المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري: - مناهج التأليف عند العلماء العرب

[مصطفى الشكعة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي

- ‌الفصل الأول: فجر الحركة العلمية

- ‌الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية

- ‌الفصل الثالث: حركة التدوين

- ‌مدخل

- ‌تدوين القرآن الكريم وتفسيره:

- ‌تدوين الحديث:

- ‌تدوين العلوم والمعارف:

- ‌الباب الثاني: الكتابة والإنشاء

- ‌الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي

- ‌مدخل

- ‌يحيى بن يعمر العدواني:

- ‌عبد الله الطالبي:

- ‌الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي

- ‌عبد الحميد بن يحيى:

- ‌عبد الله بن المقفع وتصانيفه

- ‌الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:

- ‌الفصل الرابع: مصادر النثر العربي

- ‌الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص

- ‌الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة

- ‌الفصل الثاني: المفضل الضبي:

- ‌الفصل الثالث: النضر بن شميل

- ‌الفلصل الرابع: ابن الكلبي

- ‌الفصل الخامس: أبو عبيدة:

- ‌الفصل السادس: الأصمعي

- ‌الفصل السابع: الهيثم بن عدي:

- ‌الفصل الثامن: المدائني:

- ‌الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي

- ‌الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ

- ‌الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:

- ‌الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد

- ‌الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب:

- ‌الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور

- ‌الفصل السابع: أبو بكر الصولي

- ‌الفصل الثامن: المرزباني

- ‌الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي

- ‌الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني

- ‌الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد

- ‌مدخل

- ‌ العقد الفريد:

- ‌الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني

- ‌كتاب الأغاني

- ‌مؤلفات أبي الفرج:

- ‌قيمة كتاب الأغاني ومنهجه:

- ‌مختصرات الأغاني:

- ‌الباب السادس: كتب الأمالي:

- ‌الفصل الأول: نشأة الأمالي

- ‌الفصل الثاني: مجالس ثعلب

- ‌الفصل الثالث: أمالي اليزيدي

- ‌الفصل الرابع: أمالي القالي

- ‌مدخل

- ‌ذيل الأمالي والنوادر:

- ‌الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:

- ‌الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى:

- ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

- ‌الباب السابع: طبقات الشعراء

- ‌الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي

- ‌مدخل

- ‌طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي:

- ‌الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

- ‌الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني:

- ‌الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:

- ‌الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات

- ‌الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات

- ‌السموط أو المعلقات:

- ‌المفضليات:

- ‌الأصمعيات:

- ‌جمهرة أشعار العرب

- ‌ شعر القبائل:

- ‌شعر الهذليين:

- ‌الفصل الثاني: كتب الحماسة

- ‌مدخل

- ‌حماسة أبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري

- ‌ حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر

- ‌ الحماسة الشجرية

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌الباب التاسع: كتب التراجم

- ‌الفصل الأول: الفهرست لابن النديم

- ‌مدخل

- ‌الفهرست لابن النديم

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ تاريخ بغدادللخطيب البغدادي:

- ‌ تاريخ بغداد

- ‌منهج كتاب تاريخ بغداد:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ معجم الأدباءلياقوت الرومي:

- ‌ معجم الأدباء

- ‌منهج ياقوت في معجم الأدباء:

- ‌الفصل الرابع: وفيات الأعيان

- ‌وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:

- ‌فوات الوفيات:

- ‌الوافي بالوفيات

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر

- ‌مدخل

- ‌منهج "خلاصة الأثر

- ‌الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي:

- ‌الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس:

- ‌الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌قلائد العقيان، ومطمح الأنفس

- ‌قلائد العقيان:

- ‌مطمح الأنفس ومسرح التأنس

- ‌الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:

- ‌ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه:

- ‌التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:

- ‌منهج "المغرب" وخصائصه:

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد:

- ‌رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة:

- ‌الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس:

- ‌كتب التراجم لأدباء الأندلس

- ‌سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة

- ‌المطرب في أشعار أهل المغرب:

- ‌الفصل السادس:‌‌ لسان الدينبن الخطيب والكتيبة الكامنة

- ‌ لسان الدين

- ‌منهج الكتيبة الكامنة:

- ‌الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس:

- ‌ المقتبس في أخبار الأندلس:

- ‌ تاريخ المن بالإمامة:

- ‌ المعجب في تلخيص أخبار المغرب:

- ‌ الحلّة السِّيراء:

- ‌ البيان المُغرب في أخبار المَغرب:

- ‌ الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة:

- ‌الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية

- ‌ المشارقة والأدب الأندلسي:

- ‌ المقري ونفح الطيب:

- ‌ منهج نفح الطيب وموضوعاته:

- ‌الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية

- ‌الفصل الأول:‌‌ ظهور الموسوعة العربيةوالعصر المملوكي

- ‌ ظهور الموسوعة العربية

- ‌الموسوعات والعصر المملوكي:

- ‌الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها:

- ‌ابن منظور ولسان العرب:

- ‌النويري ونهاية الأرب:

- ‌صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي:

- ‌ابن فضل العمري ومسالك الأبصار

- ‌القلقشندي وصبح الأعشى:

- ‌المقريزي ومؤلفاته:

- ‌ابن حجر ومؤلفاته:

- ‌ابن تغري بردي ومؤلفاته:

- ‌السخاوي وكتبه:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكيبواكير الموسوعات:

- ‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكي

- ‌بواكير الموسوعات:

- ‌المراجع

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

ابن الشجري عالم جليل كان فيما يقول ياقوت: أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية، ومعرفة اللغة وأشعار العرب، وأيامها وأحوالها 1، وإذا كان كل من صاحبي الأمالي اللذين مر ذكرهما قد احتل مكانة رفيعة لدى السلطان وجمهرة العلماء، فاضلًا سمحًا كريمًا، فإن ابن الشجري كان امتدادًا لهذه الدرجة العلمية الظليلة، ولعله كان في خلقه، ومكانته، وعلمه أقرب إلى الشريف المرتضى منه إلى أبي علي القالي، فلقد كان ابن الشجري من الدوحة العلوية، وكان نقيبًا للطالبيين في الكرخ نيابة عن والده، كما كان بيته منتجع الطالب ومقصد المتأدب ومنتدى الفضل ودوحة العلم، وهو في هذه الخلات شبيه بالشريف المرتضى، ثم هو بعد ذلك شاعر أديب، ومؤلف في علوم العربية له تآليف جليلة القدر طيبة الأثر.

إن اسمه كاملًا هبة الله بن علي بن محمد

بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكنيته أبو السعادات، وشهرته ابن الشجري، وقد اختلف المؤرخون في هذه النسبة، وهل هي إلى "شجرة" قرية من ضواحي المدينة، أم إلى أحد أجداده الذي كان اسمه شجرة؟ فقد كان من الأسماء التي يسمي العرب بها أبناءهم اسم شجرة2.

لقد عمر أبو السعادات طويلًا حتى نيف على التسعين 450-544هـ كان أهلًا للفضل جادًّا في حياته، أنفقها كلها في العلم، وهو يصور الجد في قوله:

لا تمزحن فإن مزحت فلا يكن

مزحًا تضاف به إلى سوء الأدب

1 معجم الأدباء "19/ 282".

2 وفيات الأعيان "6/ 50".

ص: 321

واحذر ممازحة تعود عداوةً

إن المزاح على مقدمة الغضب

ومن مثالياته التي صورها حكمه في شعره قوله:

وتجنب الظلم الذي هلكت به

أمم تود لو أنها لم تظلِمِ

إياك والدنيا الدنية إنها

دارٌ إذا سالمْتَهَا لم تَسْلَمِ

أما مؤلفات ابن الشجري، فهي وإن لم تكن كثيرة العدد إلا أنها نفيسة القيمة عظيمة القدر خطيرة الشأن جليلة الأثر، وهي الأمالي - موضوع حديثنا- والحماسة التي حاكى في تأليفها حماسة أبي تمام، ومختار الشعراء، وهذه الكتب الثلاثة مطبوعة، وله أيضًا شرح التصرف المملوكي، وشرح اللمع لابن جني، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه.

وأما كتابه "الآمالي" فإنه أنفس كتبه، وهو من الكتب الممتعة، أملاه في أربعة وثمانين مجلسًا، ونهج فيه نهج الشريف الرضي في أماليه، وطرق موضوعات القرآن، والحديث والأخبار والشعر، والنثر، وأخبار الشعراء، والخطباء وطرزه بكثير من الحكم، والطرف، والملح، وتبدو في موضوعات الكتب سمة الأديب حينًا وسمة اللغوي النحوي حينًا آخر، وقد كان أبو السعادات مبرزًا في الميدانين، على أن قوسه في اللغة أوسط وسهمه في النحو أوفر.

ومن الأحداث الغريبة أن ابن الشجري لما انتهى من إملاء كتابه حضر إليه أبو محمد عبد الله بن الخشاب الأديب اللغوي القارئ صاحب الخط الجميل، وطلب منه أن يسمع عليه "الأمالي" فاعتذر الشيخ عن ذلك، فانصرف ابن الخشاب غاضبًا، وتوفر على قراءة الكتاب محاولًا أن يرصد بعض الأخطاء، وكتب ردًّا على الأمالي مستعرضًا بعض ما ظنه خطأ فيه فوقع الرد في يد أبي السعادات الذي كتب ردًّا على الرد به وجوه خطأ ابن الخشاب، وجعله في كتاب صغير أسماه "الانتصار".

فإذا ما تتبعنا مواد الدرس التي ألقاها ابن الشجري من خلال أماليه فإننا سوف نلاحظ أنه كان يجلس، لكي يملي ما عنده من مادة في موضوع بذاته، ولكنه لا يتقيد بالحديث في موضوعه تقيدًا كاملًا، بل يتصرف في مجلسه ويستطرد وينوع، فيجمع في مجلس النحو مثلًا طرائف وأخبارًا، وفي حديث الشعر قضايا نحوية ونكتًا لغويةً وأسمارًا، وفي تفسير القرآن الكريم يقدم شواهد شعرية، ويقف على قضايا لغوية حسبما تمليه طبيعة المجلس والمادة الملقاة، ولكننا نحس في الوقت نفسه أن ابن الشجري قد أعد نفسه إعدادًا علميًّا لمجلسه قبل مواجهة مستمعيه بحيث يبدو فيه التركيز والجدية، مع خلفية علمية وافرة وابتعاد عن

ص: 322

الترخص في القول أو السطحية في التناول، هذا وإن الروح العلمية والحس الأدبي لا يتخليان عن الرجل في كل مجالسه التي أحصيت بأربعة وثمانين مجلسًا، وإن كان الذي بين يدي منها ثمانية وسبعون لا غير، ومن الطريف أن أكثر هذه المجالس ينص قبل البداية في تسجيلها على اليوم والتاريخ، الذي ألقيت الأمالي فيهما.

وإذا كان لنا أن نقدم صورة لأمالي ابن الشجري ومادتها فإننا يمكن أن نلفت النظر إلى أهم موضوعاتها على النحو التالي:

أولًا: تفسير القرآن الكريم، فقد احتل التفسير عددًا من المجالس مثل الثامن، والتاسع، والعاشر، والسادس والسبعين، وبعض الفصول من المجلس الثالث والستين، والرابع والستين والتاسع والستين، وهذه المجالس الثلاثة الأخيرة قد خصصت لموضوعات أساسية أخرى، وكان التفسير القرآني فيها أمرًا فرعيًّا حسبما سنبين بعد قليل.

فإذا ما تمثلنا لواحد من المجالس التي خصصت للتفسير مثل المجلس الثامن فإننا نجد ابن الشجري قد خصصه لتفسير الآية الكريمة: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ولعل أهم ملحظ نلحظه في طريقة تفسير صاحب الأمالي، أنه يبدأ من منطلق لغوي نحوي ويلح عليه إلحاحًا شديدًا ويقف عند القضايا النحوية مبديًا رأي كل من النحاة البصريين والكوفيين. وهو في تفسيره يستعين بالعديد من الآيات القرآنية الأخرى، ويستشهد بالكثير من الأبيات الشعرية التي تعينه في تفسيره وتخدم وجهة نظره.

هذا وابن الشجري يعمد في تفسيره إلى الصيغة الجدلية، وهي طريقة المعتزلة في البرهان، كقوله: فإن قيل كذا قيل كذا، وهلم جرَّا1.

وفي المجلس السادس والسبعين يفسر السورة الكريمة: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . ولكنه في تفسيره يمزج الفكر الديني بالفروض والتكاليف بعلوم اللغة بفنون النحو بشواهد الأدب بقضايا الإعراب بمذاهب اللغويين والنحاة، مع الاستعانة بالعديد من الآيات القرآنية.

على أن ابن الشجري لا يجد مجلسه قد استوفى درسًا، أو ربما أحس بأن الزمن الذي استغرقه تفسير الآية لا يشكل مجلسًا متكاملًا، فينتقل إلى مواضع أدبية وتقديم نماذج شعرية في وصف الأسد للمتنبي، ووصف الفرس للجعدي، ويذكر آراء ونظريات لأبي علي

1 الأمالي "1/ 47" وما بعدها: المجلس الثامن.

ص: 323

الفارسي تتصل بالموضوع الذي يعرض له من قريب حينًا، ومن بعيد حينًا آخر، ويكمل المحاضر مجلسه، أو بالأحرى درسه، بأنماط من الموضوعات مترابطة ومتباعدة، توشى بالآية القرآنية حينًا، وبيت أو بيتين من الشعر أحيانًا، وبقضية نحوية حينًا ثالثًا حتى يستوفي مجلسه أو درسه أو إملاءه1.

ثانيًا: والعنصر الثاني من عناصر الأمالي هو الشعر، وقد كان ابن الشجري يمنحه الكثير من العناية في التناول والبسطة في الشرح إلى المدى الذي يجعل مجلسًا بكامله لدراسة بيت واحد من الشعر كما هو الحال في المجلس الخامس، أو المجلس السادس، فالمجلس الخامس بأكمله يستغرق شرح بيت للشريف الرضي في مدح الطائع العباسي وفيه يقول:

قد كان جدك عصمة العرب الألى

فاليوم أنت لهم من الإعدام

وإذا لم يكن البيت من جودة البناء ولا من رقة الشاعرية بمكان، فإنه من وجهة نظر ابن الشجري يؤدي غرضين على الأقل، الغرض الأول ينضوي تحت معنى التحية والتكريم للشريف الرضي يذكره في مجلسه لما بينهما من وشائج القربى وصلة المذهب، فضلًا عن أن كلا من الشريف وابن الشجري كان نقيبًا للطالبين رغم أن الفرق الزمني بينهما يزيد على قرن من الزمان، والغرض الثاني أدبي محض، فإن صاحب الإملاء يقضي مجلسه في شرح الكلمات، وإبانة مستبهم المعاني التي قصد الشاعر إليها، ويستطرد بالإتيان بنماذج لشعراء سابقين في المعنى نفسه أو قريبة منه، ويقوم على تحليل هذه النماذج الجديدة تحليلًا مفصلًا مطولًا فيه استطراد وإطناب2.

ويتكرر ذلك عند ابن الشجري أكثر من مرة عندما يجعل المجلس السادس كله لبيت المتنبي:

وتراه أصغر ما تراه ناطقًا

ويكون أكذب ما يكون ويقسم

أو عندما يقضي المجلس الثاني عشر كله في تناول بيت للشاعر نفسه هو قوله:

أي يوم سررتني بوصالٍ

لم ترعني ثلاثة بصدود

ولعلنا نلاحظ أن ابن الشجري لا يختار البيت لجمال ظاهر فيه، وإنما الأمر على

1 الأمالي "2/ 324" وما بعدها.

2 الأمالي "1/ 29".

ص: 324

العكس، إنه يختاره لما يلتحف به البيت من غموض يحتاج إلى الاجتهاد في شرحه، وفهمه وتعليل معانيه، وهي نغمة كانت مستحبة في الشعر آنذاك وإن كان المنصفون من النقاد يرون ذلك عيبًا من عيوب شعر المتنبي، فالكلام المستغلق المعاني أبعد شيء عن البلاغة، ومن باب أولى يكون الشعر المبهم المعنى أبعد شيء عن الشعر الجيد.

ولكن لا بأس من أن نطل على ابن الشجري في مجلسه السادس، وهو يتناول بيت المتنبي الذي مر ذكره قبل قليل، إن حديثه عن البيت يستغرق مجلسًا بأكمله حسبما ذكرنا ويحتل سبع صفحات كاملة من أماليه1، إنه يتحدث عن الرؤية من قوله "وتراه أصغر ما تراه" ويتساءل: هل هي رؤية العين أو رؤية القلب، ويطيل في صيغ الاستفهام، ويكثر من تعديد الأسئلة، ثم يتولى بعد ذلك الإجابة عنها إجابة مفصلة في نطاق النحو والصرف، مطولة في نطاق الاستشهاد والتأويل المعنوي الأدبي، مع التمثيل لكل ما يقول بآراء السابقين من الأدباء واللغويين مثل الأصمعي وابن الأعرابي، ويجيء بأمثلة لبعض الشعراء أو من كانوا يصطنعون الشعر مثل الأعشى، والكسائي، وكثير بن عبد الرحمن، وذي الإصبع العدواني، وطرفة، وامرئ القيس، هذا فضلًا عن شعر كثير لشعراء عديدين لم يذكر أسماءهم.

وأحيانًا يقضي الشجري مجلسين متتاليين لدراسة عدة من الأبيات لشاعر واحد، فقد قضى المجلسين التاسع عشر والعشرين في شرح أبيات ثمانية لأعشى تغلب "ربيعة بن نجران" قالها في هجاء بني مروان والفخر عليهم، يتناولها من خلال المنهج اللغوي، والنحوي نفسه مع ذكر بعض الوقائع والأيام وأحداث التاريخ، والتمثل بشعر الآخرين2.

وأغلب الظن أن ابن الشجري كان ذا هدف في إيراد هذه الأبيات والإفاضة في شرحها في مجلسين يومي السبت السابع عشر من رجب، والرابع من شعبان سنة 524هـ. إنه بحكم كونه طالبيًّا هاشميًّا يحمل عداوة ظاهرة أو مستترة لبني أمية لما فعلوه بآل البيت ولاغتصابهم الخلافة منهم، ومن ثم كان وقوفه طويلًا على أبيات أعشى ربيعة يحمل معنى التشفي والراحة النفسية، ذلك أن بني أمية قد مدحوا بما لم يمدح به غيرهم من الخلفاء أو الملوك الذين ولوا إمرة المسلمين بعدهم، لقد مدحهم جرير والأخطل، والفرزدق، والقطامي، وعدي بن الرقاع، بل لقد مدحهم بعض من كان يكن لهم الكراهية والموجدة مثل كثير عزة، لقد مدحهم الفحول الكبار بما خلدهم كممدوحين كبار، فلا غرابة أن يتصيد ابن الشجري -وهذا موقفه منهم- أبياتًا في هجائهم والفخر عليهم يعثر عليها عند شاعر ينتمي إلى الدين نفسه الذي كان ينتمي

1 المصدر "1/ 35-42".

2 الأمالي "1/ 123-137".

ص: 325

إليه الأخطل شاعرهم الأول، فكل من الأخطل وأعشى ربيعة كان نصرانيًّا. وهي أبيات ذات فحولة وجزالة وطنين ورنين

يقول فيها صاحبها:

كأن بني مروان بعد وليدهم

جلاميد ما تندى وإن بلها القطر

وكانوا أناسًا ينفحون فأصبحوا

وأكثر ما يعطونك النظر الشزر

أأنسى إذا ما لم تنبكم كريهة

وأدعى إذا ما هزهز الأسل الحمر

ألم يك غدرًا ما فعلتم بشمعل

وقد خاب من كانت سريرته الغدر

كأين دفعنا عنكم من كريهةٍ

ولكن أبيتم لا وفاء ولا شكر"*"

ومن الأمالي الجديدة ذات الذوق الرفيع في اختيار الشعر ما أملاه ابن الشجري في المجلس الثالث والستين1، إنه يملي ويشرح قصيدة بائية قالها ابن نباتة السعدي في الفخر، أبياتها سبعة وثلاثون يقول في مستهلها:

رضينا وما ترضى السيوف القواضب

نجاذبها عن هامكم وتجاذب

فإياكم أن تكشفوا عن رءوسكم

ألا إن مغناطيسهن الذوائب

نصون ثرى الأقدام عن وتراتها

فتسرقه ريح الصبا وتسالب "**"

وهبنا منعناه الصبا بركوبنا

أنمنع منه ما تطاه الركائب

إن ابن الشجري يشرح القصيدة شرحًا معتدلًا، وهو في تناوله هذه القصيدة يأخذ جانب الحس الأدبي أكثر مما يجنح إلى الإطناب اللغوي، وإن كان يعلل بعض الضرورات التي

"*" الشزر: النظر بمؤخر العين، وهو يعني التكبر، الكريهة الحرب، شمعل هو شمعلة بن قائد بن هلال التغلبي، وكان قد ناله بعض الضرر من عبد الملك بن مروان.

1 الأمالي "2 / 183-190".

"**" الوترات واحدتها وترة، وهي الحاجز بين المنخرين.

ص: 326

يبيحها الشعر مثل "تطاه" فأبدل الشاعر الهمزة ألفًا لينة، ولم يستشهد بشعر شعراء آخرين غير مرتين اثنتين، مرة بيتين للأبيوري في تشبيهه السيوف باللجين قبل الضرب بها، وبالعسجد بعد الضرب بها في قوله:

ولله در السيف يجلو بياضه

غياهب يوم قاتم الجو أربدا

بمعترك يلقى به الموت بركه

يسل لجينًا ثم يغمد عسجدا1

ومرة أخرى ببيت لشاعر لم يذكر اسمه:

نصف النهار، الماء غامره

ورفيقه بالغيب ما يدري

ولأن ابن الشجري قد اقتصر على المعاني الأدبية في شرح القصيدة، فإنه لم يستوفِ بها الوقت المحدد للدرس رغم طولها، فعمد إلى الانتقال إلى تفسير الآية الكريمة {أولئك أصحاب الجنة} حسبما مر بنا عند حديثنا عنه مفسرًا.

ومن مجالس الشعر المجلس الرابع والستون2 وهو يعرض فيه قصيدة في لقاء الأسد، ذكر أنها أجود شعر قيل في مثل هذا الموقف، ونسب القصيدة إلى من اسمه بشر بن عوانة العبدي ومطلعها:

أفاطم لو رأيت ببطن خبتٍ

وقد لاقى الهزبر أخاك بشرَا

إذن لرأيت ليثًا أمَّ ليثًا

هزبرًا أغلبًا لاقى هزبرًا

وابن الشجري صادق في قوله إن هذه القصيدة من أحسن الشعر الذي قيل في لقاء الأسد، ونسب روايتها إلى بديع الزمان الهمذاني سماعًا من ابن أخته محمد بن عبد السلام القزويني. وفات ابن الشجري أنه ليس هناك شاعر اسمه بشر بن عوانة العبدي، فبشر هذا اسم لشخص وهمي جعل منه بديع الزمان المهذاني بطلًا لإحدى أقاصيصه في الحب والبطولة والتضحية في سبيل من يريد الزواج منها، وهي ابنة عمه فاطمة التي هي بدورها شخصية وهمية، وهذه الأقصوصة الممتعة التي يكتبها بديع الزمان وضمنها هذه القصيدة

1 البرك في قوله بركة: الصدر، استعاره للموت.

2 الأمالي "2/ 192".

ص: 327

الرائية عنوانها "المقامة البشرية" وهي وغيرها من مقامات بديع الزمان تعتبر الأصل الحقيقي للقصة العربية القصيرة، وليس بالصحيح ما ذكره بعض من لم يطلعوا على تاريخ أجدادهم من المحدثين من أن القصة القصيرة وافدة علينا من الغرب الأوربي1.

إن بديع الزمان بمكره وظرفه ألبس قصيدته ثوبًا منسوجًا من ألفاظ تحتاج إلى شرح، حتى تبدو القصيدة وكأنها جاهلية حقيقية، الأمر الذي جعل ابن الشجري يقف أمامها وقفات طويلة متوفرًا على شرح الألفاظ، والإفاضة في طرح المعاني المستفادة مع وقفات نحوية ولغوية عديدة، ورطه فيها مكر بديع الزمان وسعة حيلته في نحل القصيدة ونسبتها إلى شاعر جاهلي موهوم.

ثالثًا: وهذا العنصر الثالث هو عنصر النحو واللغة ونصيبهما من أمالي ابن الشجري، والحق أن نصيبهما كبير، فصبغة الرجل صبغة لغوية نحوية على نسق الرعيل الأول من كبار المؤلفين الذين كانوا يحتفلون باللغة وقضاياها والنحو ومسائله أكثر من احتفالهم بالقضايا الأدبية، ونحن إذا نظرنا في مجموعة المجالس التي احتوتها أمالي ابن الشجري، وجدناه يعقد المجلس الأول لعرض مسائل نحوية عدة والإجابة عنها فيقول مثلًا:"إنما وجب بناء ما قبل ياء المتكلم على الكسر؛ لأنهم لو أعربوه لم تسلم الياء مع الضم والفتح، إذ الضم يقتضي قلبها إلى الواو، والفتح يقتضي قلبها ألفًا، فإن قيل قد فعلوا ذلك في نحو: يا غلامًا، قيل إنما فعلوا ذلك في النداء" ويستطرد ابن الشجري في ذكر الأسباب وإيراد الأمثلة، ويناقش بعض آراء النحاة واللغويين كابن جني وغيره في قضايا مماثلة.

ويخصص ابن الشجري المجلس الثاني من أماليه للغة من نحو وصرف، فيتحدث في إفاضة عن التثنية وفلسفتها ومعناها وضرورتها وأقسامها، وهذا المجلس يشكل فصلًا لغويًّا لطيفًا، شواهده آيات قرآنية، وأبيات منتقاة من الشعر العذب، وأحكام شرعية وبعض الطرائف2.

ويعقد صاحب الأمالي مجلسين هما الثلاثون والحادي والثلاثون للحديث في النحو خاصة، ويتناول بعض القضايا المشوقة مثل علة حذف نون المثنى عند الإضافة، أو الحديث عن الخلاف في اسم المفعول من قال، وباع، ولماذا هو مقول في الأول ومبيع في الثاني، وأصل كل منهما في صيغته الأصلية على مفعول قبل الحذف، وأي الحروف حذفت ولماذا؟ مع ذكر مذهب كل من الخليل وسيبويه والأخفش. والبحث في جملته طريف على ما فيه من

1 راجع كتابنا "بديع الزمان الهمذاني رائد القصة العربية""ص289".

2 الأمالي "1/ 3" وما بعدها.

ص: 328

جفاف الموضوع وتعقده1.

ويطلق ابن الشجري نفسه على سجيتها، فإذا بها تفرغ لأبواب اللغة من نحو وصرف ثمانية وعشرين مجلسًا متتابعة ابتداء من المجلس الرابع والثلاثين إلى المجلس الثاني والستين، فيجعل المجلس الرابع والثلاثين -على سبيل المثال- في الحديث عن الاستخبار، والاستفهام، ثم يتحدث عن أقسام الاستفهام، ثم نتقل إلى عقد فصل عن الأمر، وفصل آخر عن النهي.

وأحيانًا يعقد مجلسين متتاليين لموضوع واحد، قد يبدو في ظاهره بسيطًا، ولكنه في حقيقته طويل معقد، فقد جعل صاحب الأمالي المجلسين الخامس والخمسين والسادس والخمسين للقول في الترخيم، وهو يكثر في الفصلين من ضرب الأمثلة الكثيرة ويحاول أن يقعد قواعد للترخيم في نطاق جهد مبذول ودرس مكدود، بل إن الترخيم لغلبته على ابن الشجري فإنه يبدأ به قبل المجلسين المذكورين، لقد بدأه في النصف الثاني من مجلسه الرابع والخمسين، وفيه عرف به لغة وتمثيلًا، وكان المجلس نفسه قد بدئ بدرس في حذف الياء من أم وعم2.

وابن الشجري وإن لم يتبع مذهبًا نحويًّا معينًا، فإنه يميل في أكثر أحكامه إلى آراء البصريين دون الكوفيين، فالمجلس التاسع والخمسون يعقده للحديث في "التعجب" ويرجح مذهب البصريين، كما يعقد المجلس الستين للحدث عن "نعم وبئس" ويفعل الشيء نفسه من أخذ برأي البصريين، وترجيحه على رأي الكوفيين.

ولا يكاد ابن الشجري ينصرف إلى الشعر والأدب في مجالس عدة حتى يعادوه الحنين إلى اللغة والنحو والصرف، فيجعل مجالسه التاسع والستين حتى الخامس والسبعين كلها في هذا اللون من الثقافة اللغوية، ويتناول موضوعاته برشاقة، وعمق في الوقت نفسه، إنه يجعل المجلس التاسع والستين للحديث عن الظروف، وهو من خلال ذلك يدلف إلى شواهد من القرآن الكريم، فيفسر قوله تعالى:{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ويركز على لفظ "قريب" وتعليل مجيئها في صيغة المذكر، ثم يستطرد فيفسر قوله تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ويذكر القراءات التي جاءت في "بينكم" وهي الشاهد في الآية الكريمة، ويعالج حركتها وهي هل منصوبة أو مرفوعة، ويذكر من قرأها منصوبة وتعليله للنصب، ومن قرأها مرفوعة وتعليل الرفع3.

1 الأمالي "1/ 196-211".

2 المصدر السابق "2/ 78-100".

3 الأمالي "2/ ".

ص: 329

وهكذا يظل ابن الشجري يغازل اللغة وفنونها من نحو وصرف في موضوعاتها العديدة البسيطة حينًا المعقدة أحيانًا حتى نهاية المجلس الخامس والسبعين.

ومهما كان الرأي في المنهج الذي اتبعه ابن الشجري -إذ لا نكاد نلمس له منهجًا واضحًا- فإنه كان فياض العلم وافر المعرفة كثير المحفوظ واسع الاطلاع يحتفل بتلاميذه فيعد نفسه إعدادًا حسنًا قبل مجلسه الذي يلقي أثناءه أماليه.

ثم هو بعد ذلك يتنفس اللغة أكثر مما يتنفس الأدب، إننا نحس به مرتاحًا منسابًا متخصصًا حين يقدم على الحديث في اللغة وعلومها، وليس الأمر كذلك حين يتناول قصيدة شعرية أو قضية أدبية.

ص: 330