المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: الأصمعي - مناهج التأليف عند العلماء العرب

[مصطفى الشكعة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي

- ‌الفصل الأول: فجر الحركة العلمية

- ‌الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية

- ‌الفصل الثالث: حركة التدوين

- ‌مدخل

- ‌تدوين القرآن الكريم وتفسيره:

- ‌تدوين الحديث:

- ‌تدوين العلوم والمعارف:

- ‌الباب الثاني: الكتابة والإنشاء

- ‌الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي

- ‌مدخل

- ‌يحيى بن يعمر العدواني:

- ‌عبد الله الطالبي:

- ‌الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي

- ‌عبد الحميد بن يحيى:

- ‌عبد الله بن المقفع وتصانيفه

- ‌الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:

- ‌الفصل الرابع: مصادر النثر العربي

- ‌الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص

- ‌الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة

- ‌الفصل الثاني: المفضل الضبي:

- ‌الفصل الثالث: النضر بن شميل

- ‌الفلصل الرابع: ابن الكلبي

- ‌الفصل الخامس: أبو عبيدة:

- ‌الفصل السادس: الأصمعي

- ‌الفصل السابع: الهيثم بن عدي:

- ‌الفصل الثامن: المدائني:

- ‌الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي

- ‌الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ

- ‌الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:

- ‌الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد

- ‌الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب:

- ‌الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور

- ‌الفصل السابع: أبو بكر الصولي

- ‌الفصل الثامن: المرزباني

- ‌الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي

- ‌الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني

- ‌الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد

- ‌مدخل

- ‌ العقد الفريد:

- ‌الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني

- ‌كتاب الأغاني

- ‌مؤلفات أبي الفرج:

- ‌قيمة كتاب الأغاني ومنهجه:

- ‌مختصرات الأغاني:

- ‌الباب السادس: كتب الأمالي:

- ‌الفصل الأول: نشأة الأمالي

- ‌الفصل الثاني: مجالس ثعلب

- ‌الفصل الثالث: أمالي اليزيدي

- ‌الفصل الرابع: أمالي القالي

- ‌مدخل

- ‌ذيل الأمالي والنوادر:

- ‌الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:

- ‌الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى:

- ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

- ‌الباب السابع: طبقات الشعراء

- ‌الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي

- ‌مدخل

- ‌طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي:

- ‌الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

- ‌الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني:

- ‌الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:

- ‌الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات

- ‌الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات

- ‌السموط أو المعلقات:

- ‌المفضليات:

- ‌الأصمعيات:

- ‌جمهرة أشعار العرب

- ‌ شعر القبائل:

- ‌شعر الهذليين:

- ‌الفصل الثاني: كتب الحماسة

- ‌مدخل

- ‌حماسة أبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري

- ‌ حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر

- ‌ الحماسة الشجرية

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌الباب التاسع: كتب التراجم

- ‌الفصل الأول: الفهرست لابن النديم

- ‌مدخل

- ‌الفهرست لابن النديم

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ تاريخ بغدادللخطيب البغدادي:

- ‌ تاريخ بغداد

- ‌منهج كتاب تاريخ بغداد:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ معجم الأدباءلياقوت الرومي:

- ‌ معجم الأدباء

- ‌منهج ياقوت في معجم الأدباء:

- ‌الفصل الرابع: وفيات الأعيان

- ‌وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:

- ‌فوات الوفيات:

- ‌الوافي بالوفيات

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر

- ‌مدخل

- ‌منهج "خلاصة الأثر

- ‌الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي:

- ‌الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس:

- ‌الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌قلائد العقيان، ومطمح الأنفس

- ‌قلائد العقيان:

- ‌مطمح الأنفس ومسرح التأنس

- ‌الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:

- ‌ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه:

- ‌التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:

- ‌منهج "المغرب" وخصائصه:

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد:

- ‌رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة:

- ‌الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس:

- ‌كتب التراجم لأدباء الأندلس

- ‌سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة

- ‌المطرب في أشعار أهل المغرب:

- ‌الفصل السادس:‌‌ لسان الدينبن الخطيب والكتيبة الكامنة

- ‌ لسان الدين

- ‌منهج الكتيبة الكامنة:

- ‌الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس:

- ‌ المقتبس في أخبار الأندلس:

- ‌ تاريخ المن بالإمامة:

- ‌ المعجب في تلخيص أخبار المغرب:

- ‌ الحلّة السِّيراء:

- ‌ البيان المُغرب في أخبار المَغرب:

- ‌ الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة:

- ‌الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية

- ‌ المشارقة والأدب الأندلسي:

- ‌ المقري ونفح الطيب:

- ‌ منهج نفح الطيب وموضوعاته:

- ‌الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية

- ‌الفصل الأول:‌‌ ظهور الموسوعة العربيةوالعصر المملوكي

- ‌ ظهور الموسوعة العربية

- ‌الموسوعات والعصر المملوكي:

- ‌الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها:

- ‌ابن منظور ولسان العرب:

- ‌النويري ونهاية الأرب:

- ‌صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي:

- ‌ابن فضل العمري ومسالك الأبصار

- ‌القلقشندي وصبح الأعشى:

- ‌المقريزي ومؤلفاته:

- ‌ابن حجر ومؤلفاته:

- ‌ابن تغري بردي ومؤلفاته:

- ‌السخاوي وكتبه:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكيبواكير الموسوعات:

- ‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكي

- ‌بواكير الموسوعات:

- ‌المراجع

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: ‌الفصل السادس: الأصمعي

‌الفصل السادس: الأصمعي

112 - 216 هـ:

إنًّ عبد الملك بن قريب أبا سعيد الأصمعي واحد من ألمع علماء العربية وأدبائها ومن أشهرهم في الأسماع وأكثرهم ذكرًا في الكتب وجريًا على الألسنة وفضله وأدبه ونوادره وظرفه وآثاره وكتبه.

لقد عاش في تلك الفترة المزدحمة بالعلماء الذين مر طرف من ذكرهم، فترة الخصوبة والعطاء والإنتاج والمناظرة والمزاحمة العلمية بالمناكب، وعاصر أكثر هؤلاء العلماء وله معهم قصص وأخبار ومناظرات، وله مع أعلام عصره من خلفاء ووزراء وحجاب وقواد طرائف تحكى ونكت تذكر.

كان الأصمعي بصري المولد والوفاة مخلصًا لوطنه الصغير متعلقًا به، خرج يطوف في البوادي يسمع من الأعراب الغريب من الألفاظ والطريف من النوادر ويجلس إلى الخلفاء يطرفهم بها ويزيل ضجرهم، فكان يلقى منهم العطاء الوفير، فلما تقدمت به السن عاد إلى موطنه البصرة وظل فيه إلى أن توفي سنة 216هـ وقيل قبل ذلك بعام حسب الروايات التي جاءت بها كتب التراجم، ومهما كان الأمر فقد عاش الرجل ما يناهز خمسة وثمانين عامًا، شأنه شأن أقرانه من علماء زمانه الذين عرفوا بطول العمر وسخاء العطاء الفكري والأدبي.

قلنا إن الأصمعي كان يجوب البوادي ليحصل الغريب ويجمع النوادر، وهو في ذلك يسعى إلى العلم سعيًا يجمعه بنفسه في تعب وكد، تمامًا كما كان يفعل رجال الحديث الذين كان يسافر الواحد منهم مئات عديدة من الأميال لكي يحقق حديثًا شريفًا أو حديثين، ولكن الأصمعي لم يفعل ذلك وحسب، ولكنه كان يختلف إلى علماء عصره ليسمع منهم ويتعلّم.

ص: 109

على أيديهم. فقد سمع شعبة بن الحجاج، والحمادين: حماد بن الزبرقان وحماد الراوية، وسليمان بن المغيرة، وقرة بن خالد، وأبا زيد الأنصاري وهم صفوة من الأعلام والعلماء.

وكما أفاد الأصمعي من هؤلاء وغيرهم، فقد كان صاحب حلقة درس كبيرة يجتمع إليه الباحثون عن المعرفة فيسمعونه ويأخذون عنه وفي مقدمة هؤلاء عبد الرحمن بن أخيه عبد الله، وأبو حاتم السجستاني، وأبو عبيد الله القاسم بن سلام، وأبو الفضل الرياشي، وأحمد بن محمد اليزيدي وأبو العباس الكديمي وغيرهم1، وكل هؤلاء يمثلون قمة العلم في زمانهم في النحو واللغة، والرواية، والشعر، والنوادر، والأخبار.

لقد كان الأصمعي جديرًا بمكانته العلمية لذكائه المفرط وصدقه واستقامته، فقد ذكر بنفسه أنه يحفظ من الأراجيز وحدها ستة عشر ألف أرجوزة، وفي رواية عشرة آلاف أرجوزة، وسواء أكان العدد عشر آلاف أو ستة عشر ألفًا فإن ذلك يدل على حافظة قليلة النظير بين العلماء، وروي عن ذاكرته أخبار أخرى مثيرة2 نذهب إلى تصديق أكثرها؛ لأن صفوة الأئمة والعلماء والأدباء والشعراء قد امتدحوه وأكثروا في إطرائه، فالإمام الشافعي يقول3: ما رأيت بذلك العسكر أصدق من الأصمعي. وفي وصف آخر له قوله: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي، والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يثنيان عليه4، وشهادة هؤلاء الثلاثة الأئمة ترفع قدر الأصمعي درجات، وهذا إسحاق الموصلي، يقول: لم أر كالأصمعي يدعي شيئًا من العلم فيكون أحد أعلم به منه.

وبلغ من ثقة الخاصة والمثقفين بعلم الأصمعي أن المأمون -وهو من نعرف علمًا وثقافة- كان قد أرسل إليه في البصرة يستقدمه إلى ندوته لكي يستعين بعلمه وفضله فيما يعن له من مشاكل لغوية أو أدبية، ولكن الأصمعي كان من تقدم السن وضعف الشيخوخة بحيث لم يستطع أن يستجيب إلى رغبة المأمون في السفر إليه، فكان المأمون يجمع المسائل ويبعث بها إليه في البصرة فيجيب عنها5.

والحق أن الرجل على مخالطته الخلفاء ورجال البلاط والوزراء -ومخالطة هؤلاء وأمثالهم قد تدفع بأكثر الناس إلى شيء من النفاق والرياء- كان صدوقًا عفًّا متدينًا إلى المدى الذي كان يجعله يحجم عن تفسير آية من الكتاب العزيز أو شرح حديث شريف خشية

1 تاريخ بغداد "10/ 410".

2 تاريخ بغداد "10/ 415".

3 نزهة الألباء "ص123، 121".

4 تاريخ بغداد "10/ 418، 419".

5 وفيات الأعيان "3/ 172".

ص: 110

أن يخطئ في التفسير أو التأويل، وإذا اضطر إلى شيء من ذلك كان يردف، قائلًا: هكذا قال العرب، أو هكذا قال العلماء. بل إنه رفض أن يشرب الماء في آنية من الفضة لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك1. ولقد تواترت الأقوال عن استقامة عقيدته وصحة دينه، فما كان أيسر على مؤرخي زمانه أن يتهموا هذا بالزندقة وذاك بالمجوسية إلى غير ذلك من الانحرافات الاعتقادية التي كانت شائعة بالفعل في محيط البصرة، وأما الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد فهناك ما يشبه الإجماع على صحة عقيدتهم، فقد قيل: أهل البصرة كانوا أهل أهواء إلا أربعة كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب والأصمعي2.

ومع هذه الصفات المسلكية والخلقية الجليلة كان الأصمعي صاحب طرف ونكت ونوادر وأسمار يستمتع بها الخلفاء والوزراء والحجاب ويجزلون له العطاء عليها. فقد كان الرشيد على سبيل المثال -وهو يقضي الصيف بعيدًا عن بغداد في الرقة على شاطئ الفرات غير بعيد عن حلب- يطلب إلى رجاله في بغداد أن يحملوا إليه الأصمعي على البريد، فيسافر الرجل هذه المسافات الطويلة ليقضي مع الخليفة المصطاف أسبوعًا أو بعض أسبوع يسليه ويثقفه بما يسمعه من أخبار وأشعار ويزيل بعض ضجره، ثم يعيده إلى بغداد. وفي إحدى هذه السفرات طلب إليه الرشيد أن يمتحن جاريتين في الأدب والرواية والشعر والأخبار فأنجح واحدة منهما فوهبت له عشرة آلاف دينار، أما الرشيد فبعد أن استمع إلى بعض أسماره -وهي حفية أن يستمع إليها- زال عنه بعض ما كان يساوره من ضجر وأمر له بمائة ألف درهم3.

وله مع الرشيد قصة أخرى طريفة تدل على وفرة محصول الرجل من الأخبار التاريخية الدقيقة التي قلما يهتم المؤرخون بتدويها، يحكيها الأصمعي في مجال الإطراف والتسرية عن جليسه. فقد ذكر الأصمعي يومًا للرشيد في مجال السمر نهم سليمان بن عبد الملك وكيف كان يجلس للطعام وأمامه الخراف المشوية الملتهبة لخروجها في الوقت نفسه من تنانيرها، فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة من ذلك فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه، فيعجب الرشيد بالحديث ويقول للأصمعي في تلطف وتعجب: قاتلك الله، ما أعلمك بأخبارهم!! أعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها ودكة بالدهن فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني الحديث، ثم أمر الرشيد بأن

1 تاريخ بغداد "10/ 418".

2 نزهة الألباء "ص27، 132" وتاريخ بغداد "10/ 418".

3 القصة والسمر في تاريخ بغداد "10/ 413".

ص: 111

يؤتى له بثياب سليمان بن عبد الملك ونظر فيها فإذا آثار الدهن ظاهرة فيها، فكسا الأصمعي حلة منها. ومن الطريف أن الأصمعي كان يخرج مرتديًا إياها أحيانًا، ويقول: هذه جبة سليمان بن عبد الملك كسانيها الرشيد1.

وللأصمعي مع جعفر بن يحيى نادرة لطيفة حين أراد جعفر أن يعاقب إحدى جواريه الجميلات بأن يزوجها للأصمعي وكان كبير السن قبيح الخلقة، فلما رأته الجارية جزعت جزعًا شديدًا، وهنا يقول الأصمعي لجعفر: هلَّا أعلمتني قبل ذلك، فإني لم آتك حتى سرحت لحيتي وأصلحت عمتي، ولو عرفت أنك تريد عقابها لصرت على هيئة خلقتي فوالله لو رأتني كذلك لما عاودت شيئًا تنكره منها أبدًا ما بقيت2.

ومن طرائف الأصمعي ونوادره التي يحكيها قوله: رأيت بعض الأعراب يفلي ثيابه فيقتل البراغيث ويدع القمل، فقلت: يا أعرابي ولم تصنع هذا؟ قال: أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة3. ولقد ذاعت صفات العلم والفضل والسماحة والفكاهة والسمر عن الأصمعي حتى إن الذين عرضوا لرثائه حين وفاته لم يغفلوا عن ذكر ذلك، فأبو العالية الشامي يذكر علمه وفضله حين رثاه بقوله:

لا در در نبات الأرض إذ فجعت

بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا

عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى

في الناس منه ولا من علمه خلفا4

وأما أبو العتاهية فيجمع في مرثيته بين ذكر العلم والفضل والبشاشة والأسمار في قوله:

ألهفي لفقد الأصمعي لقد مضى

حميدًا له في كل صالحة سهم

تقضت بشاشات المجالس بعده

وودعنا إذ ودع الأنس والعلم

1 وفيات الأعيان "3 3/ 174".

2 تاريخ بغداد "10/ 415".

3 وفيات الأعيان "3/ 174".

4 تاريخ بغداد "10/ 419".

ص: 112

وقد كان نجم العلم فينا حياته

فلما انقضت أيامه أفل النجم1

لقد كان الأصمعي يسحر الخاصة والعامة بعذب كلامه ونقاء أدبه، وكان معلم الرشيد وملقنه طاقات من الأدب، بل إنه كان بالنسبة إليه -بلغة عصرنا- مستشاره الثقافي، ولم يقف إعجاب التأبين بالأصمعي عند تلك الأقوال القيمة التي رثاه الشعراء بها، بل لقد ظلت طرائفه تتسرب إلى قلوب الناس وعقولهم حتى بعد وفاته بفترات طويلة من الزمان. إن أبا منصور الثعالبي يمدح الأمير الجليل أبا الفضل الميكالي، فلا يجد من المعاني التي تليق به إلا تشبيهه بفصاحة الأصمعي ورقة لفظه وذلك في قوله:

لك في المفاخر معجزات جمة

أبدًا لغيرك في الورى لم تجمع

بحران: بحر في البلاغة شأنه

شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي2

هذا والأصمعي لامع بين معاصريه من العلماء، مبرز عليهم في كثير من فنون المعرفة، وإذا قصر عن أحدهم في فن برز عليه وفاقه في فن آخر، وما من معاصر له لامع إلا وقد قرن اسم الأصمعي به في مجال المفاضلة، فمن الآراء التي وردت في هذا الشأن قول محمد بن يزيد المبرد: أبو زيد الأنصاري أحسن في النحو، وأبو عبيدة ألمع بالأنساب والأيام والأخبار، والأصمعي بحر في اللغة وكثرة الرواية3. ويقول الأخفش: ما رأيت أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف، فقيل له: أيهما أعلم؟ قال: الأصمعي.

وكان الأصمعي من تمكن العلم في اللغة والتفقه فيها وفهم الشعر بحيث لم يجاره في ذلك معاصر حسبما ذكر الأخفش قبل قليل، وحسبما ذكر المبرد قبل سطور. لقد كان الكسائي والأصمعي وغيرهما في مجلس الرشيد حيث كانت تكثر المناظرات وتثار القضايا اللغوية والنحوية والأدبية في أحيان كثيرة فقال الرشيد سائلًا: ما معنى بيت الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مخذولا

فقال الكسائي: أحرم بالحج، فرد الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج ولا أراد الشاعر أنه أيضًا في شهر حرام، فيقال: أحرم إذا دخل في شهر حرام كما يقال أشهر إذا دخل

1 تاريخ بغداد "10/ 420" ونزهة الألباء "124".

2 وفيات الأعيان "3/ 178".

3 تاريخ بغداد "10/ 414".

ص: 113

الشهر وأعام إذا دخل العام، فقال الكسائي متسائلًا مستنكرًا، ما هو غير هذا؟ وفيم أراد؟ فيعمد الأصمعي إلى الطريقة الجدلية المثيرة مجيبًا السؤال بسؤال: ما أراد عدي بن زيد بقوله:

قتلوا كسرى بليل محرما

فتولى لم يمتع بكفن

أي إحرام لكسرى؟ وهنا يتدخل الرشيد سائلًا: فما المعنى؟ فيجيب الأصمعي: كل من لم يأت شيئًا يوجب عليه عقوبة فهو محرم، فقوله: محرمًا يعني في حرمة الإسلام، وقوله محرمًا في كسرى يعني حرمة العهد الذي كان في عنق أصحابه. فقال الرشيد: ما تطاق في الشعر يا أصمعي1.

وهناك بين الأصمعي وأبي عبيدة بن المثنى قصة كتاب كل منهما في الخيل والقصة يحكيها الأصمعي قائلا: دخلت أنا وأبو عبيدة على الفضل بن الربيع، فقال: يا أصمعي، كم كتابك في الخيل؟ قلت: جلد واحد -أي مجلد واحد- فسأل أبا عبيدة عن كتابه في الموضوع نفسه، فقال: خمسون جلدًا، فأمر بإحضار الكتابين ثم أمر بإحضار فرس فقال لأبي عبيدة: اقرأ كتابك حرفًا حرفًا وضع يدك على كل موضع: فقال أبو عبيدة: لست بيطارًا، إنما هذا شيء أخذته عن العرب وعلمته وألفته. فقال لي: يا أصمعي، قم فضع يدك على كل موضع من الفرس، فقمت فحسرت عن ذراعي وساقي، ثم وثبت فأخذت بأذني الفرس، ثم وضعت يدي على ناصيته فجعلت أقبض منه بشيء فشيء فأقول هذا اسمه كذا، وأنشد فيه، حتى بلغت حافره، فأمر لي بالفرس2. والأصمعي -بما عرف عنه من مزح وخفة روح- يقول: فكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة ركبت الفرس إليه.

ويذهب بعض الروايات إلى أن هذه القصة حدثت تمامًا كما رويت ولكن عند الرشيد وليس عند الفضل بن الربيع، وتضيف هذه الرواية أن الرشيد سأل أبا عبيدة بعد أن انتهى الأصمعي من ذكر أعضاء الفرس: ما تقول فيما قال؟ فأجاب أبو عبيدة: أصاب في بعض وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به3.

لقد كان الأصمعي يسحر الخاصة قبل عامة المثقفين بأدبه وكلامه، وكان من الرشيد بمثابة المعلم والمرجع أو كان -بلغة هذا العصر- مستشاره الثقافي.

إن أخبار الأصمعي سواء منها ما يتعلق بما رواه، أو ما يتصل بعلمه المكتسب، أو

1 وفيات الأعيان "3/ 171" وتاريخ بغداد "10/ 416، 417".

2 تاريخ بغداد "10/ 415" ووفيات الأعيان "ص172".

3 وفيات الأعيان "3/ 172" ونزهة الألباء "109".

ص: 114

ذكائه الموهوب من الكثرة بمكان، ولكن الأمر الذي نقف عنده هو طريقته في كتابة كتبه وتأليفها، فهو صاحب منهج فريد. لقد كان يجوب البوادي بنفسه ويعايش الأعراب ويعاشرهم ويأخذ عنهم أخذًا مباشرًا، ثم يروي ذلك أو يضمنه صفحة كتاب. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى كان يعرف على الطبيعة كل ما يكتب، يعرفه حسًّا ويفقهه معنى. والدليل على ذلك قصة كتاب الخيل ومعرفته بأجزاء جسم الفرس جزءًا جزءًا وعضوًا عضوًا. إنه منهج فريد في الكتابة والوعي والتأليف.

فأما مؤلفات الأصمعي فقد ذكر له صاحب الفهرست سبعة وأربعين كتابًا في اللغة وما يتصل بها من أدب ونحو وصرف وشعر ورجز، وفي الإنسان وخلقه، وفي الحيوان من إبل وخيل وشاء ووحوش وخلقها وما يتصل بها، وفي النبات والشجر والنخيل وأنواعها، وفي جزيرة العرب وداراتها ومياهها وأنوائها، وفي الأعراب ونوادرهم وأخبارهم، وفي موضوعات أخرى تتصل بالحياة العامة وجوانب المجتمع والبيئة1. ويمكن أن نقدم مؤلفات هذا العالم الجليل على النحو التالي:

أولًا: كتب الحديث واللغة من شعر ورجز ونحو وصرف وغيرها:

كتاب المقصور والممدود، كتاب الهمز، كتاب فعل وأفعل، كتاب الأضداد، كتاب الألفاظ، كتاب اللغات، كتاب الاشتقاق، كتاب أصول الكلام، كتاب القلب والإبدال، كتاب الأصوات، كتاب الصفات، كتاب النسب، كتاب المذكر والمؤنث، كتاب معاني الشعر، كتاب الأراجيز، كتاب القصائد الست، كتاب مختاراته من الشعر وهو الذي أطلق عليه الشنقيطي الأصمعيات وسوف يأتي حديثه في مقدمة حديثنا عن طبقات الشعراء، كتاب غريب الحديث، كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي، كتاب النوادر، كتاب نوادر الأعراب.

ثانيًا: كتب اللغة والأدب والنحو والصرف والشعر:

كتاب خلق الإنسان، وكتاب الفرق "يعني الفرق بين أسماء الأعضاء في الإنسان والحيوان"، وكتاب الأجناس، وكتاب خلق الفرس، وكتاب الخيل، وكتاب السرج واللجام والشورى، وكتاب الإبل، وكتاب الرحل، وكتاب الشاء، وكتاب الوحوش، وكتاب السلاح.

ثالثًا: كتبه في النبات والشجر والنخيل وهما كتابان:

1 المطبوع من كتب الأصمعي المؤلفات الآتية: خلق الإنسان، الفرق، الخيل، الشاء، الدارات، النبات والشجر، النخل والكرم -والثلاثة الأخيرة منشورة في كتاب: البلغة في شذور اللغة للمستشرق هغنر والأب شيخو، وطبعت له أيضًَا الأصمعيات.

ص: 115

كتاب النبات والشجر، وكتاب النخلة الذي نشره الدكتور أوجست هغنر والأب لويس شيخو مع كتاب النبات وكتاب الدارات، وسماه كتاب النخل والكرم1.

رابعًا: كتبه في الجزيرة العربية وما يتصل بها وهي:

كتاب جزيرة العرب، كتاب الدارات، كتاب الأخبية والبيوت، كتاب مياه العرب، كتاب الدلو.

خامسًا: كتبه في الموضوعات التي تتصل بالحياة العامة وهي:

كتاب الأثواب، كتاب الأوقاف، كتاب الميسر والقداح، كتاب الجراح2.

والأصمعي بعد ذلك كله ملء السمع والبصر والفؤاد لكل دارس لغة أو متبحر في أدب وهو من رواد جامعي الشعر العربي ومحققي مختارات منه.

1 انظر كتاب البلغة في شذور اللغة "ص64".

2 انظر مؤلفات الأصمعي في الفهرست لابن النديم "ص88، 89".

ص: 116