المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز: - مناهج التأليف عند العلماء العرب

[مصطفى الشكعة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي

- ‌الفصل الأول: فجر الحركة العلمية

- ‌الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية

- ‌الفصل الثالث: حركة التدوين

- ‌مدخل

- ‌تدوين القرآن الكريم وتفسيره:

- ‌تدوين الحديث:

- ‌تدوين العلوم والمعارف:

- ‌الباب الثاني: الكتابة والإنشاء

- ‌الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي

- ‌مدخل

- ‌يحيى بن يعمر العدواني:

- ‌عبد الله الطالبي:

- ‌الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي

- ‌عبد الحميد بن يحيى:

- ‌عبد الله بن المقفع وتصانيفه

- ‌الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:

- ‌الفصل الرابع: مصادر النثر العربي

- ‌الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص

- ‌الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة

- ‌الفصل الثاني: المفضل الضبي:

- ‌الفصل الثالث: النضر بن شميل

- ‌الفلصل الرابع: ابن الكلبي

- ‌الفصل الخامس: أبو عبيدة:

- ‌الفصل السادس: الأصمعي

- ‌الفصل السابع: الهيثم بن عدي:

- ‌الفصل الثامن: المدائني:

- ‌الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي

- ‌الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ

- ‌الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:

- ‌الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد

- ‌الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب:

- ‌الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور

- ‌الفصل السابع: أبو بكر الصولي

- ‌الفصل الثامن: المرزباني

- ‌الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي

- ‌الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني

- ‌الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد

- ‌مدخل

- ‌ العقد الفريد:

- ‌الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني

- ‌كتاب الأغاني

- ‌مؤلفات أبي الفرج:

- ‌قيمة كتاب الأغاني ومنهجه:

- ‌مختصرات الأغاني:

- ‌الباب السادس: كتب الأمالي:

- ‌الفصل الأول: نشأة الأمالي

- ‌الفصل الثاني: مجالس ثعلب

- ‌الفصل الثالث: أمالي اليزيدي

- ‌الفصل الرابع: أمالي القالي

- ‌مدخل

- ‌ذيل الأمالي والنوادر:

- ‌الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:

- ‌الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى:

- ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

- ‌الباب السابع: طبقات الشعراء

- ‌الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي

- ‌مدخل

- ‌طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي:

- ‌الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

- ‌الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني:

- ‌الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:

- ‌الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات

- ‌الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات

- ‌السموط أو المعلقات:

- ‌المفضليات:

- ‌الأصمعيات:

- ‌جمهرة أشعار العرب

- ‌ شعر القبائل:

- ‌شعر الهذليين:

- ‌الفصل الثاني: كتب الحماسة

- ‌مدخل

- ‌حماسة أبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري

- ‌ حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر

- ‌ الحماسة الشجرية

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌الباب التاسع: كتب التراجم

- ‌الفصل الأول: الفهرست لابن النديم

- ‌مدخل

- ‌الفهرست لابن النديم

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ تاريخ بغدادللخطيب البغدادي:

- ‌ تاريخ بغداد

- ‌منهج كتاب تاريخ بغداد:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ معجم الأدباءلياقوت الرومي:

- ‌ معجم الأدباء

- ‌منهج ياقوت في معجم الأدباء:

- ‌الفصل الرابع: وفيات الأعيان

- ‌وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:

- ‌فوات الوفيات:

- ‌الوافي بالوفيات

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر

- ‌مدخل

- ‌منهج "خلاصة الأثر

- ‌الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي:

- ‌الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس:

- ‌الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌قلائد العقيان، ومطمح الأنفس

- ‌قلائد العقيان:

- ‌مطمح الأنفس ومسرح التأنس

- ‌الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:

- ‌ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه:

- ‌التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:

- ‌منهج "المغرب" وخصائصه:

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد:

- ‌رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة:

- ‌الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس:

- ‌كتب التراجم لأدباء الأندلس

- ‌سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة

- ‌المطرب في أشعار أهل المغرب:

- ‌الفصل السادس:‌‌ لسان الدينبن الخطيب والكتيبة الكامنة

- ‌ لسان الدين

- ‌منهج الكتيبة الكامنة:

- ‌الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس:

- ‌ المقتبس في أخبار الأندلس:

- ‌ تاريخ المن بالإمامة:

- ‌ المعجب في تلخيص أخبار المغرب:

- ‌ الحلّة السِّيراء:

- ‌ البيان المُغرب في أخبار المَغرب:

- ‌ الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة:

- ‌الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية

- ‌ المشارقة والأدب الأندلسي:

- ‌ المقري ونفح الطيب:

- ‌ منهج نفح الطيب وموضوعاته:

- ‌الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية

- ‌الفصل الأول:‌‌ ظهور الموسوعة العربيةوالعصر المملوكي

- ‌ ظهور الموسوعة العربية

- ‌الموسوعات والعصر المملوكي:

- ‌الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها:

- ‌ابن منظور ولسان العرب:

- ‌النويري ونهاية الأرب:

- ‌صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي:

- ‌ابن فضل العمري ومسالك الأبصار

- ‌القلقشندي وصبح الأعشى:

- ‌المقريزي ومؤلفاته:

- ‌ابن حجر ومؤلفاته:

- ‌ابن تغري بردي ومؤلفاته:

- ‌السخاوي وكتبه:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكيبواكير الموسوعات:

- ‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكي

- ‌بواكير الموسوعات:

- ‌المراجع

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

إن هذا الكتاب سِفر نفيس لمؤلف يختلف عن بقية المؤلفين والأدباء؛ لأن مؤلف الكتاب شاعر مبدع وكاتب كبير، وهو إلى ذلك عالم جليل وناقد ذواقة، وهو بعد ذلك وقبله ملك سليل ملوك، إنه عبد الله بن الخليفة المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن أبي جعفر المنصور. إنه ينحدر من أصلاب ستة ملوك جلسوا على أشهر عروش الدنيا، وهو عرش بني العباس.

ولكن كلا من عبد الله وأبيه كان سيء الحظ؛ لأن عبد الله تولى الخلافة ليوم واحد ثم قتل، وأبوه تولاها لفترة أربعين يومًا وقتل، بل إن جده المتوكل مات قتيلًا هو الآخر، إنه ثلاثي ملكي بائس منحوس، ولكن عبد الله إذا كان منحوسًا في دنيا السياسة وعلى دست العروش فقد كان سعيدًا مسعدًا في دنيا الأدب، ومحافل المعرفة وميادين الثقافة ومضامير الفنون.

إن عبد الله قد رُبِّي كما كان يربى أبناء ملوك بني العباس، كان يستدعى لهم عظام أساتذة زمانهم حتى تستوي لهم أسباب المعرفة من دينية ودنيوية، وحتى تتهيأ لهم أطراف الثقافة، ففي الحسبان أن كل واحد منهم معدٌّ؛ لأن يكون ملكًا، وقد اشتهر جميع ملوك بني العباس بالثقافة والعلم والمعرفة باستنثاء المعتصم، فقد كان كل اهتمامه منصبًّا إلى قيادة الجيش وخوض المعارك، وفيما عدا ذلك فقد كانوا في مكانة سامية من المعرفة وعلى ذرى رفيعة من الثقافة بل كان منهم المأمون الذي عده بعض المؤرخين أبًا للثقافة والمعرفة.

فعبد الله والحال كذلك كان له من الأساتذة من قد عدوا نجوم المعرفة على زمانه مثل محمد بن يزيد المبرد العالم الأديب اللغوي الكبير، وكان منهم أيضًا أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب، ومحمد بن هبيرة الأسدي صاحب الفراء وأحمد بن صالح المشهور بابن أبي فنن.

ص: 355

هذا وكان عبد الله بن المعتز ذكيًّا أديبًا فطنًا نابهًا ذا نظرات وأعماق، ومن كانت هذه طبيعته وتلك نشأته، فإننا لا نتوقع منه مجرد شاعر أو مؤلف كتاب واحد لأبناء فنه، وإنما ترك عبد الله مجموعة من الكتب بينها الرائد الأصيل والقيم النفيس، لقد ألف ابن المعتز اثني عشر كتابًا في الأدب والشعر، والبديع، والصيد، والسرقات، والغناء، والطبقات وغيرها وها هي مؤلفاته1:

1-

كتاب الزهر والرياض.

2-

كتاب البديع.

3-

مكاتبات الإخوان بالشعر.

4-

كتاب الجوارح والصيد.

5-

كتاب أشعار الملوك.

6-

كتاب الآداب.

7-

كتاب حلى الأخبار.

8-

كتاب طبقات الشعراء

9-

كتاب الجامع في الغناء.

10-

كتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح.

11-

كتاب السرقات.

12-

كتاب فصول التماثيل.

13-

كتاب فيه أرجوزة في تاريخ بني العباس.

14-

ديوان شعر كبير.

إن هذا التراث الضخم من الآداب والفنون خلفه ابن المعتز للمعرفة وألفه على قصر حياته، إنه لم يعش أكثر من تسع وأربعين سنة هجرية فقد ولد سنة 247 وقتل سنة 296هـ، ولكن حياته على قصرها كانت حياة عريضة خصيبة رغم ما كان يتورط فيه من ملاذٍّ وإقبال على الشراب والمنادمة كما يفعل أكثر أبناء الملوك في كل زمان.

على أن الذي يهمنا بصفة أصلية في هذا المجال هو كتابه طبقات الشعراء، وإنما ذكرنا هذه النبذة القصيرة عن حياته وصفاته حتى يكون تمثلنا لكتابه تمثلًا صحيحًا، فالكتاب غالبًا صورة لصاحبه.

غير أننا ونحن نذكر كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز لا بد لنا من أن نذكر كتابًا آخر

1 الفهرست "ص17".

ص: 356

ألَّفه أديب معاصر له، وتكاد الصورة تتكرر لما حدث، ونحن نقدم الشعر والشعراء لابن قتيبة، ففي الوقت الذي كان فيه ابن قتيبة والجاحظ فرسي رهان في ميدان التأليف والمعرفة ويؤلف كل منهما في الشعر، الأول يكتب عن الشعر والشعراء وترفق به الأقدار حتى يصل إلينا، والثاني يكتب كتابه "من اسمه عمرو من الشعراء" ويضيع ولا يصل إلينا، نجد أن كلا من ابن المعتز وهو طبقات الشعراء فإنه يصل إلينا، وأما كتاب الثاني وهو "البارع" في أخبار الشعراء المولدين، فإنه ضاع ولم يصل إلينا، غير أن هناك فرقًا شاسعًا في القيمة الفنية بين كتيب الجاحظ "من اسمه عمرو من الشعراء" وكتاب ابن المنجم "البارع" فقد مجد المؤرخون الكتاب الثاني وذكروا الكثير من فضله وقيمته، فابن خلكان رأى الكتاب، ويقول عنه:"صنف كتاب "البارع" في أخبار الشعراء المولدين، وجمع فيه مائة وواحدًا وستين شاعرًا وافتتحه بذكر بشاد بن برد العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه.." وينقل ابن خلكان طرفًا من منهج الكتاب الذي أثبته صاحبه في مقدمته على المنوال الذي سار عليه كبار المؤرخين، وابن المنجم هارون هذا من أفاضلهم فيقول: "إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم، وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي، والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره، وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله1. ويذكر ابن خلكان على لسان ابن المنجم أن هذا الكتاب أي البارع مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلًا فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر الذي هو مائة وواحد وستون شاعرًا. ويمضي ابن خلكان في تعريفه بالكتاب فيقول: إنه يغني عن دواوين الجماعة الذين ذكرهم، فإنه اختصر أشعارهم وأثبت منها زبدتها وترك زبدها، ويسجل صاحب الوفيات مرة أخرى أن كتاب الخريدة للعماد الأصفهاني وكتاب الحظيري وكتاب الدمية للباخرزي وكتاب اليتيمة للثعالبي -وهي من أمهات كتب الشعر وتراجم الشعراء- فروع عليه، وهو الأصل الذي نسجوا على منواله.

وهذا القول الذي أذاعه ابن خلكان عن كتاب ابن المنجم كلام خطير جدًّا، فإذا كانت قيمة كل من التيمية والخريدة ودمية القصر والسلسلة المتفرعة منها ما تعلم خطرًا وقدرًا، وكان معنى ذلك أن كتاب "البارع" هو الأصل في كتب الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء التي التزمت الترجمة لعصر بعينه، ولنا في ذلك رأي سوف نوضحه فيما يستقبل من حديث.

إننا -وقد جنحنا في مجال الحديث عن ابن المعتز إلى ما يمكن أن يسمى استطرادًا

1 وفيات الأعيان "5/ 127".

ص: 357

ضروريًّا- نرى أن ابن المعتز في تقدمته لكتابه يقول1:

"خطر علي الخاطر في بعض الأفكار أن أذكار في نسخة ما وضعته الشعراء من الأشعار في مدح الخلفاء والوزراء والأمراء من بني العباس؛ ليكون مذكورًا عند الناس، متابعًا لما ألفه "ابن نجيم" قبلي بكتابه المسمى "بطبقات الشعر الثقات" مستعينًا بالله المسهل الحاجات وسميته طبقات الشعراء المتكلمين من الأدباء المحدثين".

فنحن أمام قضيتين كلاهما على جانب من الأهمية، فيما يتعلق بكتاب طبقات الشعراء لابن المعتز، الذي هو في نظر الباحثين والمتأدبين من أهم كتب الطبقات وفي صدر الصفوة منها لما له من مميزات كثيرة سوف نعرض لها بعد قليل.

القضية الأولى أن الهدف من الكتاب كانت الترجمة لمن مدح بني العباس من الشعراء حتى زمن ابن المعتز، وتبعًا لذلك فإن ابن المعتز يكون قد أهمل في كتابه الشعراء الذين لم يمدحوا بني العباس مهما خطر شأنهم ونفس شعرهم، وهذا يفسر لنا لماذا بدأ ابن المعتز كتابه بالشاعر ابن هرمة السكير الذي بلغ به الدلال عند الخليفة العباسي بحيث يجعله يكتب إلى عامله بالمدينة ألا يوقع عليه حد الخمر إذا ضبط سكران حسب القصة الطريفة المروية في كتب الأدب، ويثني ابن المعتز في كتابه بالحديث عن بشار بن برد الذي كان على كراهيته لبني العباس صاحب قصائد طويلة عديدة في المهدي، ثم يثلث بالحديث عن السيد الحميري الذي كان على تشدده في تشيعه وإيمانه برجعة محمد بن الحنفية يمدح المنصور وبني العباس. ويظل ابن المعتز يقدم الدراسة تلو الدراسة حتى ينهي كتابه بالحديث عن الشاعرات على عهد بني العباس متوقفًا عند فصل الشاعرة.

وأما القضية الثانية فهي ما ذكره ابن المعتز من أنه أنشأ كتابه متابعًا لما ألفه ابن نجم قبله بكتابه المسمى "بطبقات الشعر الثقات" وكان أول ترجمة اشتمل عليها كتاب ابن نجيم هي ترجمة بشار بن برد.

إننا الآن أمام مشكلة ينبغي أن نصل فيها إلى حل، فهل ابن نجيم الذي سار على دربه ابن المعتز هو نفسه ابن المنجم سالف الذكر، إن الفرق كبير بين الاسمين من حيث الرنين والكتابة بحيث أن وقوع اللبس فيهما لا يعتبر من الأمور التي يسهل تصورها، ولكن محقق كتاب طبقات ابن المعتز يعتبرهما شخصًا واحدًا وليس أمامه إلا دليل واحد، وهو أن كلًّا من الكتابين أي كتاب البارع وكتاب "طبقات الشعر الثقات" قد استهل ترجماته ببشار بن برد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلا بد أنه -أي محقق طبقات ابن المعتز قد حاول أن يصل

1 طبقات ابن المعتز "ص18".

ص: 358

إلى ترجمة أو معرفة شيء عن ابن نجيم في كتب التراجم وتاريخ الأدب فلم يوفق إلى ذلك، ومن ثم فقد اعتبر الكتابين كتابًا واحدًا وأن ابن نجيم الذي أخذ عنه ابن المعتز هو نفسه ابن المنجم صاحب البارع.

ولقد حاولنا من جانبنا أن نعثر على من اسمه ابن نجيم في جميع ما هدانا إليه تفكيرنا وما أسعفتنا به خبرتنا من مظانٍّ فلم نعثر على مؤلف في الشعر بهذا الاسم، ومن ثم فنحن نميل إلى تصور صحة ما ذهب إليه محقق ابن المعتز من أن ابن نجيم هو نفسه ابن المنجم هارون بعد تحريف المهملين من النساخ، ونزيد على ذلك بأننا نتصور أن كتاب "طبقات الشعر الثقات" الذي أورد ابن المعتز ذكره وأخذ عنه، هو الكتاب الكبير الذي ألفه هارون ابن المنجم والذي نعته بالطول ورأى أن يختصره "فاختصر أشعارهم، وأثبت منها زبدتها وترك زبدها". ثم رأى ابن المنجم أن يضع اسمًا جديدًا لكتابه المختصر فاختار له اسم "البارع" في إخبار الشعراء المولدين.

إن هذا الذي سطرناه إنما هو من ضرب الاستنتاج القائم على حدود المنطق حتى يظهر غير ذلك، وحتى نعثر في كتب التراجم أو الطبقات، أو تاريخ الأدب على من اسمه ابن نجيم.

هذا ونحب أن نشير إلى أن هارون بن المنجم هذا كان حافظًا راوية للأشعار حسن المنادمة لطيف المجالسة ومات في ريعان شبابه سنة 288هـ أي قبل ابن المعتز بثماني سنوات، وله من الكتب غير ما ذكرنا "كتاب النساء" وما جاء فيهن من الأخبار، ومحاسن ما قيل فيهن من الأشعار، هذا فضلًا عن كونه شاعرًا بذاته وفي شعره لمحات رقة مع أخذ بأسباب رعونة الشباب فهو القائل:

الغانيات عهودهن

إلى انصرام وانقضاب

من شاب شبن له المود

ة بالخديعة والكذاب

ما دمت في ورق الصبا

وغصونه الخضر الرحاب

فافخر بأيام الصبا

واخلع عذارك في التصابي

واعط الشباب نصيبه

ما دمت تعذر بالشباب

هذا هو هارون المنجم رأس مدرسة أصحاب الطبقات الذين تخصصوا في تقديم شعراء بعينهم قالوا في غرض بعينه محدود بفترة زمنية وحدود مكانية.

هذه الوقفة الطويلة مع ابن المنجم وتحديد معالم شخصيته كانت أمرًا لا مفر منه قبل أن

ص: 359

ندلف إلى لب الحديث عن كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز.

لقد عرف ابن المعتز عند طائفة من جمهرة الدارسين بأنه الشاعر المترف الملكي في أسلوبه ونهجه وتفكيره، وبناء صيغته ورسم صوره وانتقاء ألفاظه واختيار كلامه، وهذا صحيح كل الصحة، إلا أن لابن المعتز وجهًا آخر هو وجه الأديب العالم الناقد الذواقة الراوية الذي كان يتقمص شخصية العالم ويلبس لباس الوقار ويرتدي قميص التواضع عندما يعمد إلى كتابة الجد الخطير من الكتب أو القضايا، فهو حين يستهل كتابه طبقات الشعراء ويقدم له، يقول: أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله المتوكل على الله

إلخ. وآية ذلك الكتب الاثنا عشر التي ألفها وعددناها في صدر هذا الحديث والتي أشهرها دون شك كتاباه: "طبقات الشعراء" و "البديع" اللذان طبقت شهرتهما الآفاق، وهما بذلك جديران؛ لأنهما يعتبران نوعًا من الإنجاز العلمي الرائد الرفيع مما لا يفترض فيه أن ينجز مثل هذا العمل الرائع لسببين ظاهرين، السبب الأول أنه أمير أعد نفسه للملك والأمراء يعدون أنفسهم للملك بطريق الثقافة وليس بطريق التأليف، والملوك المؤلفون قلة نادرة لا تكاد تعي منهم ذاكرتي غير أبي الفدا ملك حماة صاحب كتاب التاريخ المعروف باسمه من المشارقة، والسبب الثاني أن ابن المعتز لم يعمر كما عمر غيره من عمالقة المؤلفين الذين لم تكن أعمارهم في المتوسط تحد بأقل من السبعين عامًا، وتمتد أحيانًا إلى المائة وما فوقها، لقد ولد العالم الشاعر الأمير الخليفة سنة 247هـ وقتل 296هـ فيكون قد عاش تسعة وأربعين عامًا هجريًّا، ولم يخل معظمها من اضطهاد وأذى على رغم كونه أميرًا مما اضطره إلى مصانعة من هم دونه مقامًا، وأقل منه رتبة فمدحهم بشعره وهنأهم في المناسبات السقيمة مثل ما فعل مع عبد الله بن عبد الله بن طاهر أو الوزراء من أبناء أسرة الوهبيين.

وإذن فحياة ابن المعتز مليئة بالبركة والسعة والعمق من ناحية الإنتاج الفكري والعلمي، كما كانت عريضة من حيث اللهو واقتناص اللذات.

وأما اسم الكتاب كاملا كما ذكره ابن المعتز، وسماه بنفسه فهو "طبقات الشعراء المتكلمين من الأدباء المتقدمين"1، على أن الذين عرضوا للكتاب بعد ذلك بالشرح أو التحقيق أسموه تارة "طبقات الشعراء المحدثين" وتارة أخرى أطلقوا عليه "طبقات الشعراء" وهو الاسم الذي سار عليه جمهرة الدارسين من بعد، وعرف به حتى الآن.

إن طبقات الشعراء هو ثالث كتاب كبير مشهور مطبوع بين أيدينا لهذا اللون من الدراسة بعد ابن سلام وابن قتيبة، وهو السادس بين الكتب المشهورة، ولكن لعبت يد الضياع ببعض

1 الطبقات "18".

ص: 360

منها وترتيبها هكذا: طبقات ابن سلام الجمحي، ثم من اسمه عمرو من الشعراء للجاحظ، ثم الشعر والشعراء لابن قتيبة، ثم البارع لهارون بن المنجم، ثم من سمي عمرًا من الشعراء في الجاهلية والإسلام، والورقة لمحمد بن داود الجراح وزير ابن المعتز خلال يوم خلافته، وقد تم تحقيقه وتهيئته للطبع على يد المستشرق كرنكو في ليبسك، ثم كتاب الطبقات لابن المعتز هذا الذي بين أيدينا.

وإذا كان لنا أن نزيد طبقات ابن المعتز تعريفًا فإننا يمكن أن نذكر ما يمتاز به عن الكتب السابقة له بما يلي:

أولًا: أن الكتاب تخصص في عصر بعينه فذكر شعراءه، وهم الشعراء الذين مدحوا بني العباس واتصلوا بهم بمن في ذلك الشعراء من مخضرمي الدولتين، فأولئك المخضرمون الذين مدحوا بني العباس أمثال ابن هرمة وابن ميادة وسديف وغيرهم، فضلًا عن بقية الشعراء الذين عاشوا إلى زمن تأليفه الكتاب، وكل أولئك قد قدم لهم ابن المعتز شيئًا من أشعارهم وأطرافًا من أخبارهم بحيث بلغ مجموع الشعراء الذين كتب عنهم مائة واثنين وثلاثين شاعرًا.

ثانيًا: يعترف ابن المعتز بأنه لا يهتم بكل شعر الشعراء وأخبارهم، فذلك موجود في دواوينهم - ولا شك أنها كانت موفورة طوع اليدين على أيامه- وإنما هو يقدم من الشعر ما ليس موجودًا إلا عند الخواص، وهو بذلك يقدم من هذا الشعر غير المعروف للجمهرة قصائد أو مقطوعات1.

ثالثًا: طبيعة الأديب الناقد الكامنة في شخصية ابن المعتز جعلته يقدم كتابه بأسلوب رخي رضي شائق، ثم هو بعد ذلك ينقد ويزن ويبدي رأيه في القصائد أو المقطعات طبقًا لمعايير نقدية صالحة مقبولة، وهو حسن الاختيار جيد الانتقاء.

رابعًا: برغم أن الكتاب كتاب طبقات إلا أنه لم يهمل الأحداث التاريخية الدقيقة التي ربما لم يلتفت إليها جمهرة المؤرخين؛ لأنها في نظرهم لم تكن تعني شيئًا خطيرًا، ولكنها من وجهة نظر مؤرخ الأدب تعني الكثير، وتشكل مفاتيح لقضايا كثيرًا ما كانت تبدو مغلقة، فهو يؤرخ للأحداث بعامة والمرتبطة بقصائد بعينها بخاصة كما هو الحال عند الحديث عن سديف وأبي نخيلة الراجز، إنه كثيرًا ما يذكر الشيء المهم الذي أهمله التاريخ.

خامسًا: يذكر ابن المعتز في "طبقاته" بعض القصص والأخبار بأسلوب مترسل لطيف ويصف ألوانًا من الحياة الاجتماعية على زمانه ويصور زوايا بعينها من المجتمع بشيء من رقة

1 المصدر "48".

ص: 361

الأديب وانطباع الإنسان فيجمع بين قصص المجون التي حدثت، والقصص الإنسانية المتعلقة بالأدباء والتي يمس بعضها أوتار القلوب مسًّا عميقًا مثل قصة محمود الوراق وجاريته سكن1.

سادسًا: يعمد ابن المعتز إلى ذكر أطراف من المساجلات الشعرية التي كانت تحدث بين سابقيه اللهم إلا ما ذكروه من نقائص، والمساجلات بطبيعة الحال لون أرقى من النقائض وأرق وأنظف وأعطر.

سابعًا: يذكر ابن المعتز بين الحين والحين طرفًا أدبية وملحًا اجتماعية ونكات تدفع الابتسامات إلى الشفاه دفعًا، وهو في ذلك لم يخرج عن منهج موضوعه، ولكنه لا شك رتب ذلك في نطاق سلامة منهجه حتى يبعد الملل عن نفس قارئه ويثير الفضول إلى متابعة قراءة ما يقدم من أدب، ويحلق عنصر تشويق وإمتاع لمتابعي كتبه2.

ثامنًا: وامتدادًا للعنصر السابق من عناصر ميزات طبقات ابن المعتز ما يرمي به المؤلف في طريق القارئ وأما عينيه من أبيات للحمقى تثير الضحك والإشفاق أو قصائد للشعراء الهزليين الفكهين الذين ينتزعون الضحك انتزاعًا من أعماق القلوب، وفي أقل القليل يكون هذا الشعر عامل تسرية ومبعث ترفيه، على أن المؤلف قد لا يحتشم في بعض الأحيان ولكنها قليلة -فيأتي بشعر ماجن ولكن في مقام الإضحاك أيضًا.

وأما المآخذ التي يمكن أن تسجل على كتاب طبقات ابن المعتز، فلعل أهمها أنه كان به شيء من الأنانية، وقليل من البعد عن الموضوعية، فهو يهمل ذكر عدد كبير من الشعراء عن عمد مع أن بعضهم مدحوا قومه وهم من الشعراء الأعلام وفي مقدمتهم ابن الرومي وديك الجن ويحيى بن زياد الحارثي.

ولكن لعل لابن المعتز عذرًا في أن يخلي كتابًا ألفه من قوم أنف أن يكونوا نجومًا على صفحاته، فابن الرومي كان معاديًا لابن المعتز، وكان يعيش في كنف القاسم بن عبيد الله الذي كان واحدًا من الذين أوقعوا بابن المعتز كثيرًا من الأذى. هذا ولا يستطيع ابن المعتز -وهو محق في ذلك كل الحق- أن ينسى لابن الرومي هجاءه في أبيه المعتز بالله يوم أن خلع عن كرسي الخلافة، وابن الرومي سليط اللسان مر الهجاء. إن ابن المعتز لا يستطيع أن ينسى قوله في أبيه:

1 الطبقات "385، 367".

2 المصدر "55، 59، 342، 374".

ص: 362

دع الخلافة يا معتز عن كثب

فليس يكسوك منها الله ما سلبا

أترتجي لبسها من بعد خلعكها

هيهات هيهات فات الضرع ما حلبا

تا لله ما كان يرضاك المليك لها

قبل احتقابك ما أصبحت محتقبا

فكيف يرضاك بعد الموبقات لها

لا كيف، لا كيف إلا المين والكذبا

إن ابن المعتز، وهو إنسان له مشاعر البنوة وعزة الإمارة لا يؤاخذ إذا ما أهمل ذكر ابن الرومي في كتاب ألفه.

وقد يكون لابن المعتز رأي مقبول في إهمال ذكر الشاعر عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن، فابن المعتز أمير عربي هاشمي من بيت الملك الهاشمي الذي ذاق المتاعب، وغرق في الفتن بسبب تآمر الشعوبيين، وكان ديك الجن من أكثر الناس كراهية للعرب، وأشدهم عصبية عليهم وشعوبية ضدهم، ومن ثم فقد يكون هذا هو السبب في إهمال شأنه.

وأما بالنسبة لإهمال ذكر يحيى بن زياد الحارثي، فإنه كان من كبار الزنادقة بل كان كبيرهم، وكانت صفة الزنديق على عهده لا تنصرف إلى أحد إلا إلى يحيى الحارثي، وكان يحيى على زندقته موسومًا بالظرف، فكان الناس إذا وصفوا إنسانًا بالظرف قالوا: هو أظرف من الزنديق، يعنون بذلك يحيى الحارثي. وابن المعتز رغم انغماسه في الترف وتورطه في المجون فما عرف عنه انحراف في عقيدته ولا ترخص فيها، وهو لذلك ربما كره أن يذكر في كتابه إنسانًا كان يتفاخر بزندقته ويعلنها على الناس في غير ما تحرج ولا تحشم.

بقي بعد ذلك أن ابن المعتز لم يكن يذكر سنوات وفاة شعرائه إلا نادرًا، إنه لم يكن يرى أن ذلك شيء ضروري بالنسبة إليه؛ لأنه يؤرخ لمجموعة من الشعراء في فترة محددة بما يزيد قليلًا على قرن واحد من الزمان، فهو لذلك كان يصرف اهتمامه إلى الفترة الزمنية التي عاشها الشاعر لا إلى التاريخ المحدد الذي يحد ميلاده ووفاته.

ومهما كان الأمر فكتاب طبقات الشعراء لابن المعتز يمثل لونًا فريدًا من التأريخ للشعراء ودراسة شعرهم، وهو بعد ذلك يعتبر بداية للتخصص في ميدان كتب طبقات الشعراء.

ص: 363