الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استيعابه لغيره، وذلك في قوله:"وجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: "وقد طالت أخباره ها هنا وسنذكر أخباره مع عتبة في موضع آخر"، ولم يفعل. وقال في موضع آخر: "أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت". ولم يتقدم شيء.
ويتابع ياقوت عدد الأصوات التي ذكر الأصفهاني أنها مائة ويحصيها فيجدها تسعة وتسعين لا غير.
ونحن نقف موقف الغرابة من إغفال الأصفهاني ذكر أبي نواس بصفة خاصة، ذلك أن صفات الشبه وسمات السلوك ومنعطفات الانحراف متشابهة إلى حد التطابق بين الرجلين بل إن ذكر أبي نواس وقصص مجونه والمنحرف من شعره، مما يتمشى مع هوى الأصبهاني في كتابه هذا. ومن هنا فلربما كان فرط الحرص مع هذا العمل الضخم سببًا في نسيان إلحاق فصل عن أخبار أبي نواس بالكتاب.
وأما إغفاله ترجمة ابن الرومي فنحن نميل إلى أنها مقصودة، بل إنه إهمال متعمد، وذلك لسلاطة لسان ابن الرومي ومرارة هجائه وشدة تطاوله على الناس بحيث كان أشد وطأة على بعضهم من بشار في أهاجيه. وأبو الفرج حين ذكر ابن الرومي في كتابه ذكره في سياق خبرين ينالان من مروءته ويطعنان في مسلكه، فقد ذكره مرة على أنه سارق منتحل والمرة الأخرى على أنه بعيد عن المروءة شامت في نكبة سليمان بن وهب1. ولم يكن الأصبهاني أول من أهمل ذكر ابن الرومي من مؤرخي الأدب فإن ابن المعتز صنع الشيء نفسه.
1 الأغاني "9/ 28، 20/ 72".
مختصرات الأغاني:
لا شك أن في كتاب الأغاني من المظاهر والبواطن ما يغري بعض العلماء على اختصاره أو تبسيطه. واختصار الكتب الكبيرة أمر جرت عليه طبيعة الثقافة العربية. وقد عرفنا كيف كان بعض العلماء يختصرون كتبهم المطولة كما فعل العماد الأصبهاني مع كتابه "الخريدة" وكما فعل البيهقي مع "دمية القصر".
إن هناك من رأوا ضرورة اختصار "الأغاني" وتخليصه من الأسانيد ومفاتيح الموسيقى التي لا يفهمها إلا المتخصص، والتي أشرنا إلى شيء منها فيما مضى من صفحات بحيث يصبح الكتاب أدبًا محضًا، وهناك من رأى ضرورة تجريد الكتاب مما يخدش الحياء ويتنافى مع القيم الأخلاقية، وهناك من رأى إعادة ترتيبه بشكل زمني وإضفاء طابع كتب الطبقات
عليه، وهكذا لكل من حاول اختصاره وجهة نظر خاصة به طبقها حين مارس عملية الاختصار التي أقدم عليها.
وتنتهي إلى علمنا ثماني محاولات من هذا القبيل كان أولها ما قام به الوزير الحسين بن علي بن حسين أبو القاسم المعروف بالمغربي المتوفى سنة 418هـ، ومعنى ذلك أنه بدأ يختصر كتاب الأغاني ولما يمض على وفاة مؤلفه نصف قرن من الزمان. وكان آخرها ما قام به الشيخ محمد الخضري العالم المصري الجليل الذي توفى سنة 1927.
غير أن أشهر مختصرات الأغاني وأكثرها فائدة فيما نرى هي:
1-
ما قام بعمله ابن واصل الحموي المتوفى سنة 697هـ وكان يلقب بقاضي القضاة، وشيخ الشيوخ بحماة، واسمه كاملًا: محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل. وقد سمى كتابه "تجريد الأغاني من ذكر المثالث والمثاني" وعنوان المختصر يفيد أنه جرده من صفته الموسيقية، وهذا هو ما قام به بالفعل، كما أنه خلصه من التكرار والعنعنات، وزاد بأن شرح الصعب من الألفاظ، ولا يزال الكتاب مخطوطًا بدار الكتب المصرية.
2-
ما قام به ابن منظور المصري المتوفى سنة 711هـ صاحب "لسان العرب" واسمه محمد بن علي، وكنيته أبو الفضل جمال الدين بن منظور، وكان سخي الذهن نابغ الفكر خصب الإنتاج ويكفيه فضلًا قاموسه "لسان العرب" الذي لم يستطع فرد ولا جماعة حتى الآن تصنيف ما يماثله دقة وعمقًا وإحاطة وشمولًا. ومن الطريف أن ابن منظور في الوقت الذي نرى له أطول وأفضل قاموس، نجده في الوقت نفسه مولعًا باختصار المطولات من كتب الأدب مثل الحيوان للجاحظ، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وذخيرة ابن بسام وأغاني الأصبهاني وهو الذي يعنينا في هذا المقام وسماه "مختار الأغاني في الأخبار والتهاني" وهو من الأعمال الجليلة التي تيسر النفع وتصل بالباحث إلى ضالته في سرعة ويسر.
3-
ما قام به الشيخ محمد الخضري الأستاذ بالجامعة المصرية، وصاحب المؤلفات النفسية في اللغة والأدب والتاريخ، إنه لم يختصر كتاب الأغاني على النحو الذي مر ذكره، ولكنه في الواقع هذب الكتاب وصنع منه شيئًا آخر، وهو لذلك سماه "تهذيب الأغاني" وجعله في سبعة أجزاء وخصص جزءًا أضافه إلى السبعة ضمنه الفهارس والملاحظات. وقد فصل الشيخ الخضري بين الغناء والشعر، ورد الأشعار إلى أصولها طبقًا لروايتها الصحيحة وليس تبعًا لما غناه المغنون أو المغنيات وأتم القصائد المبتورة، وقسم الشعراء إلى طبقات زمنية: جاهليين، ومخضرمين، وإسلاميين، ومخضرمي الدولتين، ومحدثين. وخص كل طبقة بجزء حسب الترتيب الذي ذكرناه. ولما كان الشعراء المحدثون من كثرة العدد ووفرة الإنتاج بمكان فقد خصص لهم جزءين هما الخامس والسادس، وأما الغناء والمغنون فقد أفرد
لهم جزءًا منفردًا هو الجزء السابع من الكتاب.
ومهما كان الأمر، فإن كتاب الأغاني بكل ما فيه من غث وسمين، وبكل ما اشتمل عليه من حسن وقبيح، وبكل ما ضمنه من درر وبحص، يعتبر حتى الآن قمة التأليف في الأدب العربي، ولا يزال نسيج وحده منهلًا للأدباء وموردًا سائغًا للدارسين.