الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الرغم من التزامه فترة زمنية معينة هي القرن العاشر على مساحة الأرض الإسلامية كلها، ذلك أنه قسم القرن إلى ثلاثة أثلاث، أطلق على أعيان كل ثلث لقب "طبقة" وبدأ الترجمة "للمحمدين" في كل طبقة وبعدها يلتزم الأعلام المبتدئة بالهمزة، ويسير على نسق الحروف الهجائية حتى آخر الطبقة، وقد اهتم كثيرًا بالنصوص الشعرية وترجم للأعيان من النساء وبخاصة الشاعرات منهن1.
وأما خلاصة الأثر فقد آثرناه بالعرض والدراسة؛ لأنه أكثر مادة وتفصيلًا وأوفر احتفالًا وشمولًا، ومؤلفه هو العالم الجليل محمد أمين المحبي الذي سبقت الإشارة إلى عمله وفضله عند حديثنا على الترتيب التاريخي لطبقات الشعرءا عندما ألمحنا إلى مؤلفه النفيس "نفحة الريحانة ورشحة طلا الحانة".
1 قام بتحقيقه جبرائيل سليمان جبور ونشره محمد أمين دمج في بيروت.
منهج "خلاصة الأثر
"
أولًا: إن الكتاب كما هو واضح من عنوانه -شأنه شأن سابقيه اللذين ألمحنا إليهما قبل قليل- يترجم لأعيان عاشوا في فترة زمنية محددة بالقرن الحادي عشر، ولكنه أعطى لنفسه حرية أفقية عريضة على مساحة الأراضي الإسلامية من الهند شرقًا حتى المغرب غربًا مرورًا بالقسطنطينية ووسط أوروبا. ويفصل بعض منهجه على هذا النحو: "وكنت شديد الحرص على خبر أسمعه، أو على شعر تفرق شمله فأجمعه، خصوصًا لمتأخري أهل الزمن، المالكين لأزمة الفصاحة واللسن، من كل ملك تتلى سورة فخره بكل زمان، وأمير لم تبرح صورة ذكره تجلى على ناظر كل مكان، وإمام لم تنجب أم الليالي بمثاله، وأديب تهتز معاطف البلاغة عند سماع فضله وكماله، حتى اجتمع عندي ما طاب وراق، وزين بمحاسن لطائفه الأقلام والأوراق، فاقتصرت منه على أخبار المائة التي أنا فيها، وطرحت ما يخالفها من أخيار من تقدمها وينافيها، حرصًا على جمع ما لم يجمع، وتقييد شيء ما قيل إلا ليسمع1.
والواقع أن المحبي في أثره هذا ينوع من يترجم لهم، فذكر عددًا من السلاطين منهم السلطان أحمد بن السلطان محمد مراد، وقال عنه إنه كان شاعرًا بالعربية وجاء له بنماذج من شعره ورأى أنه أعظم سلاطين آل عثمان2، كما ترجم لابنه السلطان مراد بن السلطان
1 خلاصة الأثر: مقدمة المؤللف "1/ 2، 3".
2 خلاصة الأثر "1/ 284-292".
أحمد، وجده السلطان مراد الأقدم بن السلطان سليم1.
ومن اليمن ترجم لعدد من الأئمة منهم على سبيل المثال الإمام إسماعيل بن القسام بن محمد بن علي المتوكل على الله الزيدي، وذكر الكثير من أخباره، والمختار من أشعاره2.
ومن الأمراء ترجم لعدد غير قليل، نذكر منهم على سبيل المثال -ونحن نكتب هذا الكتاب على أرض لبنان- الأمير فخر الدين بن قرقماص بن معن3، المشهور بالأمير فخر الدين المعني ويذكر الأحداث التي مرت به والطريقة التي انتهت بها حياته، وينتهز المحبي فرصة الحديث عن فخر الدين، فيذكر الدروز وتاريخهم وعقيدتهم بشيء من الإيجاز.
وهو إذ يذكر السلاطين في القسطنطينية، والأئمة في اليمن والأمراء في لبنان لا ينسى الحجاز ونجدًا فيترجم للشريف بركات بن محمد بن إبراهيم الحسني صاحب مكة والحجاز ونجد ترجمة حافلة خصيبة طويلة تاريخية الطابع إخبارية المنهج4، ولكنه لا يغادر مكة قبل أن يقدم لنا الشاعر المبدع أحمد بن محمد الجوهري المكي5.
ثانيًا: ينفتح المحبي على المساحة الأرضية انفتاحًا عريضًا واسعًا ذاكرًا أهل العلم والأدب والشعر موردًا النماذج العديدة في مختلف موضوعات الشعر في قصيد، موشحات، وأزجال، ودوبيب، ولعل خير من ترجم له جامعًا القول في هذه الفنون هو أبو بكر العمري الدمشقي6، ومن دمشق ينتقل بنا المحبي إلى مكة ليترجم لأبي الفضل بن محمد العقاد المكي الشاعر الوشاح، ويأتي بشيء من أخباره وبعض موشحاته وأشعاره7.
ومن مكة ينساح المحبي إلى الهند ليقدم لنا الشاعر الجوهري المكي الذي توفي في آخر عام من أعوام القرن الحادي عشر أعني عام 1099هـ8، ولا يغادر المؤلف الهند قبل أن يترجم لابن معصوم الأب: الأمير محمد بن محمد بن معصوم المتوفى في حيدر أباد سنة 1086هـ مقدمًا الكثير من شعره9.
ومن صنعاء يترجم المحبي للشاعر المبدع صلاح بن أحمد بن عز الدين الصنعاني
1 ترجمة السلطانين في "4/ 336، 341" على الترتيب.
2 خلاصة الأثر "1/ 411-416".
3 المصدر السابق "3/ 266-269".
5 خلاصة الأثر: "1/ 436-451".
5 المصدر "1/ 327".
6 المصدر "1/ 99-110".
7 المصدر "1/ 143".
8 المصدر "1/ 327".
9 المصدر "1/ 349-352".
المتوفى سنة1070هـ مع تقديم باقة جميلة من شعره1.
ومن القاهرة يقدم صاحب خلاصة الأثر العديد من الأعيان، ويقدم ترجمة مفصلة للعلامة قاضي القضاة، شهاب الدين الخفاجي المصري2، ومن القاهرة ينتقل إلى شمال إفريقية حتى يترجم لعالم جليل هو أحمد بن محمد المقري التلمساني صاحب كتاب نفخ الطيب3.
ومن المنطقة الآسيوية الأفريقية ينتقل المحبي إلى الترجمة للعلماء المسلمين في أوروبا، فيترجم لعالم جليل من البوسنة وتولى الإفتاء في بلغراد فعد أن حصل الكثير من العلم في بلدته هو فضل الله بن عيسى البوسنوي الذي كان أحد العلماء الأعيان معرفة وإتقانًا وحفظًا وضبطًا للفقه وتفهمًا، عارفًا بالحديث وفنون اللغة4.
ومن المنطقة نفسها يترجم المحبي لعديد من العلماء، ويميط اللثام عن أن هذه المنطقة من أوروبا قد أخصبت علوم الدين واللغة بالعديد من العلماء الأفذاذ الكبار.
ولكننا وحن نعرض هؤلاء الأعيان ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن المؤلف يترجم لهم حسب الترتيب الهجائي لأسمائهم وإن كنا سمحنا لأنفسنا بعرض نماذج منهم متفرقين لكي نصور للقارئ امتداد رقعة الأرض التي ترجم لأعلامها امتدادًا غير محدد بالمساحة وإن كان محددًا بالزمان.
ثالثًا: تمتاز ترجمات المحبي لأعيانه في خلاصة الأثر باللون الأدبي، وكثرة ذكر الأدباء من العلماء والوزراء والملوك، والسلاطين، والأطباء من إليهم بحيث إنه لولا العرض النهائي للأسماء لخطر على الظن أننا نقرأ في نفحة الريحانة، ذلك أن أكثر من نصف مساحة الأجزاء الأربعة من خلاصة الأثر فنون شعرية خالصة، ومن هنا كان اختيارنا لهذا الكتاب كأنموذج لكتب التراجم على نظام السنين يمكن أن يؤدي لقارئ الأدب ساعدًا ويدًا. بل إن الترجمة لأديب واحد قد تعادل من حيث القدر والمساحة ما يترجم فيه لعدد من الأعيان غير الأدباء.
هذا وقد خلا الكتاب بأكمله من الترجمة لعين واحدة من النساء.
رابعًا: الكتاب يقوم على ترتيب التراجم حسب الحروف الهجائية مع التزام الدقة من غير تقديم الأسماء ذات الطابع المبارك كالمحمدين أو العبادلة -وهذا شيء أشرنا إليه-
1 المصدر "2/ 245".
2 المصدر: "1/ 331".
3 المصدر "1/ 302.
4 خلاصة الأثر "3/ 226".
ولكن الأمر الذي يدعو إلى احترام المؤلف، والإعجاب بالكتاب أن المؤلف ذكر مراجعه التي اعتمد عليها، وهو يؤلف كتابه وذلك في قوله1:
"وقد وجد عندي مما أحتاج إليه من المعونة، والآثار المتعلقة بهذه المؤنة، ذيل النجم الغزي وطبقات الصوفية للمناوي، وتاريخ الحسن البوريني وذيله لوالدي المرحوم، وخبايا الزوايا والريحانة للخفاجي، وذكرى حبيب للبديعي، ومنتزه العيون والألباب لعبد البر الفيومي، هذا ما عدا المجاميع والتلقيات من الأفواه والمكاتبات، وكان بقي على بعض أخبار اليمن والبحرين والحجاز، وقد تعسر علي في طريق تطلب حقيقتها المجاز، فلما من الله علي وله المنة، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة، بالمجاورة في بيته المعظم، والالتقاط من بحار أهليه الدر المنظم، تلقيت من الأفواه تراجم لأناس يسيرة، كانت في التحصيل علي عسيرة، وهم وإن كانوا قليلين في العدد، فإنهم كثيرون بسب أنهم ذريعة للمدد في كل المدد، وقد يقال إن أعداد الكبار الشم الأنوف، ربما عدلت عشراتها بالمئين ومئوها بالألوف، ثم وقفت في أثناء السنة على ذيل الجمالي محمد الشبلي المكي الذي ذيل به على النور السافر، في أخبار القرن العاشر، للشيخ عبد القادر بن الشيخ العيدروس، والمشرع الروي في أبخار آل باعلوي له أيضًا، وعلى تراجم منقولة من تاريخ ألفه الصفي بن أبي الرجال اليمني في أهل اليمن، فأجلت فكري في مجالها، وألحقتها بحسب ترتيبها في محالها. وكان وصلني خبر الكتاب الذي أنشأه السيد علي بن معصوم ذيلًا على الريحانة، ووسمه بسلافة العصر، في شعراء أهل العصر، فلم أزل حتى حصلته، وقطعت به أمر الطلب ووصلته. وأتحفني بعض الأفاضل بذيل الشقائق الذي ألفه ابن نوعي بالتركية، وضمنه معظم أهل الدولة العثمانية، ووصلني بعض الإخوان بقطعة من تاريخ أنشأه الشيخ مدين القوصوني المصري ذكر فيه تراجم كبراء العلماء من أهل القاهرة، وزين طروس سطوره بمآثرهم الباهرة، فكانتا عندي فاكهتين باكورتين وتحفتين بلسان البراعة مشكورتين فجمعت الجميع على نية الترتيب، مستعينًا في خصوصه بالفياض المجيب، وأضفت إلى تلك الأخبار المواليد والوفيات، حسبما حررته من التعاليق التي هي بهذا الغرض وافيات، وما أقدمني على هذا الشأن، إلا تخلف أبناء الزمان، عن إحراز خصل الفضل في هذا الميدان:
لعمر أبيك ما نسب المعلى
…
إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت
…
وصوح نبتها رعي الهشيم
فإنا ذلك الهشيم، الذي سد مسد الكريم، كيف وقد نجم نجم الجهل، وصوح نبت
1 مقدمة المؤلف 1/ 3.
بنت الفضل، وصدئت القلوب، وضعف الطالب والمطلوب، وربما يظن أن ما تخالج فيه صدري وهجس، لرعونة أوجبها الفراغ والهوس، كلا بل ذلك لأمر يستحسنه اللبيب، ويحسن موقعه لدى كل أريب لما فيه من بقاء ذكر أناس شنفت مآثرهم الأسماع، وجمع أشتات فضائل حكم الدهر عليها بالضياع.
خامسًا: يهتم المؤلف بالمترجم ويحتفل به من حيث ذكر اسمه كاملًا مع صفته وكنيته ونسبته ومحل ميلاده وتاريخه ودار الإقامة والتنقل والأسفار وتحصيله العلم، وآثاره العلمية إن كان مؤلفًا والأدبية إن كان أديبًا وأخباره مفصلة إن كان شخصية عامة والوظائف التي تقلدها والأعمال التي أسندت إليه، مع مراعاة الدقة التامة في ذكر تاريخ الوفاة ومكانها إلا في حالات قليلة لا يكاد المرء يلتفت إليها.
سادسًا: أما والمؤلف يجمع بين صفتي الأدب والعلم فإنه حين يقدم لكتابه يتبع أسلوب عصره فيعمد إلى السجع المتواتر والجناس الملتزم وبقية الصناعة البديعية من مقابلة وطباق وتصريع، فإذا ما انعطف إلى ميدان القول في التراجم كان سهل الأسلوب عذب العرض رشيق العبارة في غير ما تكلف، أو تصنع إلا في حالات من يريد أن يضفي على شخصياتهم اهتمامًا خاصًّا من أعيانه فإنه حيئنذ -وتلك حالات غير كثيرة- يستبيح لنفسه قليلًا من الصنعة وبعض الأناقة في العرض.
وبعد، فكتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر يعتبر خير كتب التراجم التي حصر أصحابها أنفسهم بفترة زمنية محدودة. على أننا في الوقت نفسه لا ننال من قدر بقية لاكتب الأخرى التي انتهجت السبيل نفسه، بل التي سبقت إلى السبيل نفسه مثل "الدرر الكامنة" و "الكواكب السائرة" فكلها يقع بين درة مكنونة أونجم وهاج يهدي إلى القلوب نور المعرفة وإلى العقول سبل الثقافة ومناهج الرشد.