الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: فجر التحرك العقلي العربي
الفصل الأول: فجر الحركة العلمية
…
الباب الأول: فجر التحرك العقلي
الفصل الأول: فجر الحركة العلمية
ذكرنا قبل قليل أن العرب لم تكن أمة كاتبة، والذي لا يكتب لا يملك كتابًا، والذين لا يملكون كتبًا يكونون بعيدين عن نطاق الثقافة التي تؤهلهم للإنتاج العقلي الذي يسموا بهم على غيرهم من الأمم درجات.
لقد جاء الإسلام وليس في قريش -وهي أكثر القبائل تمدنًا- غير سبعة عشر فردًا يكتبون، هم على وجه التحديد: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة وطلحة، وأبو سفيان بن حرب، ويزيد ومعاوية ابناه، وأبو حذيفة بن عتبة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وجهيم بن الصلت، وعثمان بن عفان.
ومن النساء الكاتبات كانت حفصة وأم كلثوم من أمهات المؤمنين، كما كانت عائشة وأم سلمة تقرآن المصحف ولا تكتبان.
تلك كانت الشخصيات الكاتبة والقارئة في أكثر المجتمعات العربية أهمية قبل الإسلام وهو المجتمع المكي.
فإذا انتقلنا إلى الأوس والخزرج، وهما القبيلتان اللتان ناصرتا الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب وكانتا من سعة الأفق ورحابة التفكير بحيث رحب شعباهما بالإسلام قبل أن تكون مدينتهما دارًا للهجرة، هاتان القبيلتان لم يكن بينهما ممن يستطيعون الكتابة غير أحد عشر فردًا.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب -وذلك في حد ذاته معجزة كبرى- فهو في حاجة إلى من يكتب له الوحي، فكان أول من كتب ما ينزل على الرسول الكريم من الآيات البينات في المدينة أبي بن كعب الأنصاري، فإذا غاب استدعى الرسول زيد بن ثابت الأنصاري. ثم
توالى على كتابة الوحي عدد غير قليل من الصحابة، منهم عثمان بن عفان، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ثم حنظلة بن الربيع الذي عرف من أجل ذلك بحنظلة الكاتب، على أن كتابة هذا الرعيل الأول من الكاتبين لم تكن تخلو من بعض الأخطاء الإملائية التي لم تكن من الجسامة بحيث تفسد التلاوة.
إن الرسالة السامية الجديدة تؤمن بالعلم، وتمهد لتنوير القلوب والعقول، وإن أولى آيات كتابها العزيز لفظ اقرأ وهي تمجد القلم وما يسطر:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} 1 وهي تخاطب العقل وتطلب إليه أن يتأمل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 2 وتدفع به إلى يتدبر، {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 3 ثم تسوقه وتشوقه إلى متابعة أحداث الكون المعجزة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} 4 {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} 5 {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 6.
كان طبيعيًّا أن يهدف الإنسان إلى المعرفة في نور الدين الجديد، وتحصيل المعرفة محتاج إلى القراءة والكتابة، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعلم الكتابة حتى إنه كان بعد غزوة بدر يطلق سراح الأسير إذا علم عشرة من صبيان المدينة الكتابة والقراءة.
بل من المأثور أن الرسول كان يدعو إلى تعلم اللغات الأجنبية، فقد قال لزيد بن ثابت:"تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي" كما أمره بتعلم السريانية فتعلمها.
وفي نطاق هذه التوجيهات، وبسبب انتشار الإسلام، ما فتئ الداخلون في الدين الجديد من غير العرب يتعلمون العربية ليتعرفوا إلى أصول دينهم، وانتشرت اللغة العربية بينهم وانتشر معها تعلم الكتابة والقراءة، وتبع ذلك تعلم النحو النظر في الأحكام العامة من زواج وطلاق ومعاملات ونظم عامة، فبدأت المعرفة توطد أسسها وتعلي بنيانها، وأمكن
1 سورة القلم الآية "1".
2 سورة الطارق الآية "5".
3 سورة عبس الآية "24-30".
4 سورة آل عمران الآية "190".
5 سورة الروم الآية "22".
6 سورة يس الآية "40".
قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها وسعى إلى تعزيزها ونشرها، فكان لا بد لذلك من خلق حركتين أساسيتين هما: الحركة الدينية والحركة الثقافية.
فأما الحركة الدينية فقد كانت أوسع الحركات، إذ إنها تضم في عطفيها علوم القرآن والحديث والفقه من معاملات وعبادات وأحكام.
لقد بدأت هذه الحركة بالقرآن الكريم، ثم بالحديث الشريف جمعًا وفهمًا وشرحًا وتفسيرًا وتأويلًا. وقد كان على رأس هذه الحركة في أول أمرها عدد من علماء الصحابة الذين كانوا على مرتبة سامية من العلم والفطنة، كان أشهرهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت وأم المؤمنين السيدة عائشة، وقد يضاف إليهم معاذ وأبو الدرداء، على أن أوفرهم علمًا فيما تكاد تجمع عليه الروايات علي وعبد الله بن عباس 1.
على أن الصحابة ينقسمون من حيث أقدارهم العلمية إلى طبقات متفاوتة، وقد ألفت في ذلك كتب كثيرة لتضع كل صحابي في طبقته أو درجته، ولعل أشهر الكتب التي اهتمت بالكتابة عن الصحابة وإيفاء كل واحد منهم قدره وإعطائه حقه هي "الطبقات الكبرى" لابن سعد و "أسد الغابة" وغيرها.
فمثلًا عند الكلام على ابن عباس فإنه يوصف بكونه أكثر الصحابة قدرة على التأويل والفتيا وما ورد في تفسير القرآن وأسباب النزول وحساب الفرائض والمغازي، كما أنه على إلمام بمعرفة الكتب الدينية الأخرى كالتوراة والإنجيل، وهو إلى ذلك عالم بأنساب العرب وأيامهم.
وإذا كانت هذه ثقافة عبد الله بن عباس، فإنه يقابله في الناحية الأخرى عبد الله بن عمر الذي يعتبر أكثر الصحابة قدرة على جمع الحديث ومعرفته وتمييزه وتصحيحه.
فإذا ما اتصلت الأمور بالقضاء فإن أكبر عقليتين قضائيتين بين الصحابة كانتا ممثلتين في عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقد بلغ علي في ذلك مبلغًا لم يصل إليه أحد من الصحابة، حتى إنه كان حلال المشاكل مذلل المعضلات، الأمر الذي نتج عنه قول الحكمة المأثورة حين تتعقد الأمور:"قضية ولا أبا حسن لها"، وأبو حسن كنية الإمام علي، وكان يحلو للصحابة أن ينادوه بها تحببًا وتوقيرًا.
إن عليًّا يصف الصحابة ويحدد القدرة العلمية لكثير منهم، فيجعل قدرة عبد الله بن
1 طبقات ابن سعد "2/ 101".
مسعود في القرآن والسنة، ويقول عن أبي موسى إنه صبغ في العلم ثم خرج منه، ويقول عن عمار بن ياسر إنه مؤمن نسي وإذا ذكر ذكر، ويقول عن حذيفة إنه أعلم أصحاب رسول الله بالمنافقين، ويقول عن أبي ذر إنه وعى علمًا ثم عجز عنه، ويقول عن سلمان: أدرك العلم الأول والآخر، بحر لا ينزح قعره، منا أهل البيت1.
وسئل علي عن نفسه، وهو مدينة العلم، فماذا تنتظر منه أن يقول عن نفسه، إنه يقول بكل لباقة وتواضع: كنت إذا سئلت أعطيت وإذا سكت ابتدئت.
لقد كان لا بد للمسلمين في البلاد الجديدة المفتوحة من معلمين ومرشدين، فكان طبيعيًّا أن يتفرق الصحابة في الأمصار معلمين ومرشدين ومثقفين، وكان عمر حينما يبعث صحابيًّا إلى بلد ما فإنه كان يزوده بخطاب يقدمه به إلى الناس الذين ربما وجدت كثرة بينهم لا تعرف قدره. وكان هذا الخطاب من الخليفة بمثابة تقديم وتكريم للصحابي المبعوث، فحينما بعث عمر عبد الله بن مسعود إلى الكوفة، وهو من خيرة الصحابة علمًا وفضلًا، بعث الخليفة إلى أهل الكوفة يقول لهم: إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا، وآثرتكم به على نفسي فخذوا عنه.
أرأيت إيجازًا أبلغ من هذا الإيجاز وتكريمًا أطيب من هذا التكريم؟ إن أمير المؤمنين عمر -وهو من هو- يقول لأهل الكوفة في مقام تكريم عبد الله بن مسعود: لقد آثرتكم به على نفسي، إن المسألة في الواقع لا تكمن في تكريم ابن مسعود بقدر ما تهدف إلى تكريم العلم نفسه، أما وأن عبد الله بن مسعود من العلماء، فهو لعلمه وفضله جدير بالإجلال والتكريم.
لقد توزع الصحابة في الأمصار معلمين للناس ومستشارين وحكامًا ومفتين، ثم كان لكل صحابي مدرسة من مريديه، وهؤلاء المريدون هم التابعون، وكان للتابعين مريدون أيضًا فعرفوا بتابعي التابعين، وهكذا اتسع نطاق الثقافة الدينية ورحبت آفاقها على يد هؤلاء وأولئك في هذا المصر أو ذاك، فنشأت نواة الحركة العلمية العقلية بعد جيلين أو ثلاثة من جيل الصحابة والتابعين.
وواضح أن علماء الدين كانوا جميعًا -في أول الأمر- من العرب، غير أن الإسلام لا يفرق بين عربي وغير عربي، والعلم ملك للجميع، يسموا قدر المرء بقدر ما يغترف من علم وبقدر ما يتحلى به من مكرمات، وكان طبيعيًّا أن يقدم الموالي على التعلم، فلا تلبث طبيعة العلم أن تجعل رءوس العلماء في الأمصار الإسلامية منهم.
1 فجر الإسلام "ص 150".
ففي مكة نجد مجاهد بن جبر وكان مولى ابن عباس، وعطاء بن رباح مولى فهر وكان أسود اللون، ولكن الإسلام الذي لا يعترف بالألوان ولا بالأحساب وضعه في مكانه الطبيعي وهو مكان العلماء، وأبا الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مولى حكيم بن خزام، ولقد كان هؤلاء وهم من الموالي يجعلون العلم ميسرًا في مكة لكل طالب وكانوا مراكز إشعاع عقلي وإنعاش روحي.
فإذا نظرنا إلى الكوفة وجدنا على رأس علمائها سعيد بن جبير، وكان صاحب علم وفضل، وكان هو الآخر أسود اللون.
وكانت البصرة تتضوع علمًا وتزدان بالعلماء وكانت من أكثر الأمصار إشعاع ومنطلق تفكير وكان علماؤها أيضًا من الموالي، فمنهم محمد بن سيرين وكان أبوه من سبي ميسان وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق، هذا ولا يستطيع الخاطر إعفال الحسن البصري كبير علماء البصرة وعظيم مفكريها وسيد فقهائها وكان أبوه أيضًا من سبي ميسان ومولى لزيد بن ثابت.
فإذا ما انتقلنا إلى مصر وجدنا فيها يزيد بن حبيب مولى الأزد، وهو من أصل سوداني فأبوه من دنقله. ولقد كان يزيد مفتي أهل مصر وكبير علمائها، وهو أستاذ الليث بن سعد الإمام العالم الذي جرت بينه وبين الإمام مالك مساجلات ومكاتبات، وذهب بعض أهل الذكر إلى أن الليث كان أفقه من مالك ولكن ضيعه قومه، أي أن قومه في مصر لم يعطوه حقه، ولم يقبلوا على علمه الغزير إقبالهم على علم غيره من علماء المسلمين.
إنها ليست مصادفة أن يكون على رأس المفكرين المسلمين هذا العدد الضخم من العلماء الموالي، كما أنه ليس أيضًا من قبيل التصنع والافتعال، ولكن ذلك أمر طبيعي تمامًا؛ أن الذي يقبل على العلم من أبناء المسلمين يغض النظر عن عروبته أو مولويته -يحتل المكانة اللائقة به كواحد من أهل العلم، فالطريق مفتوح والفرصة سانحة لصاحبها أن يبرز ويلمع طالما كان لذلك أهلًا وبالاحترام جديرًا.
وتتسع الحركة العلمية الدينية بعد ذلك فتنشأ علوم القرآن من تفسير وتأويل وقراءات وتجويد، وتنشأ علوم الحديث أيضًا، ويستتبع ذلك ظهور علوم الفقه والتوحيد والأصول، وترتبط بها علوم اللغة من نحو وصرف، ثم علوم الأخبار وهو ما يمكن أن نسميه ببداية الحركة التاريخية الأدبية.
وإذن فقد كانت الحركة في أول أمرها مستهدفة تجلية العلوم الدينية من تفسير وحديث وعلوم قرآنية وفقه وتوحيد وأصول، وهذا استتبع بدوره العناية باللغة العربية وفروعها من رواية واشتقاق ونحو وشواهد من شعر ونثر، ثم كانت مادة الأخبار والنوادر والأسماء التي
شكلت الحركة الأدبية التاريخية.
وكان من الطبيعي أن تتمايز الحركتان، فالحركة الأدبية على ما فيها من أخبار ونوادر وسير وأسماء تركز على اللغة والشعر والنثر والخطب، والحركة التاريخية على ما اهتمت به من خطب وشعر اهتمت أيضًا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء والمغازي والفتوح وسير الأقدمين وأخبارهم.
وهكذا تسير الحركة العلمية وئيدة في أول أمرها مستهلة نشاطها بالتدوين، ثم بالجمع والرصد والتصنيف والتأليف والإبداع.
على أن الأمر الجدير بالتسجيل هو أن الثورة العلمية الفكرية قد انبثقت من الصحابة أنفسهم حين نبغ غير قليل منهم في أصول المعرفة وأصبحوا أصحاب امتياز في ميادين بعينها، فقد نبغ الإمام علي في القضاء، ونبغ معاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، ونبغ زيد بن ثابت في المواريث وتقسيم الغنائم، ونبغ أبي بن كعب في قراءة القرآن.