الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:
إن المتابع لمسيرة التأليف ومناهجه في الثقافة العربية لا يستطيع أن ينتهي إلى نتائج سليمة وأحكام ثابتة دون أن يواكب مسيرة الكتابة نفسها كفن أساسي ولد في رحاب الحضارة الإسلامية، وأخذ ينمو ويرتقي ويسمو نهجًا وفنًّا؛ لأنه أداة التعبير ووسيلة تسطير التفكير الذي يشكل قضية أو رسالة أو مسألة أو كتابًا -سمّها ما شئت- غير أن حصاد ذلك هو المكتبة العربية الغنية بكل فنون العلوم ووجوه المعرفة.
إن الكتابة تصبح مدرسة، ويصبح الكتاب أساتذة مجتمعاتهم، ثم توكل إليهم شئون الدولة فيسند إليهم الخلفاء العباسيون مناصب الوزارة. وقد سبقهم إلى ذلك بعض الأمويين على آخر العهد بدولة بني مروان. فنحن نسمع عن أسر بعينها تولت الوزارة عن طريق الكتابة وإتقان شئون السياسة والثقافة كالبرامكة، والصوليين، وبني سهل، وبني وهب وبني ثوابة وبني الفرات وغيرهم أسر كثيرة يمكن مراجعة أخبارهم وآدابهم في كتب الأدب والتاريخ.
ففي نطاق البرامكة كان أبلغهم أسلوبًا وأفصحهم كتابة يحيى بن خالد وولداه الفضل وجعفر، وكان يحيى وابنه الفضل بالذات من أرفع الناس خلقًا وأكثرهم شمائل.
إن ليحيى بن خالد كلمات ينبغي أن تخلد في سمع الزمان لعمق معناها ونفاسة محتواها، كقوله: لست ترى أحدًا تكبر في إمارة إلا وقد دل على أن الذي نال فوق قدره، ولست ترى أحدًا تواضع في إمارة إلا وهو في نفسه أكبر مما نال في سلطانه1. إنه مطلوب من كل حاكم مشرقي أن يعي هذا الذي قاله يحيى البرمكي قبل اثنى عشر قرنًا من الزمان، ويحيى نفسه هو القائل: الكريم إذا تقرأ -يعني تنسك- تواضع، واللئيم إذا تقرّأ تكبّر، والخسيس إذا أيسر تجبّر.
1 الكتاب والوزراء للجهشياري "ص203".
إن يحيى البرمكي تحل به المصيبة في ولده وماله وجاهه ويوضع في السجن، وهو شيخ كبير هو ومن بقي من أولاده، ويحس الرجل ببراءته وبأن الذي حل به وبأولاده لم يزد على كونه مؤامرة لإقصائهم ووصول حساده إلى الحكم فيكتب إلى الرشيد من سجنه هذه الصفحات المشرقة من أسلوب الكتابة العربية1:
"لأمير المؤمنين وخليفة المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان، فحل في الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الضعة، وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهاد بعد الهجود، ساعته شهر، وليلته دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعًا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفًا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك، وكانا في يدي عارية؛ والعارية مردودة، وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك من الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده، فتذكر يا أمير المؤمنين كبر سني، وضعف قوتي، وارحم شيبي وهب لي رضاك، بالعفو عن ذنب إن كان، فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضى عني، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تعفره، مد الله لي في عمرك، وجعل يومي قبل يومك".
هذا النمط السامي القدر الرفيع الصوغ من الكتابة عاش في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري، فأي سرعة فائقة تلك التي واكبت الكتابة العربية فسمت بها في هذه المدة القصيرة من الزمان وكانت قبل ذلك عدمًا، إننا نكاد نحس بالمعاني وكأن وعاء اللفظ لا يسعها، ونكاد نحس بالألفاظ، وهي تصرخ معبرة عن معانٍ عميقة تشرح لوعة منكوب وذل عزيز مظلوم وصيحة شيخ لا حول له ولا قوة، إن لغة مثل هذه لا يستعصي عليها أن تكون أداة طيعة لتأليف الكتب لبداية بناء المكتبة العربية.
ويموت يحيى البرمكي السياسي الحاذق الحكيم في السجن، ويبحث له عن وصية فإذا بورقة تحت وسادته تضم أشهر وأبلغ الوصايا مرارة في تاريخ العربية:"قد تقدم الخصم، والمدَّعَي عليه في الأثر، والحكم لا يحتاج إلى بينة"2.
وتنتهي أجيال الحكام من البرامكة، وتأتي أجيال أخرى لأسرة أخرى تركية هي أسرة بني
1 جمهرة رسائل العرب "3/ 221".
2 الكتاب والوزارء "ص261".
صول، ويلمع منها ثلاثة: الوزير عمرو بن مسعدة الكاتب البليغ ذو القلم الرهيب والرأي الحصيف. إن رواتب قواد المأمون وجنوده تتوقف وتتأخر، ومعنى ذلك في زمن العباسيين وثورة تطيح بالخلافة والحكم، وإن أمرًا كهذا أودى بخلافة موقتة تسنم سدتها إبراهيم بن المهدي، وبخلافة أخرى كان على سدتها المعتز بالله بن المتوكل. وإذا ما أراد أي كاتب أن يكتب للخليفة في مثل هذا الأمر فر مفر من أن يهتز القلم في يده ليصدر عن عبارات الإنذار والخوف وتوقع المكروه. ولكن عمرو بن مسعدة يبلغ الخليفة بهذا الأمر الخطير على هذا النهج من المقال:"كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة، على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم"1.
هذا أيضًا ضرب جديد من بلاغة القول ونبوغ التنبيه وبراعة التعبير، ولذلك فإن المأمون الخليفة يمسك بالكتاب في يده، ويعيد قراءته، يصعد البصر فيه ويصوبه ويقول لسامعه: قرأت كتابًا وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة، فإني سمعته يقول:"البلاغة التباعد من الإطالة، والتقريب من البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى".
ويلمع نجم آخر في أسرة الصوليين في الكتابة والشعر، إنه إبراهيم بن العباس الصولي. إنه يكتب رسالة في خمسة أسطر لا غير على لسان المتوكل إلى أهل حمص وكانوا خارجين عليه متعصبين ضده، فما تكاد تقرأ على منبرهم حتى تخمد الفتنة لقوة ما صدعت الرسالة على قصرها من أفئدتهم، إنها أربعة أسطر وبيت شعر، وفيها يقول إبراهيم:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله عليه ما قوم به من أود، وعدل به من زيغ، ولم به من منتشر، استعمال ثلاث يقدم بعضها على بعض، أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تخدير وتخويف، ثم التي لا يقع بحسم الداء غيرها:
أناة، فإن لم تغن عقب بعدها
…
وعيدًا، فإن لم يغن أغنت عزائمه2
إن المتوكل يسمع الكتاب يتلى على مسامعه قبل إرساله، فينظر إلى صديقه ووزيره الفتح بن خاقان قائلًا له بل صارخًا في إعجاب: أما تسمع؟!!
هذا ما كان من إبراهيم الصولي والكتابة، وأما في ميدان الشعر فإن دعبلًا الخزاعي الشاعر المطبوع المرموق يقول عنه: لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا في غير
1 نهاية الأرب "7/ 260".
2 معجم الأدباء "1/ 171".
شيء، غير أنه لم يصل إلينا من شعر إبراهيم إلا القليل حتى نحكم عليه.
ويلتمع في سماء أسرة الصوليين نجم ثالث، هو أبو بكر محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي ويكون لمعانه في ميادين عدة ولكن أهمها التأليف الأدبي، لقد ألف كتبًا في أخبار عدد من الشعراء، وفي أشعار أولاد الخلفاء، وجمع شعر نوابغ شعراء العربية على ما سوف نبينه تفصيلًا في باب التأليف.
على أن النبوغ في الكتابة لم يكن مقصورًا على أسر بعينها، فكم من أفراد من عامة الناس فرضوا أدبهم على الخلفاء وعلى التاريخ دون ما سند من جاه إلا جاه العلم، أو ركيزة من قوة إلا قوة الثقافة، إن من بين هؤلاء من تولى الوزارة مثل أحمد بن يوسف، ومثل محمد بن عبد الملك، وكان أبوه يبيع الزيت في بغداد، وقد كان كلاهما من ألمع وأبلغ وآدب وزراء العباسيين. ومنهم من فرض نفسه على التاريخ لنبوغه وعبقريته دون ما سند ما وظيفة أو جاه من سلطان مثل أبي عثمان الجاحظ، وابن قتيبة الدينوري. إن للجاحظ رسائل تضعه بل وضعته في قمة كتاب العربية سواء من ناحية الفكرة أو من ناحية الأسلوب، وهو بتملكه الأسلوب وانقياد القلم لقريحته قدم من صنوف المعرفة على صفحات كتبه التي تعد بالمئات ما تفخر به المكتبة العربية إلى يومنا هذا الذي نعيشه، بل لا نكون مبالغين إذا ما قلنا: إن الفكر الإنساني ليفخر به.
إنه ليس من شأن هذا الكتاب أن يخوض في فن الكتابة إلى أعماق أكثر من ذلك، فهذا لا يدخل في منهج هذ الكتاب، وإنما الذي نريد أن نصل إليه، هو أن الكتابة، وهي أداة التأليف، قد اكتمل شبابها واستوى عدوها بحيث أصبحت هي نفسها فنًّا مستقلًّا هو فن النثر، وهي بالإضافة إلى ذلك كانت أداة النابهين من مؤلفينا في تأليفهم كتبهم الكثيرة الوفيرة الثمينة التي سوف يأتي ذكرها وذكر أصحابها من المؤلفين في مكانهم المناسب من هذا الكتاب.
غير أن الموضوع الذي نقف أمامه هنا هو الكتابة من حيث كونها، فنًّا أعني من حيث كونها نثرًا، وبالتالي فإن منهج هذا الكتاب يقتضينا أن نضع بين يدي قارئه مصادر النثر العربي.