الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث والعلوم الشرعية والتوحيد والتاريخ والتراجم والأدب، وقد ضاع أكثرها، وكل الذي بين أيدينا منها الكتب الثلاثة الأولى وهي من النفاسة والقيمة بمكان، غير أن ما نهتم له هنا هو كتابه "نفح الطيب".
2-
منهج نفح الطيب وموضوعاته:
أولًا: كان أبو العباس المقري محبًّا للسان الدين بن الخطيب الوزير العالم الأديب الغرناطي الذي مر حديثه، معجبًا بأشعاره مغرمًا بعلمه وأفكاره كثير الترداد لاسمه والاستشهاد بشعره في مجالسه إبان زيارته الأولى لدمشق، وكان يكثر من ذكر الأندلس ومجال طبيعتها، ونباهة شأن علمائها، ورقة شعر شعرائها، فطلب إليه أحمد بن شاهين القبرسي "القبرصي" المعروف بالشاهيني، وكان الشاهيني آنذاك كبير أدباء دمشق وشعرائها وفضلائها، ترك السيف وانعطف إلى القلم، وتمنى على صديقه وضيفه أبي العباس أن يكتب كتابًا عن لسان الدين يعرف بأحواله وأخباره وأدبه وكتبه، فاعتذر المقري أول الأمر عن الإقبال على مثل هذا العمل الجليل؛ لأنه لا يستطيع إيفاء من كان في مكانة ابن الخطيب حقه، فلما ألح الشاهيني في طلبه مستعينًا بصداقته ومودته وما له من دالة على المقري استجاب له أبو العباس ووعده بتحقيق رغبته بعد أن يعود إلى مصر.
وما إن عاد عالمنا الكبير، وكان ذلك سنة 1039 حتى عكف على الكتابة عن لسان الدين وبالمثابرة والمتابعة، والعزم والذاكرة الحافظة الواعية انتهى المقري من كتابه وجعل عنوانه "عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب"، ثم عن له أن يعزم "على زيادة ذكر الأندلس جملة، ومن كان يعضد به الإسلام وينصر وبعض مفاخرها الباسقة، ومآثر أهلها المتناسقة؛ لأن كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر1.
فلما أخذ الكتاب سمته الجديدة بهذه الإضافة رأى المؤلف أن يعيد النظر في عنوانه فجعله "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب".
وهكذا بدأ المقري كتابه حول شخصية أندلسية واحدة، ثم ما لبث أن جعل منه موضوعًا للأندلس كلها.
ثانيًا: جعل المؤلف كتابه في قسمين، وجعل كل قسم في ثمانية أبواب فخص القسم
1 النفح "1/ 108".
الأول بأبوابه الثمانية بالأندلس وما يتعلق بها من وصف لأرضها ومحاسنها ومآثرها وطبيعتها وكورها وفتحها، وقوة الإسلام فيها، والخلافة الأموية، وقرطبة العاصمة، وجامعها، والزهراء الناصرية، والزهراء العامرية، والبساتين والمصانع، وإيراد القرائح والأفكار.
وقد ضمن المقري هذا القسم أيضًا تعريفًا ببعض الشخصيات الأندلسية التي رحلت إلى المشرق، وكانت الرحلة إلى المشرق من كمال علمهم وضرورة تثقيفهم، وهؤلاء الذين ذكرهم المقري في نطاق الرحلة من الشهرة ووفرة العلم وسعة الثقافة بمكان، فكل من رحل من الأندلس ذكره المقري في هذا القسم من كتابه وترجم له، ويدخل في هذه المجموعة كثيرون من بني سعيد الذين مر حديثهم مفصلًا بعض الشيء ومنهم الوشاح وأبو بكر بن زهر، ومنهم يحيى الغزال.
ومن الطريف أن المقري حين يذكر من وصل إلى الفسطاط أو القاهرة أو دمشق منهم ينصرف إلى وصف الفسطاط ومساكنها ومساجدها وجزيرة الروضة ومدينة القاهرة وقصورها وبركة الفيل التي كان المقري يسكن على شاطئها إبان إقامته في القاهرة. ويصف دمشق وجامعها وغوطتها ويذكر ما قاله الشعراء فيها ويعرض لكبار أدبائها إلى غير ذلك مما يتعلق بطرائف المشرق.
وفي هذا القسم عينه المقري الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، ومنهم كثرة أدت إلى الأندلس أجل الخدمات علمًا وأدبًا وفنًّا مثل موسى بن نصير، ويوسف بن عبد الرحمن الفهري، وعبد الرحمن بن معاوية المعروف "بالداخل" والصميل بن حاتم، وأبي علي القالي، وصاعد البغدادي، وزرياب المغني، وغيرهم، كما يذكر طرفًا من الأخبار التي تتعلق ببدء تحرك نصارى الأندلس إلى الاستيلاء على الأندلس الإسلامية. ويقول المقري: إنه لم يخل بابًا في هذا القسم من كلام للسان الدين بن الخطيب وإن قل.
وهذا القسم مليء بالأخبار اللطيفة والأشعار الكثيرة الوافرة الطريفة والترجمة لشخصيات الأندلس ما بين ملوك وأمراء وقواد ووزراء وحجاب وشعراء، وكتاب وعلماء وقضاة وزهاد وفجار ونساء شاعرات وجوارٍ مرموقات، مع غلبة الطابع الأدبي على أي طابع آخر من طوابع المعرفة التي ترصع جنبات الكتاب.
وأما القسم الثاني فهو لب الكتاب وأصله بأبوابه الثمانية التي ترتبط أسبابها بأسباب لسان الدين الخطيب أصلًا ومنشأ وحياة ومذهبًا وثقافة ومنصبًا وسفارة وتألقًا وشعرًا وموشحات وزجلًا، وتلامذة ومريدين، وندماء وأصدقاء، وكائدين، ومصنفات ومؤلفات واعتزالًا وارتجالًا ووفاة.
ثالثًا: تعتبر مقدمة الكتاب معلمًا من معالمه السابقة، فهي قطعة من روائع الأدب المطرَّز
بالسجع التي تتضمن الكثير من الموضوعات والمواقف، ففيها ما يمكن أن يسمى بأدب الرحلة، مثل رحلته في البر والبحر من المغرب إلى مصر، ووصف المراكب وسيرها على صفحة الماء، وتأرجحها على هامة الأمواج، وتمزقها من عاتية الرياح، وراكب البحر وما يسيطر عليه من خوف، ويتمثل بالبيت الشعري اللطيف:
ثلاثة ليس لها أمان
…
البحر والسلطان والزمان
ويبدع أيما إبداع، ويحلق أيما تحليق، ويشف أيما شفافية، وهو يقترب من البيت العتيق، ويطوف حوله، ويتألق ويتشوق، ويتصوف، وهو يحبو إلى رحاب طيبة حيث مستقر الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.
وحين يصل إلى مصر يصفها ونيلها وروضتها، ويردد شعرًا كثيرًا قيل فيها وفي نيلها ويستشهد بقول ابن ناهض فيها:
شاطئ مصر جنة
…
ما مثلها في بلد
لا سيما مذ زخرفت
…
بنيلها المطرد
وللرياح فوقه
…
سوابغ من زرد
ويورد قول شاعر آخر في النيل:
انظر إلى النيل الذي
…
ظهرت به آيات ربي
فكأنه في فيضه
…
دمعي وفي الخفقان قلبي
وقول آخر في النيل وفيضانه المنتظم:
كأن النيل ذو فهم ولب
…
لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه
…
ويمضي حين يستغنون عنه
ومن مواقف اللوعة التي تتسم بها المقدمة وصف المؤلف لبلاده ووداعه لموطنه وارتحاله عن بلده بمقطوعات من الشعر العاطفي الوجداني، ومختارات رائعة لغيره من الشعراء في وصف الوطن والأسى لفقد ربوعه والحزن لفراقه الأهل والأحباب، واللوعة لمغادرة الديار بحيث جعل المقري من مقدمته الطويلة خزانة لفنون من أدب الرحلة وأدب الديار ومساجلات الأدباء ومطارحات الشعراء، وإن عابها بعض مواقف الإطالة وبعض أساليب الإطناب.
رابعًا: والكتاب في جملته مكتوب بأسلوب مشرق جذاب وإن كان يضم الكثير من الصنعة والعديد من الأسجاع، ولعله كان في ذلك يتشبه بأسلوب لسان الدين بن الخطيب، وينسم من خلاله شذاه ولكن الفرق بينهما بعيد.
وفي الوقت نفسه ينبغي الإشارة إلى أن المقري قد عاب كتابه بالاستطرادات الطويلة الكثيرة التي تلقي بالقارئ في متاهات صعبة بحيث يكاد ينسى الموضوع الذي كان متوفرًا عليه.
خامسًا: ومن عيوب الكتاب أيضًا التكرار، والتكرار غير الاستطراد، ذلك أن المقري يأتي بالخبر الطويل المقترن بالشعر الكثير، ثم لا يلبث أن يكرره مثنى وثلاثًا في أماكن عديدة من الكتاب بنصفه ومحتواه، ثم يعود مرات أخرى لكي يكرره من أوله تارة، ومن وسطه تارة ثانية ومن آخره تارة ثالثة ولو قد خلص الكتاب من التكرار لزاد قدره قيمة على قيمته، غير أن عذرًا قد يلتمس للمؤلف، ذلك أنه حينما يكرر في بعض الأحيان يكون سبب التكرار رواية لمصدر غير المصدر ذي الرواية الأولى.
سادسًا: والحديث عن المصادر يدفع بنا إلى ذكر حسنة كبرى من حسنات "نفح الطيب"، ذلك أن المقري -بحكم كونه راوية محدثًا- يعتمد أسلوب الرواية في ما يورده من أخبار، فيرد كل خبر إلى أصله وكل شعر إلى مصدره، فيتجمع لنا من خلال روايات المقري في نفحه عدد كبير من مصادر الأندلس التاريخية والأدبية، ما ضاع منها وما قد نجا من آفة الضياع والاحتراق والإخفاء والسرقة والتلف.
وكتاب "نفح الطيب" يعتبر خاتمة الموسوعات الكبرى المتخصصة في عرض التراث الإسلامي الأندلسي من تاريخ وبلدان وآداب وترجمات وسياسة ووزارة وفتوح وحروب ودس وهزائم وصفحات ناصعة وأخرى مخزية، وهو في جملته بالنسبة للأدب الأندلسي كتاب الكتب وسفر الأسفار.
والكتاب لأهميته طبع إلى الآن مرات أربعًا، ثلاث مرات في مصر، أولاها في مطبعة بولاق سنة 1279، وثانيتها في المطبعة الأزهرية، وثالثتها بتحقيق محيي الدين عبد الحميد سنة 1367هـ، والرابعة في بيروت بتحقيق الدكتور إحسان عباس.