المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النوع من التفسير هو التفسير بالمأثور. ولكن اتجاهًا آخر في - مناهج التأليف عند العلماء العرب

[مصطفى الشكعة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي

- ‌الفصل الأول: فجر الحركة العلمية

- ‌الفصل الثاني: فجر الحركة التاريخية

- ‌الفصل الثالث: حركة التدوين

- ‌مدخل

- ‌تدوين القرآن الكريم وتفسيره:

- ‌تدوين الحديث:

- ‌تدوين العلوم والمعارف:

- ‌الباب الثاني: الكتابة والإنشاء

- ‌الفصل الأول: الكتابة بدأت عربية دون تأثير فارسي

- ‌مدخل

- ‌يحيى بن يعمر العدواني:

- ‌عبد الله الطالبي:

- ‌الفصل الثاني: إسهام المسلمين في تطوير الكتابة من منطلق عربي

- ‌عبد الحميد بن يحيى:

- ‌عبد الله بن المقفع وتصانيفه

- ‌الفصل الثالث: مسيرة الكتابة العربية كأداة للتأليف:

- ‌الفصل الرابع: مصادر النثر العربي

- ‌الباب الثالث: رواد التأليف الأدبي غير المتخصص

- ‌الفصل الأول: التأليف يبدأ شاباًَ بغير طفولة

- ‌الفصل الثاني: المفضل الضبي:

- ‌الفصل الثالث: النضر بن شميل

- ‌الفلصل الرابع: ابن الكلبي

- ‌الفصل الخامس: أبو عبيدة:

- ‌الفصل السادس: الأصمعي

- ‌الفصل السابع: الهيثم بن عدي:

- ‌الفصل الثامن: المدائني:

- ‌الباب الرابع: التأليف الأدبي المنهجي

- ‌الفصل الأول: أبو عثمان الجاحظ

- ‌الفصل الثاني: ابن قتيبة الدينوري:

- ‌الفصل الثالث: أبو حنيفة الدينوري:

- ‌الفصل الرابع: أبو العباس المبرِّد

- ‌الفصل الخامس: أبو العباس ثعلب:

- ‌الفصل السادس: أحمد بن أبي طاهر "ابن طيفور

- ‌الفصل السابع: أبو بكر الصولي

- ‌الفصل الثامن: المرزباني

- ‌الفصل التاسع: أبو منصور الثعالبي

- ‌الباب الخامس: العقد الفريد والأغاني

- ‌الفصل الأول: أحمد بن عبد ربه "والعقد الفريد

- ‌مدخل

- ‌ العقد الفريد:

- ‌الفصل الثاني: أبو الفرج الأصفهاني والأغاني

- ‌كتاب الأغاني

- ‌مؤلفات أبي الفرج:

- ‌قيمة كتاب الأغاني ومنهجه:

- ‌مختصرات الأغاني:

- ‌الباب السادس: كتب الأمالي:

- ‌الفصل الأول: نشأة الأمالي

- ‌الفصل الثاني: مجالس ثعلب

- ‌الفصل الثالث: أمالي اليزيدي

- ‌الفصل الرابع: أمالي القالي

- ‌مدخل

- ‌ذيل الأمالي والنوادر:

- ‌الفصل الخامس: كتاب الإمتاع والمؤانسة:

- ‌الفصل السادس: أمالي الشريف المرتضى:

- ‌الفصل السابع: أمالي ابن الشجري:

- ‌الباب السابع: طبقات الشعراء

- ‌الفصل الأول: طبقات ابن سلام الجمحي

- ‌مدخل

- ‌طبقات الشعراء لابن سلام الجمحي:

- ‌الفصل الثاني: الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌الفصل الثالث: طبقات الشعراء لابن المعتز:

- ‌الفصل الرابع: معجم الشعراء للمرزباني:

- ‌الفصل الخامس: بقية الطبقات حسب التدرج الزمني:

- ‌الباب الثامن: الاختيارات الشعرية والحماسات

- ‌الفصل الأول: المراحل الأولى في الاختيارات

- ‌السموط أو المعلقات:

- ‌المفضليات:

- ‌الأصمعيات:

- ‌جمهرة أشعار العرب

- ‌ شعر القبائل:

- ‌شعر الهذليين:

- ‌الفصل الثاني: كتب الحماسة

- ‌مدخل

- ‌حماسة أبي تمام:

- ‌ حماسة البحتري

- ‌ حماسة الخالديين "الأشباه والنظائر

- ‌ الحماسة الشجرية

- ‌ الحماسة البصرية:

- ‌الباب التاسع: كتب التراجم

- ‌الفصل الأول: الفهرست لابن النديم

- ‌مدخل

- ‌الفهرست لابن النديم

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الثاني:‌‌ تاريخ بغدادللخطيب البغدادي:

- ‌ تاريخ بغداد

- ‌منهج كتاب تاريخ بغداد:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ معجم الأدباءلياقوت الرومي:

- ‌ معجم الأدباء

- ‌منهج ياقوت في معجم الأدباء:

- ‌الفصل الرابع: وفيات الأعيان

- ‌وفيات الأعيان، وأنباء أبناء الزمان:

- ‌فوات الوفيات:

- ‌الوافي بالوفيات

- ‌منهج الكتاب:

- ‌الفصل الخامس: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر

- ‌مدخل

- ‌منهج "خلاصة الأثر

- ‌الباب العاشر: التأليف والمؤلفون في التراث الأدبي الأندلسي:

- ‌الفصل الأول: نشأة التأليف عن الأندلس:

- ‌الفصل الثاني: بداية التأليف عن الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌قلائد العقيان، ومطمح الأنفس

- ‌قلائد العقيان:

- ‌مطمح الأنفس ومسرح التأنس

- ‌الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:

- ‌ملامح كتاب "الذخيرة" ومنهجه:

- ‌التعاون والتعاقب في تأليف كتاب واحد:

- ‌منهج "المغرب" وخصائصه:

- ‌الفصل الرابع: مؤلفات علي بن موسى بن سعيد:

- ‌رايات المبرزين، القدح المعلى، الغصون اليانعة:

- ‌الفصل الخامس: كتب التراجم في الأندلس:

- ‌كتب التراجم لأدباء الأندلس

- ‌سلسة كتب تاريخ علماء الأندلس والصلة وتكملة الصلة

- ‌المطرب في أشعار أهل المغرب:

- ‌الفصل السادس:‌‌ لسان الدينبن الخطيب والكتيبة الكامنة

- ‌ لسان الدين

- ‌منهج الكتيبة الكامنة:

- ‌الفصل السابع: كتب تاريخية في خدمة الأدب الأندلسي

- ‌مدخل

- ‌نقط العروس في أخبار بني أمية بالأندلس:

- ‌ المقتبس في أخبار الأندلس:

- ‌ تاريخ المن بالإمامة:

- ‌ المعجب في تلخيص أخبار المغرب:

- ‌ الحلّة السِّيراء:

- ‌ البيان المُغرب في أخبار المَغرب:

- ‌ الذيل والتكملة لكتابي الموصل والصلة:

- ‌الفصل الثامن: المشارقة والدراسات الأدبية الأندلسية

- ‌ المشارقة والأدب الأندلسي:

- ‌ المقري ونفح الطيب:

- ‌ منهج نفح الطيب وموضوعاته:

- ‌الباب الحادي عشر: الموسوعات العربية

- ‌الفصل الأول:‌‌ ظهور الموسوعة العربيةوالعصر المملوكي

- ‌ ظهور الموسوعة العربية

- ‌الموسوعات والعصر المملوكي:

- ‌الفصل الثاني: الموسوعات المملوكية وكتابها:

- ‌ابن منظور ولسان العرب:

- ‌النويري ونهاية الأرب:

- ‌صلاح الدين الصفدي، وابن شاكر الكتبي:

- ‌ابن فضل العمري ومسالك الأبصار

- ‌القلقشندي وصبح الأعشى:

- ‌المقريزي ومؤلفاته:

- ‌ابن حجر ومؤلفاته:

- ‌ابن تغري بردي ومؤلفاته:

- ‌السخاوي وكتبه:

- ‌الفصل الثالث:‌‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكيبواكير الموسوعات:

- ‌ موسوعات ما قبل العصر المملوكي

- ‌بواكير الموسوعات:

- ‌المراجع

- ‌محتويات الكتاب

الفصل: النوع من التفسير هو التفسير بالمأثور. ولكن اتجاهًا آخر في

النوع من التفسير هو التفسير بالمأثور. ولكن اتجاهًا آخر في نطاق التفسير عند جانب من علماء المسلمين وهو التفسير بالرأي، وكان المفسرون الذين اتخذوا هذا النهج طريقًا يعتمدون على عقولهم مع إتقانهم العربية وعلومها والحديث وأحكامه، فضلًا عن عدم الشذوذ عن روح التفسير المأثور.

هذا وقد ند عن هذا السبيل بعض من عرضوا للتفسير بغير عدة من روح الكتاب العزيز والسنة واللغة والإلمام بالأحداث المهمة التي تساعد على فهم القرآن مثل ابن جريج والسدي ومقاتل بن سليمان. ولقد تأثر هذا الأخير ببعض الإسرائيليات التي هي بعيدة كل البعد عن المقصد القرآني، هذا وإن عددًا آخر من الذين أثرت عنهم تفاسير لم تصل إلينا لحسن الحظ قد تورطوا فيما تورط فيه مقاتل بن سليمان من تأثر بالآراء اليهودية والنصرانية التي لم تتفق مع المعنى القرآني، ومن بين هؤلاء المفسرين محمد بن إسحاق ووهب بن منبه وكعب الأحبار.

على أنه يمكن القول بأن أول من فسر القرآن تفسيرًا أمينًا، هو يحيى بن زياد بن عبد الله ابن منظور المشهور بالفراء، إمام الكوفيين الذي كان يلقب بأمير المؤمنين في النحو والمتوفى سنة 207 هـ عن ثلاثة وستين عامًا، وكان المأمون قد اختاره لعلمه وفضله ودينه مؤدبًا لولديه. والتفسير الذي نقصده هو كتاب "معاني القرآن"1 ثم تتابع بعد ذلك المفسرون بمدارسهم العديدة ومناهجهم المتباينة، فكان أشهر مفسري المأثور ابن جرير الطبري وأبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي، والقرطبي، وأشهر المفسرين بالرأي مفسرو المعتزلة ويمثلهم الزمخشري، والشيعة ويمثلهم الطبرسي.

ص: 33

‌تدوين الحديث:

كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو المصدر الثاني للعقيدة الإسلامية بعد القرآن الكريم، وتدوينه أمر من الأهمية بمكان؛ لأنه يمثل الناحية التطبيقية للعقيدة والشريعة، ومن هنا فقد فطن بعض الصحابة إلى ذلك وأخذوا يدونونه من تلقاء أنفسهم، وكان على رأس الصحابة الذين دونوا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، وهو في ذلك قد قصد إلى الحفظ قصدًا، أو قصد إلى التسجيل تمهيدًا للرواية عنه كاتبًا أو حافظًا.

وكان أبو هريرة المعروف بحفظه لأحاديث رسول الله وروايتها المشهور يشهد لعبد الله

1 انظر وفيات الأعيان مادة يحيى بن زياد ومعجم الأدباء "7/ 276" والفهرست "ص 105".

ص: 33

ابن عمرو بن العاص، فيقول: ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب.

ومعنى ذلك أن كبير رواة الحديث على عهد الرسول وبعده وهو عبد الله بن عمرو، ويأتي من بعده أبو هريرة وسائر الصحابة وأهل بيت الرسول.

ولما كان الحديث الشريف هو المكمل للأحكام التي لم تأتِ صريحة في القرآن الكريم، ولما كان يمثل الناحية التطبيقية في الدين، فقد كان الاهتمام به وبكتابته أمرًا على جانب كبير من الأهمية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابته بل إنه قال ما معناه: لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، لقد اقتضت حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا شيء جدير بالكتابة والتسجيل إلا كتاب الله سبحانه تعزيزًا لقدره وتكريمًا لشأنه، وربما خطر للرسول صلى الله عليه وسلم أنه بتدوين أحاديثه ربما وقع بعض الجهلاء في الخلط بين القرآن والحديث، وإن كان ذلك أمرًا بعيدًا كل البعد؛ لأن للصيغة الإلهية في القرآن الكريم بيانها وإعجازها وتميزها الذي لا يمكن أن يجعل هناك شبهة خلط بين القرآن الكتاب الإلهي، والحديث القول النبوي الإنساني، وإن كان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.

لكن بعض الأحكام التي لم تفصل في القرآن الكريم قد أوقعت الصحابة والخلفاء الراشدين في مواقف لم يكن الخروج منها والحكم فيها من اليسر بمكان، فعن الخمر مثلًا تكون صيغة التحريم القرآنية في نطاق الآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. وفي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} 2. أما مقدار التحريم وكيفيته وهل هو تحريم كلي أو تحريم جزئي فإن ذلك لم يرد تفصيلًا في الكتاب العزيز وهناك يلجأ الحكام والفقهاء إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيجدون فيه الملجأ والعاصم وفصل الخطاب في الحديث الشريف: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وبذلك يقطع الشك باليقين ويصدر الحكم واضحًا لا لبس فيه ولا غموض.

ومثال آخر يتعلق بالمواريث، وآية المواريث في القرآن الكريم من التفضيل بمكان الكتاب العزيز3:{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}

إلى قوله تعالى

1 سورة المائدة: الآية "90".

2 البقرة: الآية "219".

3 النساء: الآيتان "11، 12".

ص: 34

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم} ، ولكن جدة تأتي إلى الخليفة أبي بكر وتقول له: إن لي حقًّا في مال حفيد لي. فأجابها أبو بكر: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك شيئًا، وسأل أبو بكر في ذلك بعض الصحابة، فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله أعطاها السدس، ولكن أبا بكر مع ثقته في المغيرة أراد أن يوثق هذا القول الذي سوف يصير في ما بعد حكمًا ودستورًا، فيسأل المغيرة: ومن سمع لك معك؟ فيشهد معه محمد بن مسلمة، حينئذ أمر أبو بكر بإعطاء المرأة سدس تركة حفيدها1.

إن الأحاديث الشريفة إذن من أهمية الجمع والتدوين بمكان، لقد كان عدد من الصحابة يحفظون الحديث ولا يروونه ولكنهم لم يكتبوه امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأم المؤمنين السيدة عائشة بطبيعة الحال، غير أن أكثرهم حفظًا ورواية كان أبا هريرة الذي روى ما يزيد على خمسة آلاف حديث، ويليه من حيث العدد ما روته أم المؤمنين عائشة التي روت ما يزيد قليلًا على ألفين ومئتي حديث.

ولكن عدم تدوين الحديث على عهد رسول الله أو بعد وفاته بقليل أتاح الفرصة لبعض الأفراد والفئات أن تضع أحاديث تخدم بها فكرة أجنبية أو مذهبًا سياسيًّا أو تبتغي من ورائه فسادًا في الدين وتنسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أغلب هؤلاء كان يبغي من وراء وضع الأحاديث الدس على الإسلام، وبعضهم لم يكن حسن إسلامهم، بل كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، فمن هؤلاء على سبيل المثال عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان متهمًا بالمانوية، وكان من الخبث بحيث يخترع للأحاديث التي يزيفها على الرسول أسانيد يغتر بها غير المتفقهين العلماء، وكلها محشوة بالضلالات ملأى بما يناقض جوهر الإسلام، لقد اعترف عبد الكريم هذا عندما أخذ لتضرب عنقه جزاء تزييفه بأنه وضع أربعة آلاف حديث حلل فيها ما شاء وحرم فيها ما شاء2، وهناك فئة أخرى من واضعي الأحاديث التي تحض على العبادات وفعل الخير وتنهى عن المنكر وفعل الشر، وقد ظنوا بذلك أنهم يقدمون للدين والأخلاق قيمًا ومعايير، وأنهم يضعون الناس على طريق الصواب. وهؤلاء وإن كان خطرهم لا يساوي خطر سابقيهم إلا أنهم -مهما كان غرضهم نبيلًا- مزيفون كاذبون.

وهناك أيضًا الفرق السياسية التي خاصم بعضها بعضًا كبعض الأمويين وبعض الشيعة، وكلها أحاديث لا يليق بأصحابها -مهما كانت الدوافع التي تراودهم من وراء كتابتها- أن

1 تذكر الحفاظ للذهبي "1/ 2".

2 فجر الإسلام "ص 211" عن شرح مسلم الثبوت.

ص: 35

ينسبوها إلى الرسول الكريم، خاصة وأن الكثير منها يتصل بجوهر العقيدة ونقائها1.

لقد كان الخليفة عمر بن الخطاب عزم على جمع الحديث الشريف وحسن له الفكرة بعض الصحابة، ولكنه في ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهى فيه عن كتابة أحاديثه أخذ يترتب شيئًا فشيئًا إلى أن هداه قلبه إلى الإقلاع عنها قائلا: إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا ناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء2.

وإن الفكرة نفسها راودت الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز وكتب إلى الأمصار أن ينظروا إلى حديث رسول الله فيجمعوه، ولكن توجيهاته في هذا الشأن لم تنفذ. ربما لتردد القادرين على الجمع في قبولها أو لأن المنية عاجلت الخليفة فلم يتم مشروعه.

على أن مشروع جمع الحديث الشريف لا يلبث أن يصبح حقيقة واقعة حين يقوم محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري المتوفى سنة124هـ بأول محاولة لتدوين الحديث3. وقد كان أهلًا لذلك فقد كان يحفظ ألفين ومائتي حديث، وكان عمرو بن دينار ينكر فضله أول الأمر فلما أن رآه، قال: والله ما رأيت مثل هذا الفتى القرشي قط4. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب فإنكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسنة الماضية منه. ولقد صدق عمر بن عبد العزيز، فإن أكثر من إمام جليل قد روى عن ابن شهاب الزهري، مثل مالك وسفيان الثوري.

ثم تأخذ فكرة جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شكلها النهائي حين يرى المسلمون أن المصدر الثاني للتشريع واجب الجمع مهما كانت العقبات التي تعترض طريقه، فيتوفر الإمام الجليل مالك بن أنس 93 - 179هـ على جمعه في كتابه "الموطأ" في المدينة، ويقدم على الجهد نفسه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج في مكة 150 هـ، وعبد الرحمن الأوزاعي في الشام 183هـ، وسفيان الثوري في الكوفة 161هـ، وحماد بن سلمة بن دينار في البصرة 176 هـ. إن كل هذه الجهود تتم في القرن الثاني للهجرة وإن كان الرجال موزعين في الأمصار متفرقين في الأقطار، حسبما رأينا، غير أنهم عاشوا في الفترة الزمنية نفسها وعاصر بعضهم بعضًا.

وفي الثلث الأخير من القرن الثاني حتى العام الأربعين من القرن الثالث 241، عاش

1 راجع فكر الإسلام "ص 212-215" ففيه مزيد من التفصيل والتمثيل.

2 فجر الإسلام "221".

3 الأعلام مادة محمد بن مسلم الزهري.

4 وفيات الأعيان "4/ 177".

ص: 36

الإمام أحمد بن حنبل الذي توفر طوال حياته على جمع الحديث الشريف فصنف كتابه الشهير المسند يضم حوالي ثلاثين ألف حديث، انتقاها من سبعمائة وخمسين ألف حديث، أثبت ما صح له منها، وحجب ما لم يثق في نسبته إلى رسول الله1.

ثم يلمع في أفق المتوفرين على جمع الحديث الشريف الإمامان الجليلان: محمد بن إسماعيل البخاري194-256هـ ومسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري204-261هـ، عاش الأول في بخارى ومات بالقرب من سمرقند في مشرق الوطن الإسلامي الذي يعيش في عصرنا هذا تحت الحكم الروسي، وعاش الثاني في نيسابور في إيران وتوفي في إحدى ضواحيها. وكلاهما صاحب "صحيح الحديث" الذي يحمل اسمه، وهما أكثر كتب الأحاديث النبوية الشريفة ثقة عند جمهرة المسلمين.

وتتسع دائرة جمع الأحاديث وتحقيقها فتظهر كتب أخرى أربعة كبيرة في السنن هي: سنن محمد بن يزيد بن ماجه المتوفى 273هـ، وسنن أبي داود السجستاني المتوفى 275هـ وسنن أبي عيسى محمد الترمذي 287هـ، وسنن أحمد بن علي النسائي المتوفى 303 هـ. وهذه الكتب الأخيرة ابتداء من صحيح البخاري وانتهاء بسنن النسائي لها في قلوب جمهرة المسلمين ثقة مطلقة واحترام كبير بحيث أطلق عليها تسمية تجمعها بعنوان الكتب الستة، هذا وإن جمع الحديث وتحقيقه وتنقيته من المدسوس أو المردود أو المدلس أو الضعيف أمر من المشقة والجهد بمكان، فكل رجال الحديث طوفوا البلدان الإسلامية طلبًا للاستماع إلى الثقات من الحفاظ. فالإمام أحمد يقول في مقدمة المسند: إن هذا الكتاب قد جمعته من سبعمائة وخمسين ألف حديث فيما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان فيه وإلا ليس بحجة، وكان الإمام أحمد يشد الرحال إلى البلد النائي البعيد ليسمع حديثين أو ثلاثة.

والإمام البخاري انتقى الأحاديث التي ضمها الصحيح وقدرها سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون من حوالي ثلاثمائة ألف حديث جمعها أثناء تطوافه في البلدان الإسلامية، فزار خراسان، والعراق، ومصر، والشام، وسمع من نحو ألف شيخ2، وليس من شك في أنه انتفع كثيرًا من جهد الإمام أحمد بن حنبل في المسند.

وقد لاحظ ابن خلدون في دراسته لصحيح البخاري أن عددًا كبيرًا من الأحاديث قد تكرر فيه، وعلل ذلك بأن الإمام البخاري خرج الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك.

1 راجع كتابنا "إسلام بلا مذاهب" صفحة "550".

2 تذكرة الحفاظ "2/ 122".

ص: 37

الباب الذي تضمنه الحديث، مثل باب الوضوء، باب الصلاة: وهكذا جاء التكرار الذي وصل إلى نحو ثلاثة آلاف حديث1.

ولقد قام مسلم بن الحجاج بجهد مماثل لذلك الذي قام به البخاري، فإن مسلمًا تتلمذ على الإمام ابن حنبل وانتفع منه تمامًا كما فعل البخاري. هذا وقد التقى العالمان الجليلان في نيسابور حين زيارة البخاري لها، وكان مسلم يناضل عن البخاري ويقف إلى جانبه ويحامي عنه عندما تعرض هذا الأخير لمحنة إبان إقامته في نيسابور، وأما الرحلات في سبيل جمع الحديث فقد زار مسلم بغداد أكثر من مرة وطوف في العراق، والشام ومصر والحجاز، وجمع ثلاثمائة ألف حديث سجل منها اثني عشر ألفًا فقط في مجهود استمر خمس عشرة سنة.

لقد اهتم المسلمون بتدوين الحديث اهتمامًا شديدًا، نكاد لا نقرأ سيرة لمحدث إلا ونجدها مقرونة برحلات عديدة حين يأخذ الثقات من الرواة بعضهم عن بعض، وإذا تأكد لأحد العلماء في بلد ما أن عالمًا في بلد آخر ناء يحفظ حديثًا صحيحًا سارع فشد الرحال إليه، مهما طالت المسافة، وبعدت الشقة لكي يسمعه منه.

هذا الاهتمام بالحديث الشريف لم يقف عند حد الرحلة والرواية وحسب، بل إنه تعدى ذلك إلى وضع معايير ورتب للمحدثين والأحاديث، فهذا راوية ثقة وذاك غير ثقة والآخر مدلس والرابع وضاع وهكذا، ولقد كان لرجال الحديث مقدرة فائقة بمعرفة أقدار الرجال ومدى صدق روايتهم بحيث جعلوا منهم طبقات يفضل بعضها بعضًا.

كان للرواية قوانين وأصول علمية صحيحة بدأت في أول العهد بها سهلة ولكنها كانت في واقع الأمر من الدقة والمنطق بمكان.

كان هناك أولًا التثبت من الرواية عند أخذها وعند أدائها، وهذا خبر الجدة التي ذهبت إلى أبي بكر تطلب ميراثًا من حفيد لها كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم لها به -وقد مر الخبر قبل قليل- فيطلب منها أبو بكر شاهدًا على ذلك، فيتقدم للشهادة بصحة الخبر المغيرة بن شعبة، ولكن أبا بكر يريد أن يثبت مع عدم شكه في المغيرة ويطلب شاهدًا آخر، فيتقدم محمد بن سلمة للشهادة بتأييد الخبر وتأكيده.

وكان الإمام علي بن أبي طالب شديد التحري في الأخذ بالأحاديث التي لم يكن سمعها من الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه كان يستحلف من يحدثه بالحديث2.

1 المقدمة "ص387" ط بيروت.

2 تذكرة الحفاظ "1/ 10".

ص: 38

إن هذا الذي جرى من أبي بكر وعلي هو ما يسمى بالتثبت في الرواية عند أخذها أو عند أدائها.

ومن مناهج استخلاص صحيح الحديث من سقيمه ما أطلق عليه نقد المرويات وذلك بعرض الحديث على نصوص الدين وقواعده، فإن وجد مخالفًا لشيء منها رد الحديث ولم يعمل به. فمن ذلك أن أم المؤمنين عائشة سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال:"إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.

وإذا ما حدث شك في حديث بعينه وبخاصة عندما كثر الوضع والتدليس في الأحاديث، أخذ المسلمون الأوائل يحتاطون لذلك بوسائل دقيقة منطقية عقلية، منها، على سبيل المثال، أن يعتني المحدث بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة والتدقيق في ذلك بعد أن كان الأمر قبل ذلك يعتمد على الترجيح، ومنها الرحلة في طلب الحديث بهدف سماعه من الراوي الأصلي والتثبت منه مهما كانت مشقة الرحلة. وقد سلف القول: إن كل المحدثين كبارًا وصغارًا ارتحلوا في سبيل جمع الحديث ومنها معرفة ما إذا كان الحديث ضعيفًا أو موضوعًا وذلك بعرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والإتقان، فحيث لم يجدوا له موافقًا على حديثه أو كان الأغلب في أحاديثه على نحو من المطابقة ردوا أحاديثه وتركوها. وهكذا لم يكد ينقضي القرن الأول إلا وقد أصبحت للحديث وجمعه وتمييزه بعض الأصول وعرف منه الحديث المرفوع، والحديث الموقوف، والحديث المتصل، والحديث المرسل2.

ويمضي علم الحديث أو علم مصطلح الحديث في النمو والازدهار والدقة والمنهجية بحيث لا يكاد القرن الثالث ينخرط في سلك عقود الزمان حتى تكون مجموعات كتب الحديث نصًّا، وعلومه مصطلحًا، قد توفرت أمام محبي علم الحديث الشريف، وقد وضع لها رجاله من أصول المناهج ما لم يسبقوا به في تاريخ العلوم عند أمة من الأمم السابقة ولا غيرها من الأمم اللاحقة، الأمر الذي أذهل أساتذة المنهج في الغرب الأوروبي الذين لم تخل صفوفهم من متحيز أو متحامل، الأمر الذي دفع بهذا الفريق الأخير حين لم يجد مأخذًا على منهج الرواية إلا أن يتهموا رجال الحديث -ظلمًا وجهلًا- بأن اهتمامهم

1 علوم الحديث لابن الصلاح "ص 5": المقدمة.

2 المصدر السابق "ص10 المقدمة.

ص: 39

انصب على المنهج والرواية دون المتن والنص، وهم في ذلك أيضًا إما متحاملون وإما جاهلون، حال عجزهم عن فهم النصوص ومتابعتها بينهم وبين أن يصدروا أحكامًا سليمة تتمشى مع طبيعة أرقى منهج علمي لتوثيق رواية بعينها عند أمة من الأمم حتى يومنا هذا.

لقد كان علماء الحديث من الحذق والذكاء والعبقرية وسعة المعرفة وعمق الإدراك بحيث قسموا الأحاديث من جهة قوتها وضعفها بعد دراستها دراسة واعية إلى مراتب عديدة، لكل مرتبة صفتها وتعريفها وأمثلتها، فمن هذه الرتب: الصحيح، الحسن، الضعيف، المسند، المتصل، المرفوع، الموقوف المقطوع، المرسل، المنقطع، المعضل، المدلس، المعلل، المضطرب، المدرج، الموضوع، المقلوب، المشهور، الغريب، والعزيز، المسلسل، الناسخ والمنسوخ، المصحف، المختلف، المؤتلف والمختلف، المتفق والمفترق وغير ذلك من الرتب التي توسع في التعريف بها وأكثر من التمثل لها رجال مصطلح الحديث1.

ومن دراسة مراتب الحديث نفسه ينتقل علماء الحديث إلى دراسة رواية الحديث، فيذكرون صفة من تقبيل روايته، معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وسائر وجوه الأخذ والتحمل، معرفة كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده، معرفة كيفية رواية الحديث وشرط أدائه وما يتعلق بذلك، معرفة آداب المحدث، معرفة أداب طالب الحديث، معرفة الإسناد العالي والنازل.

ومن دراسة الرواية يتسلسل منهج أساتذة الحديث إلى تناول المحدثين أنفسهم ورتبهم وأجناسهم وصلاتهم بعضهم ببعض، وطبقاتهم وأوطانهم وأعمارهم على هذا النحو الممتع من المنهج: معرفة الصحابة رضي الله عنهم، معرفة التابعين رضي الله عنهم، معرفة الأكابر من الرواة عن الأصاغر، معرفة الأخوة والأخوات من العلماء والرواة، معرفة رواية الآباء عن الأبناء معرفة رواية الأبناء عن الآباء، معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباعد ما بين وفاتيهما، معرفة من لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، معرفة من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة، معرفة المفردات من أسماء الصحابة والرواة والعلماء، معرفة الأسماء والكنى، معرفة كنى المعروفين بالأسماء دون الكنى، معرفة ألقاب المحدثين، معرفة الثقات والضعاف من الرواة، معرفة من خلط في آخر عمره من الثقات، معرفة طبقات الرواة والعلماء، معرفة الموالي من الرواة والعلماء، معرفة أوطان الرواة وبلدانهم.

هكذا يتناول رجال الحديث موضوعهم في نطاق هذا المنهج الدقيق الذي يذهل

1 ابن الصلاح في صفحات عديدة يمكن الرجوع إليها في فهرست الكتاب.

ص: 40