الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال فصل الثالث: المُغْرِب في حلى المَغْرِب:
التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:
إن هذا الكتاب يعتبر فريدًا في تأليفه ومنهجه وقيمته بين كتب التراث الأدبي الأندلسي بصفة خاصة، والعربي الإفريقي الأندلسي "أي ما بين مصر شرقًا والمغرب والأندلس غربًا بصفة عامة" ومعنى ذلك أن الكتاب معني بكل من مصر، والمغرب العربي والأندلس، ولكل إقليم من هذه الأقاليم الكبار قسم أو مجموعة أقسام تتناول أدباءها من أمراء ووزراء وكتاب وشعراء وفقهاء وزهاد.
والذي نهتم له هنا في هذا المقام هو القسم الخاص بالأندلس من كتاب "المغرب في حلى المغرب".
ومن الطرائف حول هذا الكتاب أنه ألف في مائة وخمس عشرة سنة، وقبل أن يتساءل المرء عن كيفية تأليف كتاب في هذه المدة المفرطة الطول نسارع إلى تقرير أن الكتاب لم يقم بتأليفه عالم واحد، وإنما قام بذلك ستة علماء، أربعة منهم وزراء الواحد منهم بعد الآخر أولهم شاعر عالم، هو أبو محمد عبد الله الحجاري وبقيتهم خسمة من آل سعيد هم الأمير الوزير عبد الملك بن سعيد ثم خلفه على العمل نفسه ولداه أبو جعفر أحمد، ومحمد، ثم موسى بن محمد، ثم علي بن موسى.
إنه نهج جديد في تاريخ التأليف حين يبدأ رأس الأسرة تأليف كتاب، وما يزال أبناؤه وأحفاده يتناولونه بالزيادة من واقع آداب عصرهم حتى يأخذ صورة مكتملة ناضجة فينشره الحفيد على الناس.
وتبدأ فكرة الكتاب حين وفد أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري على القائد الأمير عبد الملك بن سعيد، ومثل بين يديه في قلعة بني سعيد غير بعيد عن غرناطة، وكان ذلك سنة
530هـ وأنشده قصيدة في مديحه يقول فيها1:
عليك أحالني الذكر الجميل
…
فجئت ومن ثنائك لي دليل
أتيت ولم أقدم من رسول
…
لأن القلب كان هو الرسول
وهي قصيدة رائعة الأنغام عذبة المعاني والإيقاع، وفيها يصف نفسه وشكله البدوي وذكاءه وفطنته قائلًا:
أجل طرفًا لدي فإن عندي
…
من الآداب ما يحوي الخليل
ومثلني بدن فيه سر
…
يخف به ومنظره ثقيل
فنال الحجاري عند ابن سعيد حظوة، ومكانة وقربه إليه ولمس فيه القدرة على التأليف الأدبي لكثرة محفوظه وسعة اطلاعه، فطلب إليه تصنيف كتاب في لطائف الشعر وطرائف النثر فكتب له كتاب -أسماه "المسهب في غرائب المغرب" في نحو ستة أسفار، بدأه من فتح الأندلس حتى تاريخ كتابته وهو سنة 530هـ فأعجب به أيما إعجاب، وجعل يطيل القراءة فيه، ثم ثار في خاطره أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري2 بحيث أضفى على الكتاب من أدبه وعقله ما جعله يتخذ شكلًا آخر.
فلما مات عبد الملك بن سعيد، تولى أمر الكتاب عناية وزيادة وإضافة ولداه أبو جعفر أحمد الذي اتخذه عثمان بن عبد المؤمن وزيرًا له ثم ما لبث أن قتله غيرة منه لتعلق الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية بحبه وكان عثمان يهواها، وأبو جعفر هو أشعر بني سعيد ونجم لامع من فرسان الشعر والتوشيح في الأندلس3. قام أبو جعفر على السير قدمًا بالكتاب الذي بدأه الحجاري وتابعه عبد الملك والد أبي جعفر.
فلما قتل أبو جعفر سنة 550 هجرية تابع الجهد العلمي أخوه عبد الله محمد بن عبد الملك، وكان بنو عبد المؤمن الموحدون قد استوزروه وولوه أعمال إشبيلية وغرناطة ثم سلا بأقصى الغرب، وكان محمد وزيرًا جليلًا ذا همة وعلم وشمائل، ولقد عرف بالعلم والسياسة أكثر مما عرف بالشعر، وكان الشعراء ينتجعون ساحته فيجزل لهم العطاء تقديرًا للشعر وليس
1 المغرب "2/ 35".
2 نفح الطيب "3/ 95".
3 راجع دراستنا له في فصل شاعرات الأندلس من كتابنا "الأدب الأندلسي" والمغرب 2/ 164 والإحاطة 1/ 94.
أجرًا للمديح، مدحه الرصافي البلنسي بقصيدة جميلة طويلة قال في بعضها1:
إن الكرام بني سعيد كلما
…
ورثوا العلا والمجد أوحد أوحدا
قسموا المعالي بالسواء وفضلوا
…
فيها عمادهم الكبير محمدا
وعلى يدي محمد هذا بني الجامع الأعظم بإشبيلية وتوفي في غرناطة سنة 589هـ عن خمسة وسبعين عامًا.
ومن محمد بن عبد الملك تلقف الكتاب ولده موسى بن محمد، وكان عظيمًا كأبيه له مشاركة في السياسة شأن بقية أسرته، وله في الوقت نفسه إقبال على العلم وشغف بالقراءة والاطلاع ملك عليه حياته، لقد كان واليًا على الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس من قبل المتوكل بن هود، فلما مات المتوكل ترك السياسة، وتفرغ للعلم والاطلاع، والتأليف، والرحلة لجمع المعرفة، واتجه إلى المشرق لأداء فريضة الحج مصطحبًا ولده عليًّا، فتوقفا بعض الوقت في تونس، ثم مضيا في طريقهما حتى وصلا إلى الإسكندرية فمكثا فيها بعض الوقت لتعثر الرحلة إلى الحجاز، غير أن المنية عاجلته حيث هو سنة 640هـ ولقد كان موسى ذا فضل وفير، وهل هناك أفضل من رجل مرموق في السياسة والحكم يتركهما طائعًا لكي يتفرغ للعلم والرحلة في سبيل المعرفة، إن ولده يقول عنه: لولا أنه والدي لأطنبت في ذكره ووفيته حق قدره، وله في هذا الكتاب -أي كتاب المغرب- الحظ الأوفر، وكان أشغفهم بالتاريخ -أي أشغف بني سعيد- وأعلمهم به، وجال كثيرًا إلى أن انتهى به العمر بالإسكندرية2.
وهناك الكثير من الأمثلة التي تروى عن مدى تعلق موسى بالعلم والعلماء، والكتب، والصحف حتى وهو أمير على الجزيرة الخضراء، فقد علم أن لدى بعض المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس وقال: علي يمين ألا تخرج من منزلي وإن كانت له حاجة فليأتِ على رأسه، فلم تأخذه عزة الإمارة، بل ضحك وطلب إلى ابنه علي أن يسير معه إليه، فقال علي: ومن يكون حتى نمشي إليه على هذه الصورة؟ فقال موسى: إني لا أمشي إليه، ولكن أمشي إلى الفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم، واستطرد قائلًا: أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم؟ فقال علي: لا فقال إن الأثر ينوب عن
1 المغرب "2/ 162".
2 المغرب "2/ 170".
العين. وذهبا فاطلعا على الكراريس، وشكر موسى لصاحبها ثم قال لابنه:"إني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية، وإن هذا والله أول السعادة وعنوان نجاحها"1.
وفي مقام ترجمة علي بن موسى لوالده الأمير موسى بن سعيد الذي نحن بصدده تقديم شيء من أخباره قوله: "ومما شاهدت من عجائبه -أي من عجائب موسى- أنه عاش سبعًا وستين سنة، ولم أره يومًا تخلى عن مطالعة كتاب أو كتابة ما يخلده، حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك، ولقد دخلت عليه في يوم عيد، وهو في جهد عظيم من الكتب "الكتابة"، فقلت له: يا سيدي أفي هذا اليوم لا تستريح؟ فنظر إلي كالمغضب وقال: أظنك لا تفلح أبدًا، أترى الراحة في غير هذا؟ والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها، ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب "المغرب" على غرضي"2.
إن مثل هذا الأمير العالم الجليل للكتب المغرق في القراءة الدائب على الاطلاع لا بد وأن يكون إسهامه في الكتاب الذي يؤلفه أبوه وعمه وجده والحجاري إسهامًا نفيسًا ذا نفع وقيمة وأثر.
تنتهي حياة الأمير الوزير العالم الأديب الشاعر المؤلف موسى بن محمد بن عبد الله بن سعيد على النحو الذي ذكرنا بالإسكندرية، فينهض بالعمل في إتمام كتاب "المغرب" ولده علي بن موسى الذي كان قد أرسله أبوه إلى إشبيلية لينهل من مصادر العلم فيها ويتثقف على كبار علمائها آنئذ، وكانت تضم حفنة من أعلام العصر المرموقين، ويكون زميله في الدراسة إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الذي صار فيما بعد واحدًا من ألمع وزراء الأندلس وأرق شعرائها وأبرع وشاحيها.
ولئن أصاب إبراهيم بن سهل الإسرائيلي شهرته العريضة في ثنايا التاريخ بفنه الرقيق، وشعره العذب وتواشيحه الأنيقة فإن علي بن موسى قد أصاب شهرته بالسير في الدرب الذي اختطه جده الأعلى عبد الله بن سعيد وسار فيه من بعده بقية هذه الدوحة العالمة الجليلة في تأليف كتاب "المغرب".
والحق أن علي بن موسى الذي ينتسب نسبه ونسب قومه إلى الصحابي الجليل الشهيد عمار بن ياسر كان من الإقبال على العلم والولع بالتحصيل بحيث جعله لسان الدين بن الخطيب "وسطى عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه". ويمضي ابن الخطيب في إيفاء العالم الجليل حقه فيقول عنه "المصنف الأديب الرحالة، الطرفة، الأخباري العجيب الشأن في
1 نفح الطيب "3/ 95، 96".
2 المصدر السابق "3/ 99".
التجول في الأقطار، ومداخلة الأعيان للتمتع بالخزائن العلمية، وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية"، ويعدد ابن الخطيب مؤلفات علي بن موسى ويذكر منها "المراقصات والمطربات" و"المقتطف من أزاهر الطرف" و"الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد" والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار "المغرب في حلي المغرب" و "المشرق في حلي المشرق"، كما يذكر لسان الدين أن ابن سعيد هذا "خلف "مِرُزَمَةّ" تشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس، لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلا الله"1.
لقد ولد علي سنة 610هـ في غرناطة وتوفي في تونس في حدود سنة 685هـ وشأن كبار علماء ذلك الزمان كان لا بد للعالم الأندلسي أو المغربي من أن يرتحل إلى المشرق، وقد فعل علي ذلك، وقام برحلته الأولى في صحبة أبيه، ثم عاد لزيارة مصر مرة ثانية مرورًا بكبار المدائن في إفريقية، والتقى في مصر آنذاك بكبار شعرائها مثل بهاء الدين زهير، وجمال الدين مطروح وابن يغمور، ولقي منهم كل ترحيب وحسن ضيافة.
وتصادف أن نزل القاهرة في تلك الفترة المؤرخ المحدث كمال الدين بن العديم صاحب الموسوعة الكبيرة "بغية الطلب في تاريخ حلب" فاصطحبه معه إلى حلب وقربه إلى السلطان الناصر صاحب حلب، وأدخله عليه فأنشده قصيدة جميلة مطلعها.
جد لي بما لقي الخيال من الكرى
…
لا بد للضيف الملم من القرى
ولما علم الناصر بانشغال علي بن موسى بالتأليف مكن له من الاطلاع على خزائن كتبه، ومكن له من الوصول إلى الموصل وبغداد، وكان -لشدة إعجابه بذكائه ورقة شعره- يطلق عليه البلبل.
وفي نطاق رحلته العلمية تحول أيضًا إلى دمشق، واتصل بالسلطان المعظم بن الملك الصالح، وكان ذلك حوالي سنة 648هـ.
ويمضي علي بن موسى في الارتحال على سبيل العلم وعلى نهج العبادة فيرحل إلى البصرة، ويدخل أرجان ويحج بيت الله الحرام، ثم يعاوده الحنين إلى المغرب، فيشد رحاله إليها ويصنف كتابه النفيس "النفخة المسكية في الرحلة المكية"، ويتصل -حيث استقر في إفريقية- بالأمير أبي عبد الله المستنصر الذي يتقلب مقامه عنده بين الحظوة حينًا والجفوة حينًا آخر.
إن من كانت هذه طباعه من حب للعلم، وتلك صفاته من ولع بالرحلة لا يستطيع -
1 نفح الطيب "3/ 38".
على الأغلب- أن يكون صاحب أسرة، ومن ثم فإن عليًّا هذا يعيش عزبًا بغير زواج، ويترجم عن ذلك بشعر لطيف1:
أنا شاعر أهوى التخلي دون ما
…
زوج لكي ما تخلص الأفكار
لو كنت ذا زوج لكنك منغصا
…
في كل حين رزقها أمتار
دعني أرح طول التغرب خاطري
…
حتى أعود ويستقر قرار
كم قائل قد ضاع شرخ شبابه
…
ما ضيعته بطالة وعقار
إذ لم أزل في العلم أجهد دائما
…
حتى تأتت هذه الأبكار
مهما أرح من دون زوج لم أكن
…
كلا ورزقي دائما مدرار
وإذا خرجت لفرجة هنيتها
…
لا ضيعة ضاعت ولا تذكار
وإن عليًّا على علمه وفضله رقيق الشعر، عذب مأخذه، ممتنع محاكاته، رغم أنه لم يعرف في موكب الأدب كشاعر كبير، غير أن من يقرأ شعره الذي أفرد له صاحب نفح الطيب عشرات الصفحات يستطيع أن يمتع نفسه ويسر خاطره بفنون عديدة من الشعر الجميل وضروب لطيفة من الأدب البديع في الغربة، والوحشة، والحنين، وفلسفة الحياة، ووصف الطبيعة، والمساجلات والمدائح مما لا يسمح المقام هنا بالتمثل لها.
نعود إلى علي و"المغرب" وقصته مع أبيه يوم العيد، حين قال له أبوه "أظنك لا تفلح أبدًا" إلى آخر ما أوردنا. يقول علي تعليقًا على كلام أبيه "فأثار ذلك خاطري إلى أن صرت مثله لا ألتذ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشعر ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه". ومعنى ذلك أن كتاب "المُغرب في أخبار المغرب" قد اكتمل تأليفه، وخرج على الناس في صورته الأخيرة على يد علي بن موسى، ويكون بين أيدي قراء العربية كتاب ذو محتوى نفيس، وصاحب أغرب قصة في تأليف الكتاب، فلقد بدأه الحجاري سنة 530هـ وأنهاه علي بن
1 نفح الطيب "3/ 35".