الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: أبو بكر الصولي
....-335هـ:
إن أبا بكر محمد بن يحيى الصولي واحد من أولئك الأعلام الكبار الذين توفروا على الأدب العربي وأدبائه -وبخاصة الشعراء منهم- توفرا مجيدًا منتجًا مثمرًا بحيث بلغت آثاره حسبما أوردها المترجمون له خمسة وثلاثين مؤلفًا ثمينًا شملت بالإضافة إلى الأدب، التاريخ واللغة وعلوم القرآن.
وأبو بكر الصولي يجمع بين انتماءين رفيعين بارزين، انتماء الأصل الذي ينتهي به إلى أحد جدوده "صول" الذي كان هو وإخوته ملوكًا على منطقة طبرستان، ثم أسلموا وأسهموا في الحضارة والفكر والآداب والسياسة الإسلامية بنصيب، والانتماء الثاني انتماء قريب، إنه واحد من أعلام الصوليين البلغاء الأذكياء الذين خدموا الثقافة العربية والسياسة الإسلامية على عهد العباسيين. فعم أبيه إبراهيم الصولي المتوفى سنة 243هـ كاتب العراق في عصره صاحب القلم الذهبي نثرًا، وصاحب الملكة الساحرة شعرًا حتى إن دعبلًا الخزاعي الشاعر الذي لا يشق له غبار قال فيه: لو تكسب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا بغير شيء، وأما المسعودي فيقول عنه: لا يعلم فيمن تقدم وتأخر من الكتاب أشعر منه. ومهما كان في قول كل من دعبل والمسعودي من مبالغة أو مجاملة، فإن الأمر الذي لا شك فيه أن إبراهيم كان من أرق الأدباء شعرًا وأكثرهم لماحية، وأسرعهم خاطرة وأخصبهم قلمًا. وكان في الوقت نفسه من أصحاب المؤلفات وإن تكن قليلة، فقد ترك -فضلًا عن ديواني شعره ونثره- كتاب الدولة، وكتاب العطر، وكتاب الطبيخ1.
1 راجع أخباره في وفيات الأعيان "ج1/ 44" ومعجم الأدباء "1/ 261" ط المأمون، وتاريخ بغداد "6/ 117" وفي كتابنا الأدب في موكب الحضارة الإسلامية "ص401" وما بعدها.
ومن أعمام أبيه أيضًا عمرو بن مسعدة المتوفى سنة 217هـ، وكان عمرو صاحب علم وفضل وبلاغة وسياسة، عمل وزيرًا للمأمون وللحسن بن سهل، ولسحر قلمه في الكتابة كان المأمون يردد بعض كتبه إعجابًا واستحسانًا، وقرأ له جعفر البرمكي توقيعًا ذات يوم وكان لا يزال كاتبًا صغيرًا في ديوانه فضربه على كتفه ضربة إعجاب وأردف، قائلًا: أي وزير في جلدك1؟.
إن لأبي بكر الصولي من أسباب الانتماء الأدبي والأسرى ما يمكن أن يهيء له سبل النبوغ الأدبي والإبداع العلمي فيما لو تعهد نفسه وصقلها باكتساب المعرفة. ولقد فعل. فإنه روى وتتلمذ على أبي داود السجستاني وأبي العباس ثعلب، وأبي العباس المبرد وكثيرين غيرهم من صفوة علماء زمانه الذين أورد أسماءهم تفصيلًا بعض من ترجموا له2.
وقد بلغ من هيام أبي بكر بالمعرفة والكتب أن اقتنى في بيته مكتبة كبيرة أحسن ترتيبها وتأنق في تجليد كتبها وتعدد ألوانها. وكان أكثر ما فيها من كتب -على ما يبدو- تلك التي دونها أو نسخها أو ألفها بنفسه، وكان يقول مشيرًا إليها: هذه كلها سماعي. فإذا احتاج إلى مراجعة شيء قال: يا غلام، هات الكتاب الفلاني. ويبدو أن ذلك لم يعجب بعض معاصريه، فقد ألفوا من العلماء أن يحاضروا أو يتكلموا دون الرجوع إلى ورقة أو كتاب مثلما كان يفعل ابن الأعرابي، ومن ثم فإن أبا سعيد هجا أبا بكر الصولي من خلال مكتبه قائلًا هذه الأبيات الطريفة3:
إنما الصولي شيخ
…
أعلم الناس خزانه
إن سألناه بعلم
…
طلبًا منه إبانه
قال يا غلمان هاتوا
…
رزمة العلم فلانه
وإذا كان قد بدا للعقيلي أن مراجعة أبي بكر لكتبه نقيصة فإنه قد جانب الصواب؛ لأن استشارة الكتاب ومراجعته واجبة في كل عصر وكل زمان.
وأبو بكر له أيضًا مشاركة في رواية الحديث، وقد ذكره الخطيب البغدادي أكثر من مرة كواحد من المحدثين الذين ينسلكون في عنعنة إسناد أكثر من حديث4.
وشأن كثير من الأدباء، إن لم يكن جميعهم، قال أبو بكر شعرًا رقيقًا ولكنه ليس من
1 راجع أخباره في تاريخ بغداد "12/ 202" ومعجم الأدباء "6/ 88" والأدب في موكب الحضارة "394".
2 تاريخ بغداد "3/ 427" ووفيات الأعيان "4/ 356".
3 الوافي بالوفيات "5/ 192".
4 تاريخ بغداد "3/ 427، 428، 431".
الكثرة أو الوفرة بمكان. فأكثر الذين يشتغلون بالعلم والتعليم ويتفرغون للثقافة حصادًا وتأليفًا قلما يجدون من وقتهم ما يسمح لهم بالإكثار من قول الشعر، ومن ثم أبو بكر الصولي ومن هم على شاكلته من العلماء المؤلفين كالمرزباني والمبرد وثعلب والثعالبي، ومن إليهم يقولون الشعر ولكن في قلة وندرة. ومع ذلك فإن ما روي لأبي بكر الصولي من شعر لم يخل من مسحة رقة وجمال رونق، فمن ذلك قوله:
أحببت من أجله من كان يشبهه
…
وكل شيء من المعشوق معشوق
حتى حكيت بجسمي ما بمقلته
…
كأن سقمي من جفنيه مسروق
إنه شعر رقيق لا شك، ولكنه على رقته خالٍ من عاطفة الشاعر ولوعة المحب وحرارة المشتاق، ولقد أورد له كل من ابن خلكان والخطيب البغدادي وصلاح الصفدي أكثر من مقطوعة شعرية1.
وأسهم أبو بكر في تربية بعض الخلفاء وتعليمهم، فقد كان معلمًا للراضي ثم أصبح له نديمًا. ونادم غير الراضي من ملوك بني العباس مثل المكتفي والمقتدر. ومنادمة الملوك آنذاك لم تكن مجرد لقاء على كأس أو مجالسة على شراب، وإنما كانت المنادمة في كثير من حالاتها مجالسات أدبية ومطارحات علمية ومبادهات فكرية، ولقاءات فكاهية. واحتفاظ ثلاثة من الخلفاء بمنادمة إنسان بعينه له دلالة كبيرة على فصل هذا النديم وظرفه وأدبه.
بقيت صفة هامة من صفات أبي بكر الصولي، أو بالأحرى موهبة جديرة بالإشارة والتسجيل، تلك هي براعته الفائقة في لعب الشطرنج، الأمر الذي جعل لقب "الشطرنجي" متصلًا باسمه بحيث إن كل كتب التراجم تذكر اسمه مقرونًا بهذا اللفظ فيقال: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي الشطرنجي، أو أبو بكر الصولي الشطرنجي، وأحيانًا أبو بكر الشطرنجي دون ذكر الصولي، ولبراعة الصولي الفائقة في لعب الشطرنج أصبح مضربًا للمثل فكان يقال في مجال الإعجاب بلاعب شطرنج "إنه يلعب الشطرنج مثل الصولي" بل إن بعض العامة -لكثرة ما سمعوا عن إتقانه اللعبة- ظنوا أنها من اختراعه.
وإذا ما تحدثنا عن أبي بكر الصولي المؤلف فإننا سوف نلقى العديد من الكتب التي قدرنا عدد ما وصل إلينا منها بنيف وثلاثين كتابًا في الأدب من شعر ونثر، وأخبار الأدباء من شعراء وكتاب، والتاريخ والدين والمجتمع.
ففي الأدب كتب الصولي "كتاب الأوراق"،
1 وفيات الأعيان "4/ 356" وتاريخ بغداد "3/ 429" والوافي بالوفيات "5/ 191".
وكتاب "أشعار أولاد الخلفاء" وكتاب "أدب الكتاب" وثلاثتها مطبوعة ميسورة بين أيدينا ومن أخبار الشعراء كتب الصولي: "أخبار أبي تمام" و "أخبار البحتري"، وهما مطبوعان، و "أخبار أبي عمرو بن العلاء" و "أخبار ابن هرمة" و "أخبار السيد الحميري" و "أخبار إبراهيم ابن المهدي" و "أخبار إسحاق بن إبراهيم" و "أخبار أبي نواس" و "أخبار سديف ومختار شعره" و"أخبار الفرزدق".
وفي مجال جمع الشعر فإنه جمع شعر ابن الرومي، وجمع شعر أبي تمام وهو ديوانه، وجمع شعر البحتري، كما جمع شعر كل من: أبي نواس، والعباس بن الأحنف، وعلي بن الجهم، وابن طباطبا، وإبراهيم بن العباس الصولي، وأبي عيينة المهلبي، وأبي شراعة، وكلهم من شعراء العربية المرموقين الذين يمثلون الجانب المشرق من الشعر العربي. ولسوء الحظ فإن القليل من هذه الأعمال هو الذي وصل إلينا، أما أكثره فقد ضاع بين ما ضاع من تراث وكنوز. ويكتب أبو بكر الصولي كتابًا آخر يضم أخبار جماعة من الشعراء المحدثين وقد رتبه على حروف المعجم، ولعل المرزباني الذي سوف يأتي حديثه بعد حين قد ألف كتابه "معجم الشعراء" على شاكلته.
ولقد أسهم أبو بكر في جمع شعر بعض القبائل فكتب كتابًا عن شعراء مضر.
وفي مجال التاريخ كتب الصولي عدة كتب هي: "أخبار الخلفاء" و "أخبار أبي سعيد الجنابي" وهو الحسن بن بهرام القرمطي صاحب هجر، وكتاب "مناقب ابن الفرات" ورسالة صغيرة في وقعة الجمل و "كتاب أخبار القرامطة".
ولقد أسهم أبو بكر الصولي في قافلة كتب الأمالي فكتب كتابًا في الأمالي أسماه "الغرر" ولعل الشريف المرتضى قد اقتفى ذلك العنوان في "أماليه" التي أسماها "غرر الفوائد ودرر القلائد" التي سوف يأتي حديثها حينما نعرض لكتب الأمالي.
وفي الطبقات ترك لنا الصولي كتابًا أسماه "كتاب العبادلة" وهو في التعريف بمن أسمهم "عبد الله" من الأعلام والأعيان.
واهتم الصولي بأخبار بعض المتصوفة فكتب كتابين أحدهما في "أخبار الحلاج" والثاني في "أخبار الجبائي".
ولما كان الصولي حسن الاعتقاد، ذا دين وشمائل، فقد كان من الطبيعي أن يسهم في تأليف بعض الكتب التي تتصل بالعبادات والعلوم الإسلامية، فترك لنا في هذا الشأن "كتاب العبادة" و "كتاب الشامل في علوم القرآن" و "كتاب سؤال وجواب رمضان" و "كتاب السعادة".
وفي مجال الثقافة العامة والطرائف والنوادر كتب الصولي كتابًا في "الشباب والنوادر" عمله لابن الفرات و "كتاب الأنواع".
تلك هي مؤلفات الصولي كما وردت في العديد من المصادر التي اهتمت به وفي مقدمتها كتاب "وفيات الأعيان" و "الوافي بالوفيات" و"تاريخ بغداد" و "الفهرست" و "مقدمة أخبار أبي تمام" التي كتبها محققو الكتاب، ومقدمة الصولي نفسه لكتاب "أخبار أبي تمام".
هذا ما كان من أمر مؤلفات أبي بكر الصولي، وهي وفيرة قيمة متنوعة وإن كانت كثرتها تدخل في مضمار الأدب والشعر أكثر مما تندرج تحت لواء آخر من ألوية العلوم والفنون، وذلك يضفي أهمية خاصة عند المتأدبين على كل ما خطته يراع الصولي جمعًا أو تأليفًا أو إخبارًا.
غير أن الأمر الجدير بالأهمية هو المنهج الذي يتبعه الصولي عندما كان يكتب كتابًا، أو يؤلف مؤلفًا. بين أيدينا عدد من كتبه المطبوعة مثل "أخبار أبي تمام" و "أخبار البحتري" و "أدب الكتاب" و "الأوراق" و "أشعار أولاد الخلفاء" وقد يغني تتبع منهجه في واحد من هذه الكتب التي بين أيدينا عنه في بقيتها لتقارب الموضوعات التي تناولها فيها. ولما كان أشهر كتبه التي بين أيدينا هو كتابه "أخبار أبي تمام" فلقد يكون من المقبول أن نجعل تتبعنا لمنهج المؤلف منطلقًا من خلال هذا الكتاب.
أخبار أبي تمام منهجًا وعرضًا:
الذي لا شك فيه أن الصولي واحد من المتحمسين لأبي تمام، المتعصبين لشعره وفكره وشخصه، وسوف نلاحظ ذلك في أكثر صفحات الكتاب وفصوله إن لم يكن في كل الصفحات وكل الفصول.
بدأ أبو بكر كتابه برسالة طويلة كتبها إلى مزاحم بن فاتك يشرح فيها سبب تأليفه الكتاب ويذكر صراحة أنه إنما كتب هذه الرسالة دفاعًا عن الشاعر الطائي الكبير، وتحتل هذه الرسالة بضعًا وخمسين صفحة من صفحات الكتاب.
ثم يفرد الصولي فصلًا طويلًا يقارب المائة صفحة إلا قليلًا في تفضيل أبي تمام، وفي سياق هذا الفصل الطويل يعمد بين الحين إلى إثبات نص حسن للشاعر وتعليق بعض كبار الأدباء والشعراء عليه من أمثال "المبرد" أو "علي بن الجهم" ويأتي بالأبيات الجميلة التي قالها في نسب الأخوة الذي يجمع بين أديب وأديب الموجهة إلى علي بن الجهم:
إن يُكْدِ مطَّرِف الإخاء فإننا
…
نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا
…
عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسبٌ، يؤلف بيننا
…
أدب أقمناه مقام الوالد
ويحمل الصولي على دعبل الخزاعي حملة شعواء؛ لأن هذا الأخير كان ينال من أبي تمام وشعره ويتهمه بالسطو عليه وسرقة معانيه، كما يحمل على إبراهيم بن المدبر لتعصبه على أبي تمام1.
ويستغل الصولي سماحة البحتري ووفاءه لأبي تمام فيلح على تلك المعاني ويكرر للبحتري أقوالًا طيبة في أستاذه كقوله: والله ما أكلت الخبز إلا به".
ولما كان أبو تمام مشهورًا بالاستفتاحات الغريبة والمعاني المستغلقة الفهم، فإن الصولي يدافع عن أبي تمام من خلال حوار قصير رواه ابن الأعرابي جرى بين أبي تمام وأحد معاصريه فقد قيل لأبي تمام: لم لا تقول من الشعر ما يعرف؟ فأجاب سائله: وأنت لم لا تعرف من الشعر ما يقال؟ ويربط صاحب الخبر بين هذا الحوار وسرعة بديهة أبي مام بقوله: كان أبو تمام إذا كلمه إنسان أجابه قبل انقضاء كلامه2.
ومن المعروف أن أكبر منافسي أبي تمام من معاصريه جودة شعر ورصانة أسلوب وقوة بديهة وشدة عارضة، هو تلميذه البحتري، ومن هنا يركز الصولي على البحتري ضاربًا العديد من الأمثلة الشعرية التي اختارها بعناية وذكاء والتي اشترك في القول فيها كل من الشاعرين الكبيرين بحيث يظهر أبا تمام في مظهر المتقدم على منافسه الظاهر عليه3.
وربما أتى الصولي بالقصة الطويلة المملة؛ لا لشيء إلا لأن فيها بيتا لأبي تمام جرى استحسانه من خلال سرد القصة وروايتها.
وبعد هذا الفصل والمقدمة التي سبقته -وهما أهم ما قصد إليه الصولي وراء تأليفه هذا الكتاب- يفرد المؤلف فصلًا لأخبار الشاعر مع كل ممدوح من ممدوحيه: فصلًا له مع القاضي أحمد بن أبي دؤاد، وفصلًا آخر مع القائد خالد بن يزيد الشيباني، وفصلًا تاليًا له مع الكاتب الحسن بن رجاء. وفي كل هذه الفصول يعمد الصولي إلى الحديث عن لقاء الشاعر بممدوحه وإنشاده إياه وبعض الحوار الذي جرى بينهما أو بين الشاعر والمستمعين. ولا يفوت المؤلف أن يذكر من الأخبار في هذه اللقاءات كل ما يرفع من شأن أبي تمام كشاعر أو كعالم أو كإنسان. فهو يروي خبرًا عن الحسن بن رجاء يصف فيه أبا تمام بقوله: رأيت رجلًا علمه وعقله فوق شعره4 كما يروي قصة إنشاده لاميته في الحسن بن رجاء، وكيف أن
1 أخبار أبي تمام "97".
2 المصدر "72".
3 المصدر "73-88".
4 المصدر "167".
الحسن حين سمع قول الشاعر فيه:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى
…
فالسيل حرب للمكان العالي
وتنظري خبب الركاب ينصها*
…
محيي القريض إلى مميت المال
يقوم واقفًا ويقول للشاعر: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم1.
وفي معرض -تعظيم أبي تمام والتحمس له يروي الصولي خيرًا عن المبرد مفاده أنه -أي المبرد- ما سمع الحسن بن رجاء يذكر أبا تمام إلا قال: ذاك أبو التمام، وما رأيت أعلم بكل شيء منه2.
ومن خلال هذه الأخبار التي تخلع ثياب المجد والتمجيد على أبي تمام ينتهز الصولي المناسبة فيذكر بعض الأخبار التي كانت سببًا في مؤاخذة الشاعر، ويدافع عنه وقد هيأ القارئ لتقبل دفاعه بما خلعه عليه من صفات كثيرة جليلة. فمن ذلك على سبيل المثال الخبر الذي رواه أحمد بن طاهر وهو أنه دخل على أبي تمام وهو يعمل شعرًا وبين يديه شعر أبي نواس ومسلم، فقال له: ما هذا؟ فأجابه أبو تمام: هذان اللات والعزى وأنا أعبدهما من دون الله من ثلاثين سنة3. إن الكثيرين من المتأدبين أخذوا هذا القول على أبي تمام ووجهوا إليه نقدًا شديدًا لمثل هذا الأسلوب الذي يتنافى مع جلال عبادة الله، وبعض الناس كفره بسببه، ولكن الصولي يؤول قول أبي تمام تأويلًا يرفع عنه غضب من غضب وتكفير من كفر قائلًا: "هذا إذا كان حقًّا فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى؛ لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر، والمعنى أنهما قد شغلاني عن عبادة الله عز وجل، وإلا فمن المحال أن يكون عبد اثنين لعله عند نفسه أكبر منهما أو مثلهما أو قريب منهما". ويستطرد الصولي متناولًا الموضوع -لصالح أبي تمام- تناولًا طريفًا قائلًا: "على أنه ما ينبغي لجاد أو لمازح أن يلفظ بلسانه أو يعتقد بقلبه ما يغضب الله عز وجل، ويثاب من مثله، فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجل شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به حتى يلعنوه في المجالس؟ ولو كان على حال الديانة لأغروا من الشعراء بلعن من هو صحيح الكفر، واضح الأمر، ممن قتله الخلفاء -صلوات الله عليهم- بإقرار وبينة، وما نقصت بذلك رتب أشعارهم، ولا ذهبت
* ينص الناقة يستعجلها ويستخرج أقصى ما عندها من سرعة، الركاب الإبل واحدتها راحلة.
1 أخبار أبي تمام "168".
2 المصدر "171".
3 المصدر "173".
جودتها، وإنما نقصوا هم في أنفسهم، وشقوا بكفرهم1. ويمضي الصولي في هذا الشوط طويلًا ذاكرًا المؤاخذات المتماثلة عند شعراء العربية -في نطاق الإيمان والكفر- ابتداء من امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشى إلى الأخطل، منتهيًا إلى الحكم بأن فساد عقيدة الشاعر لا ينسحب على شعره.
ويمضي الصولي في كتابه "أخبار أبي تمام" عاقدًا فصولًا له مع بقية ممدوحيه، مع الحسن بن وهب، ومع آل طاهر بن الحسين، ومع القائد أبي سعيد الثغري، ومع أحمد بن المعتصم، وكلها لا تخرج من حيث منهجها عن أخباره معهم وبعض قصائده فيهم، واستماحته إياهم، وقوة عارضته في الارتجال، مع اغتنام الفرصة بين الحين والحين لإيراد رأي يرفع من قدر الشاعر ويمجد المعجبين به ويحط من شأن حساده وناقديه.
فإذا ما انتهى الصولي من عرض فصوله العديدة التي مجد فيها الشاعر وتعصب له فيها تعصبًا ظاهرًا ودافع عنه من خلالها دفاعًا طيبًا، أفرد فصلين اثنين يتصلان بشاعره، ولكنهما يتعارضان مع حماس المؤلف للشاعر: فصلًا ضم أهاجي مخلد بن بكار الموصلي في أبي تمام، وقد هجاه حيًّا وميتًّا. وربما كان الصولي من الذكاء بحيث عمد إلى ذكر أهاجي ابن بكار في أبي تمام بعد أن مات كي ينال من قدر الشاعر الذي يهجو الأموات وهو بذلك لم يقصد إلى ذكر شعر ينال من قدر أبي تمام بقدر ما قصد إلى النيل من مروءة ابن بكار2. وفصلًا آخر قصيرًا عن معائب أبي تمام ذكر فيه بعضًا من المآخذ التي أخذها الدارسون والرواة والنقاد على أبيات من شعره.
يعود الصولي مرة أخرى إلى تمجيد أبي تمام بذكر محفوظاته، وما عنده من روايات، وما لديه من مختارات يرددها في مجالسه، وجعل ذلك تحت عنوان "ما رواه أبو تمام" وهي في جملتها عذبة طريفة مما يحسن سمعه ويجمل ترديده، فمن ذلك على سبيل المثال: قال رجل لرجل: ما أحسن حديثك؟ فأجابه: إنما حسنه حسن جوار سمعك. أو قوله: حدثني يحيى بن إسماعيل الأموي عن إسماعيل بن عبد الله، قال جدي: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظة، ولا يقظة إلا بمنام3.
ثم أردف الصولي بذكر فصل آخر عن "صفة أبي تمام وأخبار أهله"، وهو فصل قصير ذكر فيه صفات الشاعر وسماته وقسماته، وذكر أخاه سهمًا وولده تمامًا، وجاء لهما بشعر يترجح بين التوسط والرداءة.
1 أخبار أبي تمام "173".
2 أخبار أبي تمام "234" وما بعدها.
3 أخبار أبي تمام "258".
ثم يجد الصولي بين ما يجد من مادة أبي تمام التي لديه بعض الأخبار، فاته أن يضمنها الفصول الماضية فيعقد لها فصلًا تحت عنوان "أخبار لأبي تمام متفرقة" وهو تحايل منهجي إن لم يكن مقبولًا موضوعًا فهو طريف شكلًا. وتلك الأخبار التي ضمنها المؤلف هذا الفصل طريفة في جملتها، فمنها على سبيل المثال أن أبا تمام كان يقول: أنا ابن قولي:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
…
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
…
وحنينه أبدًا لأول منزل1
ويذكر الصولي ضربًا آخر طريفًا حول أبي تمام والمطلع الذي انتقده الناس بسببه: "كذا فلحل الخطب وليفدح الأمر" مفاده أن عمرو بن أبي قطيفة رأى أبا تمام في النوم فقال له: لم ابتدأت بقولك: "كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر" فأجابه: ترك الناس بيتًا قبل هذا، إنما قلت:
حرام لعين أن تجف لها شفر
…
وأن تطعم التغميض ما أمتع الدهر
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
…
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر2.
وبعد أن يعقد المؤلف صفحة وبعض صفحة لفصل بين فيه وفاة أبي تمام وتاريخها يختم كتابه بفصل عن المراثي التي قيلت فيه، وهي في جملتها لا تزيد على خمس قصائد ومقطوعتين، ولعل أبلغها وأرقها جميعًا مرثية الحسن بن وهب3.
كان هذا منهج الصولي في كتابه أخبار أبي تمام، وعلى الرغم من أن الصولي قد جعل من كتابه هذا ميدانًا للدفاع عن أبي تمام والتحمس له، فإن هذا الكتاب من الناحية الموضوعية والمنهجية قد وفى بالغرض الذي استهدفه مؤلفه من حيث التعريف بأبي تمام وبحياته الخاصة والعامة وبثقافته، وعلاقته بالناس بصفة عامة وبممدوحيه بصفة خاصة وبشعره بصفة أخص.
فإذا تركنا الصولي لأبي تمام وغضضنا النظر عنه، فإن ذلك قد لا ينال كثيرًا من جوهر الكتاب والمقصد من تأليفه.
1 المصدر "263".
2 المصدر "265".
3 أخبار أبي تمام "175".
ويمكن أن نطبق منهج الصولي في كتبه عن أخبار الشعراء الآخرين التي مر ذكرها، فإذا استعرضنا مثلًا كتابه "أخبار البحتري" وجدناه من حيث المنهج لا يختلف كثير عن منهج أخبار "أبي تمام" اللهم إلا في ذلك الحماس الذي ميز به الصولي كتابه عن أبي تمام ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى الكتب الأخرى التي ورد ذكر اسمها، ولم تصل إلينا نصوصها مثل: أخبار ابن هرمة، وأخبار السيد الحميري وأخبار الفرزدق وأخبار إسحاق بن إبراهيم، وأخبار أبي نواس.
ومهما كان الأمر في كتاب "أخبار أبي تمام" والهدف الذي استهدفه الصولي من وراء تأليفه، فإنه يمكن أن يعد نوعًا من الدفاع الواضح غير المستتر عن أبي تمام تجاه الدفاع المستتر عن البحتري، والعصبية الأدبية التي ضمنها الآمدي كتابه "الموازنة". وبعبارة أخرى فإننا نستطيع أن نقتبس رأي الأستاذ أحمد أمين الذي ورد في تقديمه لكتاب أخبار أبي تمام بقوله "قد مضى زمان كنا لا نسمع فيه إلا نغمة الانتصار للبحتري، فكان في هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن ما يعدل هذه النغمة ويلطف هذه الحدة فتتجاوب النغمتان، وتتعادل الكفتان، ويكون أمام القاضي العادل أقوال الخصوم والمؤيدين تامة في غير نقص". ومجمل القول في كتاب "أخبار أبي تمام" للصولي أنه ضرورة دراسية ومصدر أساسي لا غنى عنه لمن يريد التصدي لدراسة أبي تمام والتحدث عن شعره.