبد الحميد، فليس الأمر والحال كذلك على جانب من الصواب، وإنما انتقلت الكتابة من أنامل عربية خالصة ممثلة في يحيى بن يعمر العدواني القيسي والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة المازني إلى أنامل عربية قرشية هاشمية، ونعني بذلك عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. لقد طلب عبد الله الخلافة ونصب نفسه خليفة بالكوفة سنة 127هـ ثم انتقل إلى المدائن، واستولى على الجبال وهمذان وأصبهان والري واستفحل أمره وجبى الخراج وقصده بعض بني هاشم، مثل أبي جعفر المنصور الذي صار من أشهر ملوك العباسيين بعد ذلك بست سنوات أو سبع.
لقد كان عبد الله الطالبي هذا واحدًا من الرواد الذين روضوا الكتابة من مرحلة التقعر إلى منهج البساطة، وطورها من صورة التوعر إلى أسلوب السهولة، وهو في ذلك يشكل مرحلة بين المرحلتين، مرحلة يحيى بن يعمر ومن سار على دربه، ومرحلة عبد الحميد ومدرسته، فلننظر في هذه الرسالة الباكرة التي كتبت بكل تأكيد قبل عبد الحميد، يقول عبد الله1:
"أما بعد فقد عاقني الشك في أمرك عن عزيمة الرأي فيك، ابتدأتني بلطف عن غير خبرة. ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب، فأطمعني أولك في إخائك، وأيأسني آخرك من وفاتك. فلا أنا في اليوم مجمع لك اطراحًا، ولا أنا في غد وانتظاره منك على ثقة، فسبحان من لا يشاء الكشف بإيضاح الرأي في أمرك عن عزيمة فيك، فأقمنا على ائتلاف أو افترقنا على اختلاف. والسلام1.
أرأيت كيف تطورت الكتابة بسرعة وفي ظرف حوالي ثلاثين سنة هذا التطور السريع البديع، من عربي لعربي، ولم يدخل إلى الساحة حتى الآن من واقع النصوص فارسي واحد؛ لأن سالم مولى هشام بن عبد الملك الذي قيل عنه إنه الإمام الحقيقي لمدرسة الكتابة العربية لم يظهر له أثر واحد، ومن المقطوع به أن عبد الله هذا لم يكن من أخدانه أو من تلامذته؛ لأن عبد الله على ما مر بنا القول خرج على بني أمية 127هـ وأنشأ ملكًا.
1 راجع كتابنا "الأدب في موكب الحضارة الإسلامية" صفحة 330 وما بعدها.
ولم تكن هذه الرسالة هي المثال الوحيد الذي أثر عن عبد الله بن معاوية، فإن له رسالة أخرى ذكرها صاحب البيان والتبيين وجهها إلى أبي مسلم الخراساني من السجن الذي كان أودع فيه بعد أن أسره رجال أبي مسلم في أواخر أيام بني أمية، تعتبر من أرق الرسائل وأكثرها إشراقًا وأيسرها أسلوبًا يقول فيها:
"من الأسير في يديه بلا ذنب إليه، ولا خلاف عليه، أما بعد: فأتاك الله حفظ الوصية، ومنحك نصيحة الرعية، وألهمك عدل القضية، فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع، فاحفظ ودائعك بحسن صنائعك، فالودائع عارية والصنائع مرعية، وما النعم عليك وعلينا فيك بمنذور نداها ولا بمبلوغ مداها. فنبه للتفكر قلبك، واتق الله ربك، وأعط من نفسك لمن هو تحتك ما تحب أن يعطيك من هو فوقك من العدل والرأفة والأمن من المخافة، فقد أنعم الله عليك، بأن فوض أمرنا إليك، فاعرف لنا لين شكر المودة، واغتفار مس الشدة والرضى بما رضيت، والقناعة بما هويت، فإن علينا من سهك الحديد وثقله أذى شديدًا مع معالجة الأغلال وقلة رحمة العمال الذين تسهيلهم الغلظة وتيسيرهم الفظاظة وإيرادهم علينا الغموم وتوجيههم إلينا الهموم، وزيارتهم الحراسة وبشارتهم الإياسة.
فإليك بعد الله نرفع كربة الشكوى، ونشكو شدة البلوى، فمتى تملي إلينا طرقًا، وتقول فك عطفًا، تجد عندنا نصحًا صريحًا، وودًّا صحيحًا، لا يضيع مثلك مثله، ولا ينفي مثلك أهله. فارع حرمة من أدركت بحرمته، واعرف حجة من فلجت بحجته، فإن الناس من حوضك رواء، ونحن منه ظماء، يمشون في الأبراد ونحن نرسف في الأقياد، بعد الخير والسعة، والخفض والدعة، والله المستعان وعليه التكلان، صريخ الأخيار ومنجي الأبرار، الناس من دولتك رخاء، ونحن منها في بلاء، حين أمن الخائفون، ورجع الهاربون، ورزقنا الله منك التمنن، ظاهر علينا منك التحنن، فإنك أمين مستودع، ورائد مصطنع والسلام ورحمة الله".
لقد كان عبد الله الطالبي بهذا المنهج المتين المسبوك المحكم وهذا الأسلوب الأنيق المخدوم يمثل المرحلة الثانية في تطور الكتابة العربية التي لا مناص من إجادتها وإرساء قواعدها قبل الانتقال إلى مرحلة التأليف. هذا وكان عبد الله شاعرًا أيضًا وهو صاحب البيت المشهور:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقد وفد عليه كثير من الشعراء مادحين وممتاحين وفي مقدمتهم الشاعر الكبير إبراهيم بن هرمة الذي قال فيه مدائح تعتبر من أرق المدائح التي قالها شاعر في ممدوح بعينه.
فإذا ما انتقلنا إلى مدرسة الفرس من الكتاب ونعني سالمًا وعبد الحميد فإن سالمًا مولى
هشام بن عبد الملك يشكل هو الآخر فيما تروي الأخبار مدرسة مرموقة الأثر، على أنه وإن كان لم تصل إلينا من إنشاء سالم أي نماذج -حسبما أشرنا قبل قليل- فإن تعاليمه تبدو واضحة في تلميذه عبد الحميد بن يحيى الذي استوى على عرش الكتابة العربية على أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني مروان وقتل معه سنة 132هـ في أبي صير بمصر، أي بعد مقتل عبد الله بن معاوية بثلاث سنوات.