الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: حركة التدوين
مدخل
…
الفصل الثالث: حركة التدوين
إن للتدوين أهميته وخطره، ذلك أن المادة المدونة هي الأساس الذي منه يلتقط المرء صنوف المعرفة يثقف بها نفسه ويروض بها عقله، ثم تختمر فيه لكي تجعل منه بعد ذلك منبعًا معطاء سواء في مجال التصنيف أو في التأليف.
ولكن إذا سألنا أنفسنا عما إذا كان هناك تدوين قبل الإسلام في النطاق العربي فماذا يكون الجواب؟
الواقع أن التدوين بالشكل المألوف الذي يؤدي إلى صور المعرفة المتعددة الألوان لم يكن معروفًا قبل الإسلام، باستثناء حالات قليلة لا تنهض لكي تشكل أساسًا يمكن أن ننطلق منه إلى عطاء يؤدي إلى معرفة واسعة.
لقد أدت الاكتشافات الأثرية إلى أن الحميريين كانوا يدونون أخبارهم والكثير من حوادثهم على الأحجار بخطهم الخاص بهم، وعلى أطراف الجزيرة العربية عرف أهالي الحيرة الكتابة ولكن بشكل محدود، وفي الحجاز وجد عدد قليل من الناس يعرف الكتابة، وكانت قلة من الشعراء تعرف الكتابة، وكان بعضهم يكتب قصائد وينسقها بنفسه، وفي بعض الروايات أن الرسول "ص" لقي سويد بن الصامت ومعه مجلة لقمان يعني صحيفة كتب فيها حكم لقمان، إلا أن ذلك كله لا ينتهي بنا إلى نتيجة مريحة حول وجود تدوين قبل الإسلام. فوسائل التدوين إن وجدت كانت بدائية.
تدوين القرآن الكريم وتفسيره:
ولما أنزل القرآن الكريم لم يكن بد من كتابته، وكان للوحي كتاب كما مر بنا، كانوا قلة من حيث عددهم، وكانوا يكتبون ما قد أنزل من الآيات على الرباع والأضلاع وسعف النخل والحجارة والرقاق البيض.
إنها وسائل بسيطة ابتدائية، ثم كان العمل الجليل الخطير الذي قام به أبو بكر في خلافته، بوصية من عمر، ونعني به جمع القرآن من صدور الحفاظ، ومن الرقاق والأضلاع والرقاع والسعف والحجارة التي كتب عليها، فبدأت عملية التدوين الكبرى الخالدة التي تخطئ قيد أنملة فيما قامت به من مهمة ليس لها مثيل في التاريخ.
إن تدوين القرآن الكريم بعد جمعه يعتبر البداية الفعلية الخطيرة لعلم التدوين.
والحق أن عملية جمع القرآن كانت من الدقة والعناية والحذق بمكان، ولكن الأمر لم يقف بالقرآن الكريم عند جمعه ولا بالمسلمين عند ذلك الجهد المخلص العظيم، وإنما احتاج المسلمون إلى فهم ما قد يستغلق عليهم فهمه من معاني آياته، فكان لا بد من وجود المفسر. ولما لم يكن كل مسلم صالحًا للتفسير، وإنما هي مؤهلات بعينها ينبغي لمن يتصدى لتفسير الكتاب العزيز أن يتحلى بها، فقد كان على صفوة الصحابة ممن عايشوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوموا بتلك المهمة كل قدر استعداده. ولم يكن الصحابي يشعر بأي حرج إذا لم يفهم الآية، بل إن عمر العظيم كان في بعض الأحيان إذا استغلق عليه استخلاص حكم من آية، يسأل غيره من الصحابة عن تفسير آية بعينها مثل ما فعله مع عبد الله بن عباس1 فأصبح ذلك تقليدًا في نطاق علم التفسير لا يزال ساري المفعول إلى يومنا هذا وإلى كل يوم في المستقبل.
فالذي لا شك فيه أن في الكتاب العزيز آيات كثيرة تحتاج إلى تفسير، فهناك الآيات المحكمات، وفيه أيضًا الآيات المتشابهات، وفيه الآيات التي يحتاج تفسيرها إلى أسباب نزولها، وفيه آيات العبادة والتشريع والمعاملات. وفي الآيات من الألفاظ ما يحتاج فيه إلى معرفة اللغة وإتقان فهمها والإلمام بعلومها، كل ذلك حد من عدد المفسرين بحيث كان عدد الصحابة ممن تصدوا لتفسير الكتاب العزيز من قلة العدد بمكان، وأشهر الذين جلسوا للتفسير علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب.
ويمضي جيل الصحابة ويليه جيل التابعين الذين أخذوا عن الصحابة من علوم الدين ما أخذوا وبينها التفسير، ثم يلي ذلك جيل تابعي التابعين، ومع كل جيل تتسع آفاق المعرفة خاصة وأنهم كانوا قد تفرقوا في الأمصار حيث ألوان جديدة من الثقافات، ولكنهم في الوقت نفسه محافظون على ما في صدورهم من علم موروث بالرواية والدراية، وبالجهد المخلص المكتسب، حتى ظهرت التفاسير المكتوبة التي اعتمد المفسرون فيها على مؤهلات المفسر وفي مقدمتها الرواية الموروثة المتسلسلة عن الصحابة والتابعين. وهذا
1 الموافقات للشاطبي "3/ 201" وما بعدها.